إدلب: الرهان على أكلاف التمركز والدفاع
عامر نعيم الياس
انسحب الجيش السوري والقوة المدافعة من مدينة إدلب بشكل فاجأ الجميع من دون استثناء. الروايات تعدّدت حول الانسحاب، منها ما نُسب إلى مصدر عسكري يفسّر الانسحاب على قاعدة الهجوم العددي الكبير للمسلحين من ناحية الحدود التركية، ومنها ما نُشر في اليومين الأخيرين في الصحافة المقرّبة من حلفاء سورية حول رواية الانسحاب التي مزجت بين التفوّق العددي، والانهيار النفسي، والخلايا النائمة داخل المدينة.
انسحبت القوة المدافعة عن عاصمة المحافظة، أي جنوب المدينة، في إطار ما يسمى عملية إعادة تمركز. فيما الرأي العام لا يزال يتساءل حول مصير المدينة، هل سيكون كالرقة عاصمة «داعش» الأولى؟ هل تتحوّل إدلب وريفها الملتصق بالحدود التركية رسمياً إلى مركز إمارة «جبهة النصرة»؟ هل تُترك المدينة لعمليات تحالف أوباما أم أن للجيش السوري كلمةً أخرى؟
خلال اليومين الماضيين، اجتاحت وسائل الإعلام الرديف غير الرسمي، وصفحات التواصل الاجتماعي أنباء تبنّتها صحف ووسائل إعلامية أيضاً، عن بدء الجيش السوري عملية استعادة مدينة إدلب عبر هجوم مدعوم بغطاء ناري كثيف شمل الريف المحيط بمدينة إدلب، حيث معاقل الميليشيات الإسلامية، قبل أن تنجح بعض وحدات من القوات المسلحة في التقدم من منطقة معمل القرميد باتجاه بلدة قميناس جنوب المدينة ، ما يمهِّد الطريق أمام الجيش للتوغل في المدينة انطلاقاً من جزئها الجنوبي. وبالتزامن كان سلاح الجو قد كثَّف من غاراته الجوية، التي قدّرتها مصادر محلية بأكثر من 70 غارة، لا سيما في بنش وكفر تخاريم وكفر حايا، التي كان لها النصيب الأوفر من الاستهدافات.
وسط هذه الأنباء، لم يتم تبنّي موقف رسمي يؤشر لوجود خطة سريعة لاستعادة عاصمة المحافظة الثانية التي تخرج عن سيطرة الحكومة السورية في غضون أربع سنوات. كما أنه لم يُحدَّد جدول زمني لاستعادة المدينة، لكن الثابت الذي يمكن استنتاجه من تقاطع المعلومات، اتخاذ قرار من الدولة السورية بمنع تحويل إدلب إلى رقة ثانية، ومنع المسلّحين من التمركز فيها وتحويلها إلى منصةٍ لاستكمال تمددهم باتجاه مناطق أخرى. وهذا أمر يفسّر أهمية إدلب الاستراتيجية عكس ما حاول بعض المراقبين والمحللين السياسيين والسياسيين الإيحاء به، فالمدينة وسقوطها وعدم التحرك باتجاهها، كل ذلك يعني التالي:
ـ عاصمة جديدة لدولة خلافة «النصرة» بصيغة إمارة على الحدود التركية.
ـ فتح جبهات عدّة باتجاه نقاط تمركز الجيش السوري في وسط البلاد وغربها، فسيطرة «جيش الفتح» على إدلب المدينة من شأنها أن تهدد أماكن تمركز الجيش السوري على طريق إدلب اللاذقية وتحديداً في جسر الشغور، كما من شأنها أن تفسح في المجال للتمدد باتجاه ريف محافظة حماة واستهداف طريق إدلب حماة، من دون أن نغفل استكمال السيطرة على ما تبقى من محافظة إدلب واجتياح الفوعة وكفريا والمسطومة، هذه الأخيرة التي تعتبر النقطة الأقوى في تحصينات الجيش السوري المتبقية في المحافظة والتي استهدفت بعد أيام قليلة على سيطرة «النصرة» وحلفاءها على مدينة إدلب.
خطورة ما جرى في إدلب وتأثيره المباشر على معنويات الشارع المؤيد للدولة السورية، أدّيا إلى تسريب كيفية الانسحاب من المدينة الواقعة في شمال غرب سورية لبعض الصحف اللبنانية المرتبطة بحلفاء سورية في لبنان، لكن لقرار الانسحاب الشامل من المدينة بعداً آخر، صار أكثر وضوحاً مع التسريبات الإعلامية التي تتحدث عن بدء الهجوم لاستعادة إدلب من أيدي «النصرة»، وهو كلفة التمركز والدفاع عن المدينة، إذ إنّ الجيش السوري وفي ضوء كثافة الهجوم على المدينة قبل أسبوعين والخسائر البشرية التي تكبدها في خطوط الدفاع الأولى عن عاصمة المحافظة، اختار الانسحاب وإعادة التجمّع تمهيداً لاستنزاف المدينة على أقل تقدير، إن لم يكن قرار استعادتها قد اتخذ بعد، أو كان خاضعاً لاعتبارات سياسية وعسكرية لا علم لنا بها، فالاستنزاف وعدم السماح للقوة التي احتلت مدينة إدلب بالتمركز، يشكّلان أساس معالجة ملف إدلب، على عكس مدينة الرقة، كما أنه يقطع الطريق في المدى المنظور على أي توسيع لعمليات تحالف أوباما لتشمل مدينة إدلب، أو على الأقل يشطب هذا الرهان من دائرة حسابات الدولة السورية.
أخليت المدينة من مدنييها، حتى وسائل الإعلام الممولة خليجياً لم تستطع إبراز أيّ تجمع شعبي بعد احتلال المدينة، هو إخلاء يبدو أكثر فأكثر أنه ناجع بهدف تحميل أعباء الدفاع والتمركز والتجميع للقوّة المحتلة للمدينة تمهيداً لاستنزافها في المرحلة الأولى، بانتظتار بيان المصدر العسكري السوري الرسمي.
كاتب ومترجم سوري