الوطن في مهبّ الريح
د. سلوى الخليل الأمين
الوطن هو الحضن الطبيعي لمواطنيه، بل واحة الأمن والأمان عبر المحطات كافة، خاصة حين يربك بعثرات الدروب، إلاّ في لبنان حيث الوطن أصبح مصطلحاً خالياً من المضمون، واسماً على غير مسمّى، فالهوية اللبنانية باتت نكرة لا تغني من جوع أو مرض، وحاملها يعتبرها من القرون الغابرة، لا تصرف في المحافل الدولية والعالمية، وهذا هو الخطر الكبير الذي لم يلتفت إليه أرباب السياسة في لبنان، فهم حتى الساعة لا يلتفتون إلى معاناة المواطن وحاجاته ومشاكله. همّهم الأوحد محصور في ترتيب شؤون منازلهم الوفيرة الريش والرياش، من دون التفات إلى ما يحيط بهم من مشاكل اجتماعية وسياسية واقتصادية وتربوية وصحية خطيرة تدمّر أيّ مجتمع مهما بلغ من التقدم والرقي والثبات، فكيف بلبنان هذا الوطن الذي ابتلي بحرب أهلية مدمّرة منذ عام 1975 ما زالت نتائجها السلبية تتحكّم في مفاصل حركته السياسية والوطنية التي باتت في أجندات الدول الخارجية ورقة يلوّح بها يميناً ويساراً حين تدلهمّ الخطوب، وتتعدّد الملفات، وتصفرّ وريقاتها من كثرة الإهمال المقصود.
فأيّ وطن هذا الذي نطلب من أبنائنا عدم مغادرته إلى ديار الله الواسعة، فيما هدفهم الأول والأخير البحث عن مكان آمن لهم تحت الشمس التي تنير حياتهم المستقبلية بشعشعانية نورانية هي محصّلة نتاج عقولهم القادرة على الإبداع.
السؤال الذي يطرح على كلّ مسؤول لبناني هو: هل أحصيت عدد الشباب والعائلات الواقفة على أبواب السفارات تستجدي التأشيرة للخروج من هذا الوطن الذي لم يفلح حتى تاريخه في احتضان قدرات أبنائه وكفاءاتهم، وتأمين الأمن والأمان والعيش الكريم لموظفيه وعماله ولكلّ مواطن متمسّك بهذه الأرض الطيبة؟
ثم هل فكّروا مرة أنّ خداعهم لهذا الشعب المغلوب على أمره لن يستمرّ إلى الأبد ولات ساعة مندم؟! وهل دارت في رؤوسهم عمليات الاختلاف والمشاحنات التي يراقبها المواطن عن كثب حول استخراج النفط والغاز اللذين يشكلان ثروة حقيقية للوطن تسدّد دينه العام وتغلق أفواه الجياع وتنهي مسار تظاهرات لجنة التنسيق النقابية وأصحاب الأملاك والمستأجرين والعمال وغيرهم من المواطنين المقهورين المعذّبين بتسديد سلسلة الرتب والرواتب التي هي حق مبرم تؤمّن الوطن من الانهيار التام؟!
يجلسون على كراسي الحكم في الوزارات والإدارات الرسمية ويظنّون أنّ الكرسي ملك شائع لهم ولأنصارهم ومحازبيهم ممنوع الولوج إلى محرابه، في حين أنّ الموقع هو للشعب، والمال العام مؤتمن عليه المسؤول أياً يكن موقعه، ولذلك لا يجوز التسلّط ولا التسيّب ولا الانفلاش ولا التصرّف كأنّ الإدارة الرسمية ملكية خاصة للمحظوظين فحسب.
ثم كيف يحق لمن ولّي الأحكام أن يتصوّر أنه وحده القادر على استيعاب الأمور، ووحده يملك مقوّمات الرؤى التي تساهم في تطوير البلد وإنمائه، وكلّ وسائر المحيطين به من كادرات بشرية وكفاءات علمية ومعرفية إنما هم حاشية تستعمل عند اللزوم لمآربه ومصالحه الشخصية، بل هم مثل الصفر إلى اليسار في أجندة عمله اليومي، والسبب أنّ الله منحه حظ الوصول إلى جنة الوزارة التي أتته في غفلة من الزمن، بينما أهل الكفاءة والعقل المدرك القادر على العطاء والإبداع والتحرك لاستنهاض الوطن هم في الدرجات الدنيا، ولم يحسنوا تقديم الطاعة لمن جعلتهم الحرب اللبنانية زعماء بالصدفة.
فأيّ وطن هو هذا، وطن الطائفية والطائفيين، وطن الفساد والمفسدين، وطن السرقة الميسّرة لذوي الألقاب والمحرّمة على ذوي الدخل المحدود والمتقاعدين من موظفي الدولة الذي خدموا الوطن وأعطوه زهوة العمر الندي. وكيف يحق لواحد من المسؤولين لا نعرف من أين تكدّست خزائنه بالمال أن يتحفنا بالقول: يجب فرض ضريبة على راتب الموظف المتقاعد! يعني بصريح العبارة، هو يأمر بأن يُقال لهذا الإنسان: مت وأنت جالس!
في الدول الأوروبية الراقية مثل بلجيكا رفض موظفو الدولة رفع سنّ التقاعد إلى 67 عاماً في عام 1984، بحجة أنهم ينتظرون سنّ التقاعد لكثرة التقديمات التي توفرها الدولة لهم احتراماً لخدماتهم الجلّى التي أدوها للوطن، واعتباراً وتقديراً لسنوات عمرهم المعرّضة لأمراض الشيخوخة بعد التقاعد، وفي لبنان يحاولون بكلّ صفاقة ومن دون خجل زيادة رواتبهم العالية مع التمديد الطويل لخدماتهم والسعي إلى إنقاص رواتب المتقاعدين بدلاً من زيادتها 150 مع الإعفاء من فواتير الكهرباء والماء وخلافه من تقديمات صحية على الدولة تأمينها حتى تعمّ العدالة ويستقيم الوطن.
بلى، لم يعد الوطن وطناً، ولم نعد كلنا للوطن. أصبح الوطن مزرعة للمحظوظين ولآكلي الجبنة… وربما غداً أو بعد غد، سيصرخ كلّ مواطن لبناني قائلاً: السلام عليك يا وطني… يوم كنت وطناً حقيقياً… لقد منحتني هوية ورقية لا فائدة منها ولا تعنيني بشيء. وهنا قد توفر وزارة الخارجية والمغتربين مصاريف مؤتمراتها لمنح الجنسية لأجيال من المغتربين باتوا لا يعرفون أين هو لبنان على الخريطة العالمية، وتمنحها للمقيمين رعاية وعناية وحماية من هجرة دائمة ومستمرة.