نحو هيئة وطنية للدفاع عن حقوق طرابلس والشمال

عبدالله خالد

شكلت طرابلس، عبر تاريخها الطويل، حالة فريدة واستثنائية في المنطقة بفضل عنفوان أهلها وتمسكهم بثوابت ومبادئ لم يتخلوا عنها يوماً، رغم الضغوط التي تعرضوا لها. وهكذا تكاثر الخصوم وتعدّدت الأطراف الراغبة في تحجيمها كمقدمة لإضعافها وتهميش دورها. وشكل التراجع العثماني عن اعتبارها ولاية وإلحاقها بولاية أخرى كانت تتبدل باستمرار نتيجة توازن القوى على الأرض في المنطقة ، البداية التنفيذية لمخطط تقزيم موقعها وتقليص وظيفتها كثغر أساسي على حوض البحر الأبيض المتوسط، وإن استلزم سنوات ليظهر بوضوح في بداية الانتداب الفرنسي وليكرس مع إعلان دولة لبنان الكبير.

ورغم أنّ مرفأ طرابلس هو مرفأ طبيعي برز دوره مع الفينيقيين، حين اعتمدت المدينة كعاصمة للمدن الفينيقية وتعزّز عبر التاريخ، إلا أنّ هذا الدور بدأ بالتراجع في نهاية العهد العثماني حين تعرض لمنافسة جدية من مرفأ الإسكندرون، ثم بدأ تطوير مرفأ بيروت وتعزيز قدراته وزيادة الاعتمادات المرصودة له، وترافق ذلك مع محاصرة جدية لمرفأ طرابلس والتضييق على أنشطته ومنع أي تطوير فيه، في إطار خطة ترمي إلى إهمال طرابلس وتجاهل مشاريعها وحرمانها من التنمية وتغييبها عن الخريطة الاقتصادية والسياحية في لبنان.

وإذا كان مفهوماً أن تلجأ سلطات الانتداب، حفاظاً على مصالحها التي تكرست مع «حكم القناصل وصولاً إلى تثبيت طبقة سياسية ارتضت التبعية وجهدت لتنفيذ ما يطلب منها، فإنّ ما لا يمكن فهمه أن تستمر تلك السياسة الظالمة في عهود الاستقلال المختلفة. وقد قال الرئيس الراحل كميل شمعون للوفد الطرابلسي الذي زاره وطالب بتطوير مرفأ طرابلس بعد أن كثر الحديث عن توسيع مرفأ بيروت، أن «لا مجال لبحث هذا الأمر قبل بناء 100 رصيف في مرفأ بيروت»، كما أعلن رئيس الوزراء سامي الصلح «بأنّ النية عشية إعلان دولة لبنان الكبير كانت تشير إلى إمكانية اختيار طرابلس كعاصمة للدولة الجديدة وأنه صرف النظر عن ذلك، رغم تمتعها بكلّ مقومات ومكونات وقدرات العاصمة،لأن أبناء طرابلس متمسكون بثوابتهم الوطنية والقومية، وهذا من شأنه أن يعيق خطط الانتداب ويؤثر سلباً على مصالحها.

المفارقة أنّ أحد المرشحين للانتخابات النيابية في طرابلس عام 1964 وزع كراساً تضمن برنامجه الانتخابي والمشاريع التي يفترض أن يسعى إلى تحقيقها وهو يصلح اليوم لأن يكون برنامجاً متقدماً للمرشحين للانتخابات النيابية، إذا أجريت ولم يتم التمديد للمجلس النيابي الحالي. هذا يؤكد أنه لم يقدم لطرابلس خلال الخمسين عاماً الأخيرة أي مشروع يسهم في تنمية المدينة ومعها الشمال. فحين كانت الظروف تسهم في تمرير أي مشروع، كانت المماطلة والمراوغة تعيق تنفيذه وتفرغه من مضامينه بحيث يتحول إلى مجرد يافطة، الأمر الذي كرس حرمانها وتخلفها في كافة المجالات. وقد قضت الحرب الأهلية على ما تبقى من مقومات المدينة وحولتها إلى قرية كبيرة بعد أن انقطع تواصلها مع جوارها الشمالي وتعطلت مرافقها الأساسية.

اتفاق الطائف

شكل اتفاق الطائف الذي نجح في إنهاء الحرب الأهلية، بارقة أمل للمحرومين، وخصوصاً بعد أن ركز على إلغاء الطائفية وتحقيق اللامركزية الإدارية وتنفيذ الإنماء المتوازن الذي يهتم بالأطراف وينصف المناطق المحرومة، في إطار خطة مركزية شاملة للتنمية. ورغم مرور أكثر من ربع قرن على إقرار الاتفاق إلا أنّ الأمور الأساسية فيه لم تأخذ طريقها إلى التنفيذ.

الأمر المؤسف أنّ التغيير الوحيد الذي حصل هو تغيير أسلوب التعامل من دون أن يصل إلى المضمون. فقد صدرت قوانين كثيرة وأعلن عن البدء في تنفيذ بعض المشاريع، لكنّ التسويف والمماطلة وإطلاق الوعود التي لا تقترن بالتنفيذ شكلا عنوان مرحلة ما بعد الطائف. وقد تشكل المؤتمر الأول لإنماء طرابلس الذي دعا إليه الرئيس رفيق الحريري وقدمت فيه مذكرة موحدة وضعتها الهيئات الاقتصادية ومؤسسات المجتمع المدني تضمنت صورة عن الوضع المأساوي للمدينة وركزت على المشاريع الأساسية التي تنتظر طرابلس تحقيقها منذ سنوات طويلة، فكانت المذكرة خطوة متقدمة على صعيد الاهتمام الرسمي بتنمية طرابلس الأمر الذي أحيا الأمل في إمكانية حصول تغيير ما في التعامل مع قضايا طرابلس الملحة وسبل تحقيقها، وخصوصاً أنّ تلك الدعوة ترافقت مع وعود بمتابعة الطروحات التي ستتم في المؤتمر من خلال عقد مؤتمر سنوي لمعرفة ما تحقق ودراسة الأمور المستجدة. وسرعان ما خابت الآمال بعد أن أصبح المؤتمر الأول يتيماً وتكرّرت عملية المماطلة والتسويف واستمرت عملية التهميش والتغييب. وإذا كانت بعض اللقاءات الاقتصادية قد عقدت بعد المؤتمر الأول، إلا أنّ ما جرى فيها لم يخرج عن كونه تكراراً للوعود التي أعطيت سابقاً، بالإضافة إلى التركيز على خطورة الوضع الأمني المستجد من دون أن يترافق ذلك مع جهد جدي لوضع خطة أمنية تأخذ طريقها إلى التنفيذ.

صحيح أنّ قانون حصرية إقامة المعارض بمعرض الرئيس رشيد كرامي الدولي قد صدر، لكنه جمّد لحظة صدوره ولم يأخذ طريقه إلى التنفيذ ووضعت كلّ العراقيل أمام تطبيقه من قبل السلطة المركزية في بيروت. وحين جاء العرض الصيني الذي يسمح بتوفير عشرين ألف فرصة عمل، بالإضافة إلى الإقامة الدائمة لثلاثة آلاف صيني في طرابلس، تواطأت السلطة المركزية عليه ونجحت في إجهاضه، وهذا ما تكرر، وإن بوسائل مختلفة ومتنوعة، مع المشاريع الأخرى التي تعاني من البطء في التنفيذ واختلاق الأعذار والمبررات لاستمرار التسويف والمماطلة مع الإصرار على الاستمرار في إطلاق الوعود المعسولة. فالمرفأ على سبيل المثال وليس الحصر لا يمكن أن يقوم بدور فاعل في تنمية المدينة والشمال، إلا ضمن خطة مركزية شاملة تستند إلى تبني مقولة الإنماء المتوازن التي توزع العمل على كلّ المرافئ عبر تخصيص كلّ منها بنوع محدّد، وهذا يحتاج إلى قرار سياسي لا يبدو أنّ النية متجهة إلى اتخاذه وتبني تنفيذه، حرصاً على مصالح ضيقة يجب حمايتها على حساب مصالح الأكثرية الساحقة من اللبنانيين. هذا ينطبق على المصفاة وسكة الحديد والمنطقة الاقتصادية الخاصة والمطار والمبنى الجامعي الموحد وغيرها من المشاريع الحيوية التي يحتاجها الشمال وعاصمته طرابلس، ما يعني أنّ المواجهة حتمية بين طرفي الصراع: النظام الطائفي ـ المذهبي والطبقة التي أفرزها من جهة، والقاعدة الشعبية المسحوقة نتيجة الإهمال والحرمان والظلم.

تشكيل الهيئة أولوية

وإذا كان النظام يملك السلطة فإنّ الشعب يملك، إذا وحد صفوفه، قوة الضغط الجماهيرية التي تشكل المدخل الطبيعي إلى إحداث التغيير المطلوب والتي يفترض بها أن تصب جهودها في إطار تنظيمي يأخذ شكل هيئة مهمتها الدفاع عن حقوق طرابلس والشمال، على أن تضم نوعية من المؤمنين بأهمية العمل الجماعي والمؤسساتي الذين يملكون الإرادة والتصميم على تحقيق الغاية التي نذروا أنفسهم لها.

إنّ المهمة الأساسية للهيئة المقترحة هي الانخراط في لجنة العمل المحلي والمناطقي والإسهام بفعالية في تخليص المجتمع في طرابلس والشمال من معوقات تطويره وتحديثه ورفع الإهمال والحرمان وحث هيئات ومؤسسات المجتمع المدني على القيام بدورها في تسليط الضوء على ضرورة تنفيذ الإنماء المتوازن وإنصاف المناطق المحرومة وتنفيذ المشاريع الاقتصادية المنتجة وإعادة تحريك مرافقها. كما أنّ إنجاح تلك الهيئة يتطلب تواجد ممثلي كلّ الأقضية الشمالية فيها إلى جانب ممثلي طرابلس لضمان حسن وصحة التمثيل والتوزيع وسدّ الكثير من الثغرات التي يمكن أن تنشأ نتيجة النقص في معرفة الهموم التي يعاني منها الجميع. ويجب أن تكون الهيئة ممثلة للقطاعات الشعبية والنقابية والمهنية وتضم أصحاب الكفاءة والقدرة على إيجاد الحلول لقضايا طرابلس ماضياً وحاضراً لتشكل مدخلاً طبيعياً لاستشراف آفاق مستقبلها، ليتوج كلّ هذا بإلقائها الضوء على القضايا وملاحقة تفاصيلها، على أن ترفق عملها الميداني بتحرك إعلامي يسهم في ممارسة القوة الشعبية الضاغطة دورها. وثمة قضية لا بدّ من إثارتها وهي أنّ البعض يعتقد أنّ اهتمام الهيئة بالعمل المحلي والمناطقي والتركيز على البعد الاقتصادي-الاجتماعي-التنموي من شأنه أن يغيب الاهتمام بالعمل الوطني والانكفاء على الصعيد القومي، لكنّ العكس هو الصحيح، انطلاقاً من التكامل المفترض بين النشاطات المحلية والوطنية والقومية الذي يؤكد أنه بمقدار ما تستطيع الهيئة، ومعها قوة الضغط الشعبية، أن تسهم وبفعالية في تفعيل وتعزيز القاعدة المادية القادرة على استعادة الدور التاريخي التي تميزت به طرابلس ومعها الشمال كمنارة للمنطقة وصلة وصل بين العالم والداخل العربي والإسلامي، بمقدار ما نؤمن المشاركة الحقيقية في القضايا الوطنية والقومية.

إنّ السؤال الذي يفرض نفسه هو التالي : هل المطلوب أن تبقى طرابلس مجرد مجال حيوي لدولة لبنان الكبير وأن يبقى أهلها مجرد رعايا من الدرجة الثانية يتحكم بها نظام التوازنات الطائفية وعصبياتها المذهبية وتجاذباتها السياسية وخصوماتها المناطقية التي عطلت مشاريع نهوضها المستقبلية لمجرد أنها بقيت، عبر تاريخها طليعة متقدمة للنضال الوطني والقومي ترفض الطائفية والمذهبية وتناهض القطرية وتعتبر التخلف نتيجة مباشرة لها لأنها تعي وحدة الحياة والمصالح والمصير في دنيا العروبة وتعتبر أنّ الكيان الصهيوني يشكل التحدي الأكبر الذي يهدّد مصير الأمة وأنّ مواجهته لا تتم في شكل منفرد وإنما بخطة نظامية عربية تواجه المخططات المعادية تكون أداتها المقاومة التي تشكل السلاح الأكبر الذي تملكه الأمة في مواجهة أعدائها؟

البعد الوطني

اصطدم اللبنانيون، وفي مقدمتهم أبناء طرابلس والشمال، بهيمنة سياسات الخارج عليهم نتيجة خضوعهم لحكم القناصل الذي أفرز أحداث 1840-1860، بعد أن ارتضت نخبهم أن تكون وكيلة للمصالح والمشاريع الخارجية، على حساب تغييب مصالح اللبنانيين أنفسهم. لقد انتقلت الزعامات السياسية من مرحلة التأثر بالخارج إلى مرحلة تقبل أن تصنع فيه لتصبح أكثر تبعية له. وهكذا ظهر التناقض بوضوح بين من هم في السلطة ومن هم خارجها. لقد أصبح المواطن مستضعفاً لا حماية له مكرهاً على الانتماء ملزماً بالاحتماء ومجبراً على الالتحاق، لا تحميه السلطة ويساهم في إضعافه تخلف النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية عن أداء دورها في الصراع من أجل التقدم علماً أنّ الأفكار لا تنقصهم وما يعيقهم هو عدم توافقهم في الرأي أوتجمعهم في مشروع وعملهم في إطار تنظيمي مهمته تحقيق التغيير المؤدي إلى تكريس المواطنة وتوفير فرص النجاح للمشروع الوطني الذي يحمي وحدة لبنان السياسية ويثبت انتماءه العربي ويحصّن حرياته العامة ويوسع الحقوق الديمقراطية لأبنائه ويطور مؤسساته ويحقق الإنماء المتوازن ويضمن العدالة في إطار دولة مدنية ديمقراطية تكون لجميع مواطنيها. إنّ لبنان في حاجة إلى صيغة سياسية تستند إلى قوى إجتماعية غير محكومة بالولاءات الطائفية والمذهبية وواعية لمصالحها الوطنية والاجتماعية وتتجاوز النظام السياسي الاجتماعي الطائفي وتعمل على تثبيت نظام وطني ديمقراطي ينتج وطناً ويقيم دولة تبدأ بالعمل على تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية وتحقق الخطوة الأولى على طريق الانتقال من دولة الطوائف إلى دولة المواطنين، وتستكمل بخطوة ثانية أي بإقرار قانون انتخاب على أساس النسبية وخارج القيد الطائفي يضمن فرصاً متكافئة للتكتلات واللوائح المتنافسة يتبعه قانون عصري وحديث للأحزاب السياسية، وآخر يحمي هيئات ومؤسسات المجتمع المدني ويعزز التوجهات الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الوطنية والديمقراطية، وصولاً إلى بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة وإقرار القوانين التي تحصّنها وإيجاد نقلة نوعية في التربية والتعليم والثقافة تتوج بإصلاح سياسي إداري واقتصادي ـ إجتماعي وصولاً إلى تأمين الاستقرار الاقتصادي الاجتماعي عبر تحقيق التنمية الشاملة المستندة إلى الإنماء المتوازن والمعتمدة على المشاريع الاقتصادية المنتجة وتأمين المستوى اللائق من العدالة الاجتماعية والرعاية للشرائح الأضعف في المجتمع عبر اعتماد سياسة اجتماعية تتوجه نحو تأمين أوسع قدر من شبكات الأمان والضمانات الاجتماعية، وخصوصاً في ميادين السكن والاستشفاء والتعليم وحماية الشيخوخة وحماية مؤسسة الضمان الاجتماعي والسعي إلى تطويرها وتحديثها من أجل التقدم باتجاه دولة التنمية والرعاية الاجتماعية والسعي إلى تطوير التعاون والتبادل مع الأقطار العربية والارتقاء بأشكال التكامل الاقتصادي العربي باتجاه سوق عربية مشتركة حقيقية. لقد أثبت تاريخ لبنان القديم والحديث أنه مرتبط عضوياً بمحيطه العربي والإقليمي رغم كلّ محاولات العزل التي حاولت فرضها قوى الخارج الاستعماري وقوى الداخل المرتبطة بها. وهذا ما ترسخ بعد اتفاق الطائف. ولكنّ النظام اللبناني، بتناقضاته الداخلية وتوتراته الطائفية ـ المذهبية والتي ازدادت بفعل الحالة المضطربة التي تعيشها المنطقة لم ينجح في معالجة التناقضات ومواجهة تلك التوترات لمصلحة صيانة وحدة لبنان والحفاظ على سلمه الأهلي وضمان تطوره الديمقراطي وبناء اقتصاده الوطني المنتج. وهذا ما يلقي على القوى اللبنانية الحية مهمّات جديدة، وخصوصاً بعد نشأة المقاومة وفرضها توازن قوى جديد بعد انتصار 25 أيار 2000 وهزيمة عدوان تموز.

البعد القومي

أدى تراجع المشروع الوحدوي العربي، على أكثر من صعيد بفعل التدخل الخارجي المتجسد بالمخطط الإمبريالي الصهيوني وما نتج عنه من هزائم عسكرية وإجهاض للتجارب الوحدوية وما رافقه من عجز للقوى القومية التي تسلمت السلطة عن الوفاء بوعودها وتحقيق الآمال التي أطلقتها، إلى استباحة المنطقة العربية وتهديد وحدة معظم أقطارها. وهذا ما أكد أنّ العروبة بما هي مشروع وحدوي حضاري ديمقراطي تبقى الضامن الحقيقي لصدّ مخاطر النزعات الانقسامية الطائفية والمذهبية والإثنية والضامن الفعلي لمصالح العرب الراهنة والمستقبلية من أجل حماية وحدة الأقطار الوطنية وتعزيز مكانتهم الدولية وتوسيع سوقهم الاقتصادية وتسريع تنمية قدراتهم الصناعية والزراعية وضمان أمنهم الغذائي والاستراتيجي وتعديل ميزان القوى تجاه أعدائهم، وخصوصاً العدو الصهيوني بما يعزز فرص انتصارهم في هذا الصراع ليمتلكوا ناصية مصيرهم ويتمكنوا من استخدام أدوات التجديد التي تؤمن لهم سبل اللحاق بالأمم المتقدمة.

إنّ العروبة اليوم في حاجة إلى مضامين مدنية ديمقراطية حقيقية لتعزيز التوجهات الوحدوية وتصليب مكوناتها، والعمل الشعبي والرسمي في هذا الاتجاه أمر بالغ الأهمية والحيوية، فهناك حاجة ملحة إلى مشروع نهضوي عربي للردّ على معضلات الاحتلال والتخلف والاستبداد والتجزئة التي تعاني منها الأقطار العربية، بحيث ينطلق العمل الوحدوي من الدائرة القطرية لتشكل الوحدة الوطنية على قاعدة الاندماج الاجتماعي، المدخل الطبيعي باتجاه العمل الوحدوي السليم. وتستدعي مقتضيات التماسك في وجه الخطر الصهيوني قيام أفضل علاقات التنسيق والتعاون والتكامل بين أبناء الشعب الواحد في لبنان وسورية، وخصوصاً أنه أسهم في دعم صمود لبنان ونضال المقاومتين اللبنانية والفلسطينية في مواجهة العدوان الصهيوني وفي إجبار الصهاينة على الانسحاب من القسم الأكبر من الأراضي اللبنانية المحتلة وكذلك في مساعدة اللبنانيين على الخروج من حربهم الأهلية وإعادة بناء مؤسساتهم. وإذا كانت هذه العلاقات قد مرّت في أزمات عديدة بفعل أخطاء وخطايا ارتكبت من الجانبين، فإنّ المطلوب اليوم إقامة قاعدة صلبة للعلاقات المميزة بين البلدين على قاعدة التكامل والتضامن والتعاون، وفق مبادئ الإخاء القومي والاحترام المتبادل والحرص على إسنادها إلى ركائز مؤسساتية سليمة تؤمن مصالح البلدين العليا وتسهم في توفير شروط أفضل للتنمية فيهما. وطرابلس باعتبارها منارة عربية معنية أكثر من غيرها بتوفير ذلك، لأنها ضمت إلى دولة لبنان الكبير في عهد الانتداب بعد أن سلخت عن سورية، ولأنّ مصلحتها تتطلب تقديم النموذج لما ينبغى أن تكون عليه العلاقات العربية. كما أنّ هذا التعاون من شأنه أن يوفر القاعدة المادية لاستعادة الحقوق العربية والقضاء على الإرهاب التكفيري الذي يهدّد لبنان والمنطقة.

خلاصة

إنّ التشابك بين العامل المحلي والبعدين الوطني والقومي من شأنه أن يحقق التكامل للوطن والأمة على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية، وإن كان هذا الأمر ينعكس في شكل أكثر وضوحاً على الوضع الاقتصادي. وتكاد طرابلس، ومعها الشمال، تشكل النموذج الحي لهذا التشابك وذلك التكامل نظراً إلى الدور الذي لعبته عبر تاريخها الطويل كصلة وصل بين العالم والداخل العربي والإسلامي والذي انعكس في شكل إيجابي على دول الجوار الإقليمي التي يفترض استكمال التقارب والتكامل معها لأنها تتشارك معنا في إشكالات الماضي وآمال المستقبل. وهذا ما تمّ التواطؤ عليه من قبل كلّ الأطراف التي كان يزعجها تمسّك أبناء طرابلس بثوابتهم الوطنية والقومية وإصرارهم على إقامة أفضل العلاقات مع جوارهم الإقليمي، ذلك التواطؤ الذي برز بأجلى صورة من خلال الإهمال والتجاهل والحرمان الذي عانت منه وما زالت عبر تاريخها الطويل. وبهذه الخلفية كانت مشاريع طرابلس تتهاوى، الواحد تلو الآخر، بحيث يلغى بعضها ويجمد بعضها الآخر ويهمل ما تبقى منها بالتجاهل والتباطؤ والأمثلة أكثر من أن تحصى. وهذا يدفعنا إلى التساؤل حول مصير سكة الحديد والمصفاة والمنطقة الاقتصادية الخاصة والمعرض والمبنى الجامعي الموحد ومحطة التسفير وغيرها من المشاريع الحيوية التي لا يعرف أحد متى تبصر النور في شكل نهائي.

إنّ مهمة الهيئة الوطنية للدفاع عن حقوق طرابلس والشمال هي أن تتبنى بمساندة قوة الضغط الشعبية المشاريع المهملة والمجمدة، وفي مقدمتها تلك التي تحمل بعداً قومياً ـ إقليمياً. ولنتذكر في هذا المجال مذكرة التفاهم المصرية ـ السورية ـ اللبنانية التي وقعت في عهد الرئيس رفيق الحريري والتي تضمنت الإعلان عن خط أنابيب الغاز من مصر إلى لبنان عبر البحر المتوسط، لتمتد بعد ذلك من طرابلس إلى سوريا وبالتالي تركيا فأوروبا والتي قيل وقتها أنّ الفرصة متاحة أمام الأردن للانضمام إليها وأنّ تنفيذ هذا المشروع الهام سيبدأ قريباً. وسرعان ما سحب هذا المشروع من التداول أسوة بمشاريع طرابلس الأخرى، أضف إلى ذلك مشروع خط أنبوب النفط من كركوك إلى طرابلس عبر الأراضي السورية والذي يتطلب تنسيقاً لبنانياً ـ سورياً ـ عراقياً، أمكننا أن ندرك أهمية طرابلس في المشاريع الوطنية والقومية المستقبلية التي ستؤسّس لمستقبل المنطقة.

وما أذكره أنني في أحد اللقاءات مع الرئيس عمر كرامي، وكان قد عاد لتوه من دمشق، قال لي إنّ الرئيس بشار الأسد أكد له أنّ سورية على استعداد لبناء مصفاة نفط جديدة على الحدود كبديل لمصفاتي بانياس وطرابلس القديمتين، وتصدر النقط إلى البلدين ودول حوض المتوسط وبناء خط جديد للغاز وإصلاح سكة الحديد والمساعدة في تشغيل مطار الرئيس رينيه معوض ومرفأ طرابلس في تأكيد عملي على متانة العلاقات المميزة اللبنانية السورية، كقدوة للعلاقات العربية المستقبلية، وفي إطار خطة شاملة تتضمن إصلاح سكة الحديد كخطوة على طريق إعادة إحياء قطار الشرق السريع وإنشاء منطقة سياحية حرة على الساحل اللبناني ـ السوري، وهذه هي مهمّة الهيئة التي يفترض بها أن تحول تلك المشاريع إلى حقيقة، وخصوصاً أنّ أبناء طرابلس يؤمنون بأنّ دمشق وبغداد والقاهرة وغيرها من العواصم العربية تشكل القلب والرئة لضمان بناء مستقبل أفضل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى