رسالة إلى وزير الداخلية اللبناني
د. سلوى خليل الأمين
سلام إليك من مواطنة تحمل الهوية نفسها التي تحملها معاليكم، وتؤمن بالوطن حراً وسيداً ومستقلاً كما تؤمن، لكن شتان بين مواطنة لا حول لها ولا قوة سوى برصاصة قلمها المتحرك على الساحة اللبنانية يميناً ويساراً، وبينكم كوزير يتحمّل وزر المسؤوليات الجسام، التي تحملونها جائزة ترضية تستحقونها، نظراً إلى مواقفكم السياسية الممثلة لفريق سياسي على الساحة اللبنانية، أختلف معه في القضايا القومية العربية المصيرية، وخصوصاً قضية المقاومة ضدّ العدو الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين.
لكن إذا عدنا إلى الداخل، إلى لبنان الوطن الذي عشقناه حتى الثمالة، إلى درجة أصبح لدينا إيمان مطلق بأنّ من الحب ما قتل، وإلى درجة أنّ الشعب اللبناني ونحن منه، ما زال في حالة قلق على مصيره بسبب حوليات المنطقة العربية التي تعجّ بالمتناقضات، وتربطنا معها بحبل الوريد، علماً أننا كلبنانيين كنا من أوائل الشعوب العربية التي رفعت عبر تاريخها شعار: «أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب»… لهذا قام المستعمر الفرنسي بسجن رجالات السياسة الأوائل في لبنان في قلعة راشيا، بسبب تعاونهم وتعاضدهم من أجل كرامة الوطن وحق اللبناني في الاستقلال.
لكن اغتصاب فلسطين من قبل بني صهيون، عبر وعد بلفور المشؤوم، جعلنا كغيرنا من الشعوب العربية الرافضة لتشريد الفلسطينيين من أرضهم، دعاة مقاومة من أجل ردّ الحق إلى أصحابه الأصليين.
قاومنا في الجنوب اللبناني بداية مع حركة «فتح» الفلسطينية، لكن لم نتوصل يوماً إلى منع اجتياحات «إسرائيل» لأرض الجنوب، ولاحتلالها عاصمتنا «ست الدنيا بيروت»، إلى أن بزغ نور المقاومة التي استطاعت دحر «إسرائيل» وقهر جيشها الذي قيل إنه لا يقهر في العامين 2000 و2006، مع ما استتبع ذلك من اعتراضات من بعض العرب الذين باركوا صفقات الصلح مع العدو «الإسرائيلي»، دون النظر إلى حقوق الشعب العربي الفلسطيني والعمل على عودته إلى أرضه ومنازله، ولو عبر حلفائهم الأميركيين.
صبرنا على الضيم، وعلى ظلم ذوي القربى، وتقلّبت أحوال الوطن من سيّئ إلى أسوأ، كنا خلاها نغادر الوطن رفضاً للصراعات بين أبناء الوطن الواحد، لكننا لا نلبث أن نعود بسبب الحنين الذي يدبّ في شغاف القلب لوطن الأجداد والأهل، لبنان، الذي هو وطني ووطنكم الحبيب.
لكن… ها أنا اليوم أحمل ورقة تثبت أنني من مواطني الدولة الأميركية، التي منحت ولدي العالم الباحث الدكتور مصطفى الأمين كلّ الفرص التي ثبتته عالماً بين علمائها، بمزيد من التقدير والاحترام لنتاج وإبداعات عقله المتفاعل مع مسارات العلم والمعرفة، هذا الذي تعبنا عليه أنا ووالده كي يحمل أعلى الشهادت العلمية من أجل خدمة وطنه مستقبلاً، هذا الوطن الذي لم يستوعب قدراته ومسارات عقله فأبعده، مكرهاً أخاك لا بطل، ليحلّ أولاً في كندا التي منحته هويتها، ومن ثم في الولايات المتحدة الأميركية التي احترمت إنجازاته العلمية فأغرته بالقدوم إليها، كي يصبح عالماً بين علمائها المنظورين المشهود لهم في عالم الأبحاث الطبية ومنحته تكريماً هويتها… لكن… وأقولها بأسف: هل كلّ هذه الإغراءات تشتري الحنين لأول منزل؟! جوابي لا… وأنتم أدرى… فكلّ لبناني مهما طالت هجرته، هو لبناني صميم، وانتماؤه للبنان أصيل لا تشوبه شائبة، لكن أين لبنان من أبنائه؟!
في العام 1983 هاجرت مع أولادي إلى بروكسل، كان الاجتياح «الإسرائيلي» قد وصل إلى العاصمة بيروت، ونحن لسنا حمَلة سلاح في وجه أخوة لنا في الوطن، مهما كان الاختلاف في الرأي، ولا صلة لنا بالميليشيات، لهذا قرّرنا الرحيل، وخلال وجودي هناك عرض عليّ كما على كلّ اللبنانيين المتواجدين على الأرض البلجيكية، الجنسية الأميركية كمساعدة لنا كلبنانيين مهجرين من حرب أهلية ضروس، رفضت… ورفضت… والسبب اعتزازي بهويتي التي لم أرض يومها عنها بديلا.
اليوم أنا متمسكة بالهوية الأميركية بعد هذا العمر الطويل، وسأسرد الأسباب وهي كثيرة، أهمّها ما فوجئت به وأنا في العاصمة واشنطن، التي ستكون مقرّ سكني الجديد، بحكم تسجيلي في دوائرها كمواطنة أميركية، أن دولتنا العلية وضعت قانوناً جديداً للسير، نحن بأشدّ الحاجة إليه، لكن ما أنا في صدد طرحه ومناقشته مع معاليكم لو سمحت، هو بعض الملاحظات التي أرجو أن يتسع صدركم لتحملها، عطفاً على مقارنة مني لقانون السير في واشنطن:
– شرطي السير في واشنطن يتعامل بسلوك أخلاقي مقياسه الأدب الجمّ مع المواطن، ولا يتعدّى عليه بالكلام البذيء الذي يورّطه في ما لو فعل بدعوى قضائية، إضافة إلى أنه لا يقوم بالتدخين أثناء تأديته عمله، ولا يسمح له باستعمال هاتفه الخليوي، إضافة إلى عدم تسيير السيارات عند التقاطعات على مزاج خاص، ولا يعتبر نفسه الدولة بكلّ مقوّماتها… وسلطاتها… وهنا تجوز المقارنة بينه وبين الشرطي اللبناني الذي يهجم على أيّ مواطن كهجوم صقر على فريسته، والباقي معروف من قلة احترام للمواطن أياً كانت رتبته أو مقامه.
– هل عمدت الدولة قبل تنفيذ القانون إلى وضع خطة تؤمّن فيها المواصلات للمواطنين من أجل الحدّ من استعمال سياراتهم الخاصة، كما هو ساري المفعول في الدول المتحضّرة، وهذا ما لمسته شخصياً خلال سكني في بروكسل/بلجيكا في العام 1983، حين كانت زوجة وزير الخارجية تستقلّ «أوتوبيس» الدولة حرصاً على راتب يقبضه زوجها من مال المواطنين، يصرفونه بحسابات منزلية دقيقة». هنا أودّ لفت النظر إلى أنّ ابنة الوزير يومها، البالغة من العمر 10 سنوات، كانت زميلة ابنتي ورفيقتها في كوليج vierge fidele، وكانت والدتها «زوجة الوزير» تنتظر ابنتها معنا كأهل خارج سور المدرسة، من أجل العودة بها إلى المنزل، حيث لا أوتوكارات للمدرسة، والأهل هم من يتولى المهمة، وهكذا باتت فترة الانتظار في تلك اللحظات، كما عادتنا نحن اللبنانيين، ممراً إلى صداقة واحترام.
– ثم أليس من حق الدولة ووزارة الأشغال على وجه الخصوص، أن تعمد أولاً إلى إصلاح الطرقات من الحفر وصيانتها دورياً، وهكذا تخفف من حوادث السير، كما هو حاصل في الدول المتحضرة، ومنها أميركا حيث من النادر أن تجد حفرة لا يقوم المواطن بجعلها قميص عثمان في وجه الدولة إنْ تمّ تأخير ردمها.
ـ هل ستعمد وزارة الداخلية إلى منع كلّ غريب عن لبنان من قيادة الفانات والسيارات العمومية التي تقف عشوائياً على الطرقات، مسبّبة حوادث سير لا تحصى، وفي هذا الفعل مخالفة واضحة لقانون السير اللبناني الذي يلزم الجميع على الأراضي اللبنانية، بأخذ أقصى اليمين وليس الوقوف في عرض الشارع، واحترام ومعرفة قانون السير اللبناني.
– هل ستقوم الدولة بتنظيم مسار «الموتوسيكلات» بحيث تبعدها عن «الزحلطة» بين السيارات وبالتالي التسبّب بالكثير من الحوادث.
ـ هل سيخضع أبناء وعائلات المسؤولين ومرافقيهم لهذا القانون، أم سيطبّق فقط على من لا حول لهم ولا قوة.
ـ أخيراً وليس آخراً، هذه الرسوم الباهظة على المخالفات، هل يستطيع من يقبض الحدّ الأدنى للأجور أو راتب بقيمة مليون ليرة لبنانية مثلاً، أن يسدّد قيمته في ما لو حصلت المخالفة أو التسلط من قبل شرطي السير المولج بتنفيذ المهمة، مع تقديري واحترامي للعقلاء الوطنيين منهم.
اسئلة عديدة تسكن خاطري، وتلوح لي بعد عودة من واشنطن عاصمة القرار العالمي، حيث كلّ فرد فيها، ملتزم بالقانون الذي هو فوق الجميع، حتى الرئيس باراك أوباما، يمثل هذا الأنموذج الحيّ لتطبيق القانون كونه رأس الدولة، وقد حدث أنه ذهب إلى مطعم قرب البيت الأبيض، صاحبته لبنانية، ووقف بالصف كي يقدّم طلبه بالحصول على وجبة الغداء، المفاجأة أنه حين أعطى موظفة الصندوق «الفيزا كارت» لتسديد ثمن وجبته، كانت البطاقة غير صالحة، أرجعتها الموظفة إليه قائلة: عذراً السيد الرئيس: بطاقتك غير صالحة، فما كان منه إلا أن طلب من زوجته ميشال التي ترافقه أن تمدّه ببطاقتها، وقدم اعتذاره بسبب إغفاله تجديد بطاقته… المفارقة هنا: انّ البائعة لم تقدّم له الوجبة مجاناً، ولم يجرؤ أيّ شخص من الواقفين على التبرّع بدفع فاتورة الرئيس، وهذا غير مقبول البتة، والأهمّ أنّ الرئيس قدّم اعتذاره علناً أمام الجميع.
معالي الوزير، هذا الفعل يدلنا إلى أنّ المسؤول هو القيّم الأول على تطبيق النظام في وطنه، حين يبدأ بنفسه وبكلّ من يلوذ به، فالقانون ليس مولجاً بتطبيقه فقط فقراء الوطن من: الموظفين وأساتذة الجامعات والعمال وأهل الفكر والقلم وغيرهم من الشرائح الوطنية التي لم تعث في الوطن فساداً وإفساداً، في الوقت الذي لم تتعجّلوا التوقيع على سلسلة الرتب والرواتب.
عذراً منكم معالي الوزير نهاد المشنوق، أحترم جرأتكم وشجاعتكم في اتخاذ القرارات، لهذا توجهت برسالتي إليكم، عسى أن تكون معاليك المثل والمثال لوطن نريده الأنموذج الصحيح بين الأوطان، وإنْ عركتنا الخطوب، فإنارة زاوية من زوايا الوطن، ولو عبر قانون للسير نظيف ومحق، يبقى هو الأهمّ في ظلّ ظروف معيشية شديدة الصعوبة، ووطن يتخبّط في المجهول.