مدارات علاقات لا بدّ منها…
خضر سعادة خرّوبي
تكتسب زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى طهران أهمية لافتة، في أعقاب «اتفاق الإطار» الذي جرى التوصل إليه بين إيران والمجموعة السداسية الدولية، كما أنها الزيارة الأولى له، بصفته رئيساً لتركيا إلى طهران. لا شكّ في أنّ ملفات المنطقة الساخنة من اليمن إلى سورية حضرت على مائدة اللقاءات التي جمعت الرئيس أردوغان بالمرشد الأعلى السيد علي خامنئي والرئيس حسن روحاني، وإن كانت الاتهامات الضمنية المتبادلة بين الطرفين في خصوص تلك الملفات تبقى أقوى من عبارات «المجاملة الدبلوماسية».
أبعد من هذه المجاملات، تتكلم الحاجات والمصالح المشتركة الاقتصادية بصوت عال عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الإيرانية ـ التركية التي غالباً ما يتم وصفها بـ «الزئبقية»، لجهة ما تتسم به من رسم دقيق لتوازنات وحدود تباينات يتقاطع فيها السياسي مع المذهبي والقومي والتاريخي. المفارقة أنّ المبادئ الأربعة الأساسية لسياسة أنقرة إزاء الشرق الأوسط التي تحدث عنها رئيس الحكومة التركية أحمد داوود أوغلو في كتابه القيّم والشهير بعنوان «العمق الاستراتيجي» وهي: ضرورة تحقيق الأمن المشترك للجميع، وتغليب الحوار والآليات الدبلوماسية والسلمية في معالجة أزمات المنطقة، وتعزيز الاعتماد المتبادل بين اقتصادات المنطقة، والحفاظ على وحدة الكيانات القائمة وطابعها المتعدّد في إطار تأكيد التعايش الثقافي والتعددية لم يتبق منها سوى ذلك المتعلق بتعزيز الروابط الاقتصادية بين دول المنطقة في سياسة حكومة «العدالة والتنمية» الخارجية.
خلال زيارته العاصمة الإيرانية، نطق الرئيس التركي عن هوى «إنساني» غير مذهبي. للوهلة الأولى، لا يبدو خلاف أردوغان مع الإيرانيين أوسع منه مع السيسي، بعد تصريحات حول شروطه الصعبة للمصالحة مع النظام المصري الحالي، فيما لا تبدو «المسافة السياسية» من أنقرة إلى الرياض أقصر منها إلى طهران، لا سيما أنّ الطرفين التركي والإيراني تعاونا أو نسقا في «تركيب» مشهد سياسي بأكبر قدر ممكن من التفاهم، وأقل قدر ممكن من الخسائر هناك. كما لا يمكن إنكار ما تلعبه «أنابيب الغاز» و«سوق العملة» من عناوين اقتصادية يمكن إدراجها كمصلحة مشتركة بينهما. وقد يكون أقصى ما تتمخض عنه زيارة أردوغان لطهران على صعيد القضايا الخلافية المزمنة بين إيران وتركيا، هو ترسيم لحدود الصراع على أسس تغلب فيها الحسابات السياسية على تلك «الدينية»، وفي الأمر إفادة للجانبين، وخصوصاً لتركيا التي تخشى أن تصل الحال في مقصّ المذهبة الذي ينتشر كأمر واقع في أرجاء المنطقة إلى أراضيها، حيث التنوع الإثني والطائفي.
وفقاً لمراقبين، لا يمنع ذلك من الحديث عن أدوار إقليمية تركية وغير تركية تعزف في أكثر من مكان ومناسبة على وتر «العصبية الدينية»، ويمثل سلوك نظام «العدالة والتنمية» في سورية ومشاركته في دعم ما يسمى «التحالف العربي» بقيادة السعودية، على الصورة والسياق التي تشكل فيها الأخير، مثالاً يمكن أن نسوقه على دور كهذا. وعلى رغم ذلك، فإنّ ما يعنيه اليمن بالنسبة إلى المملكة، قد لا يمثل بالضرورة ما يعنيه لمصر، وقد تختلف حسابات البلدين، في شأنه، عن حسابات أنقرة التي لا تزال أولويتها في جوارها القريب سواء في سورية أو العراق. ولكن من الواضح أنّ هذه الأطراف تحاول، على ما يبدو، تجنب «خطيئتها السورية» على أرض اليمن، والتسابق على «مغانم السباق المسلح» قبل الأوان. من هنا، يحضر هدف آني مشترك لهؤلاء بحيث يجمعون على إسقاط ما يعتبرونه «تمرداً حوثياً»، في حين يغيب الحديث عن «اليمن المستقبل» تفادياً للوقوع في جدل خذل أحلامهم المقترحة لـ« سورية المستقبل»، مع العلم أنّ هناك من يستبعد إمكانية دخول تركيا على خط الوساطة في أزمة اليمن حيث سبق أن اتهم أردوغان نفسه إيران بمحاولة الهيمنة على ذلك البلد، إلا أنه من غير المستبعد أن يكون الطرفان قد ناقشا طبيعة الحلول المقترحة لأزمات المنطقة في ضوء الاتفاق بين الإيرانيين والمجتمع الدولي في لوزان، وما قد يتيحه من دور إيراني مفترض في حلّ تلك الأزمات. ومن المرجّح، أن تصبّ وجهة النظر الإيرانية حول تخريج حلول سياسية «بالجملة» في الشرق الأوسط، لا «بالمفرق». ووفقاً لوجهة النظر هذه، فإنّ ما يقبل به في اليمن، يجب أن يقبل به في سورية مثلاً، والعكس. فلا يمكن أن يكون الحلّ «سياسياً» في اليمن، وعسكرياً في مكان آخر. ولا يمكن الحديث عن مفهوم «الشرعية» في اليمن أو في مكان آخر وحمايته، والانقلاب عليه في مكان آخر.
وفي المؤتمر الصحافي الذي عقد بين الرئيسين الإيراني والتركي خلال زيارة الأخير طهران، شدّد الرئيس روحاني على أهمية التوحّد والأخوة على مستوى شعوب المنطقة، بينما أعاد الرئيس التركي الكلام عن أهمية مكافحة الإرهاب، مؤكداً ضرورة التوصل إلى حلّ شامل لأزمات العراق وسورية واليمن.
نهاية القول إنّ كثيرين يصفون سياسة أردوغان الإقليمية بـ«الانتهازية الفظة» أكثر من كونها «براغماتية عاقلة»، في ضوء لعبه على التناقضات بين إيران وخصومها في المنطقة، إلا أنّ العلاقات التركية ـ الإيرانية تبقى نموذجاً فريداً من العلاقات التي تتعايش فيها الاختلافات والتباينات مع مقتضيات مصلحية تجعل من هذه العلاقات، في زمن الشحن الطائفي والمذهبي المقيت المتفلت في المنطقة، حاجة لا بدّ منها.