الإعلام… و«عصر الشبهة» 1
ليلى زيدان عبد الخالق
نحن الآن على منعطف في تاريخ الإعلام: موقعاً ودوراً. وفي قلب منظومة الاتصال، استولى «التلفزيون» على السلطة كما نشهد في السنوات الأخيرة ـ أو الأصحّ، كما شهدنا ذلك منذ حرب الخليج الأولى.
وها هو اليوم، في الأحداث الجارية المندرجة تحت عنوان «الربيع العربي»، نرى الإعلام كيف يعطي هو «نغمة العزف» ويملي المعايير، ويفرض معلوماته وتحليلاته، وثمة أداة إعلامية مركزية، هي «الجزيرة»، تحاول في كل مرة أن تحدث إصابة قوية في أذهان الناس، وتلحق بها وسائل إعلامية أخرى ـ مدفوعة الأجر ـ لمواكبة هذه الإصابة وصونها وتمديد تأثيرها!
ما العمل لمواجهة هذا الترويج لثقافة اللامعنى، وإفساد الأفكار والعواطف وتسميمها؟ كيف السبيل إلى ردع هذا الانصراف عن العقل، هذا القبول بـ«عصر الشبهة»؟ هذه الفخاخ الجديدة التي تنصبها منظومة الاتصال الإعلامي: الصورة… النجوم… وسطاء الوحي… الألعاب المرئية.
حقاً عجيب هذا الدور اللاتواصلي الذي تؤدّيه أداة صُنعت للتواصل! وعجيب أيضاً أن تكون هذه الأداة هي نفسها التي تروّج «ثقافة اللامعنى»!
في الرابع والعشرين من كانون الثاني عام 1994، نشرت جريدة «لوفيغارو» الفرنسية خبراً جاء فيه: «أقدم ستة من الأحداث على اغتصاب زميلتهم، وهي في الثانية عشرة، قرب ملعب رياضي بعد خروجهم من المدرسة، وسبّبوا لها من الأذى ما لا يسبّبه ذئبٌ شرس»، وأضافت: «المرعب في الموضوع أن الفتاة عادت إلى منزلها في المساء باكيةً وهي في أسوأ حال، وحكت لوالديها ما جرى، إلا أنهما لم يهتما كثيراً لما روته، لأن «التلفزيون» كان ينقل حينئذٍ مسلسلهما المفضل!!!».
كان من الطبيعي في بلد يتمتع بنوع من الثقافة مثل فرنسا، أن يثير خبر كهذا، موجة عنيفة من ردود الفعل، ليس إزاء الحادثة فحسب، إنما أكثر فأكثر إزاء الأداة الإعلامية وإدانة من يقف وراء برامجها التي استوجبت أن يكتب فيها «روجيه غارودي» كتاباً كاملاً بعنوان «الهدّامون»، بهدف فضحها وتعرية الدور الذي يلعبه الإعلام على مستوى التبليه والتسطيح. كما أن الموضوع نفسه لفت أنظار بعض الباحثين الاجتماعيين والمربّين، فأعدّوا من أجله دراسات ميدانية ونظرية لكشف الآثار التي تتركها الشاشات المرئية على اليافعين والشباب: «تقهقر الحوار وتراجعه بين أفراد العائلة وتزايد الانعزال والتقوقع، بل أن الأغلبية أبدت خشيتها من أن يتعطل التلفزيون في المساء وتعذّر إصلاحه، إذ سيضطرون حينذاك إلى مجالسة والديهم ـ لا الجهاز ـ وليس لديهم أيّ حديث مشترك معهم».
على مستوى فكريّ أكثر عمقاً وجدّية، اختار الفيلسوف الفرنسي «ريجيس دوبريه» أن يكون موضوع أطروحته التي قدّمها لجامعة السوربون: الميديولوجيا… وركّز دوبريه في هذه الأطروحة على معجزات الصورة وعلى وظيفتها السحرية: «نحن نعرف أن الإنسان لا يشبه ما يأكل، ولكن ينتهي به الأمر دائماً إلى أن يشبه ما يقرأ، واليوم يشبه ما يشاهد…».
وبالمثل، فإن هناك من تناول أجهزة الإعلام ودورها الهدّام في الرأي العام من خلال فيلم سينمائي كندي، يشرح بوضوح أساليب السيطرة على التفكير وتشجيع التناقض في المجتمع.
وفي السياق عينه، إنما في مجال آخر عن دور الإعلام، قام «والتر إيزاكسون» بتأليف كتاب ضخم يشرح فيه إحدى الحقائق الأولى في أميركا اليوم، المتمثلة في أنّ أميركا تعيش عصر وسائل الإعلام: «كيف أنّ الشهرة تعني السلطة». وكيف أن هنري كيسنجر، الرجل النفعي الأصولي، تمكّن من الاستيلاء على سلطة واسعة من دون أن يكون قد انتخب أبداً، وكيف أنه يدوس بانتظام قواعد الديمقراطية كلها مستغلاً ليلاً ونهاراً أجهزة الإعلام المتواطئة معه.
وهكذا، وبدلاً من فحص النتائج الأخلاقية والمعنوية لهذا الطلاق المتزايد بين الثقافة واللامعنى، تبدو المنظومة الإعلامية وكأنها تريد الانتفاع من غرائز الناس وحاجاتهم، ومن أكثريتهم ـ خصوصاً العمّال والفقراء ـ إلى ترميم تعبهم وجهدهم المبذول في سبيل لقمة العيش بـ«الزمن الأحبائي»، أي بتفريع الإرهاق الذي يستبدّ بحياتهم ببرامج لا تحتاج إلى أيّ مجهود ذهني: أن يستردوا ما فقدوه، وذلك بتعويض وهميّ على حدود الحياة الواقعية نجوم الرياضة والتمثيل والمسلسلات المخصّصة للعنف ولمغامرات العشاق… وكأن الحياة كلّها تسلية، أو تعليقاً موقتاً.
وتتزايد خطورة هذه الظاهرات لأن التلفزيون هو من يقود اليوم منظومة الاتصال ويلعب دور المحرّك، لا بل القاطرة، ويفرض معاييره الخاصة به من ميله إلى الإعلانات وعبادة الإثارة، وإجبار الإعلاميين في الصحف المكتوبة على القيام بمراجعة مؤلمة لدورهم في السباق، هذا في حين أنه كان ينبغي عليهم أن يجعلوا واحدة من مهامهم الأساسية إبطاء تيار الانحراف، وأن يقدّموا للمواطن العناصر اللازمة لتحليل الأفكار ومساعدته في مقاومة الانزلاقات الخطيرة نحو تفضيل الصور المثيرة والمزيفة.
وهكذا إذاً، فإن التلفزيون باستيلائه على قمة الهرم الإعلامي، فرض على باقي وسائل الإعلام ضلالاته وانحرافه. وفي المقام الأول منها: موقع الصور ودورها، بحيث يكون الخبر بلا صورة خبراً غير صالح للتداول. ولذلك أخذت الحوادث الصور المثيرة ذاتها في هذا السياق القديم المعلّى.
والمفارقة هنا، أن الإعلام المكتوب ظنّ نفسه قادراً على تكرار الانفعال الذي يشعر به مشاهدو التلفزيون: يظهر ذلك في اعتماد النصوص والعناوين التي تلعب على الوتر العاطفي، أي مخاطبة العواطف والغرائز، مقابل إهمال الأزمات الخطيرة التي لا صور لها، وبالتالي التي تحتاج إلى تغطية.
وليس أقلّ مفارقة أن السلطات السياسية، عرفت فعلاً كيف توظف هذا الموضوع لصالحها. فإذا بها تسهر بغيرة شديدة حتى لا تنشد أيّ صورة ذات علاقة بالموضوعات والقضايا الحساسة والمثيرة للشبهات… أي أنها تتصرف بنوع من الرقابة الانتقائية: الأنباء المكتوبة والشهادات الشفهية تبثّ عند الاقتضاء، أو أنها تُحدث الأثر نفسه، بل أن «وزن الكلمات لا يساوي صدمة التصوير، ولأن الصورة ـ كما يقول خبراء التواصل ـ تطمس الصوت، والعين تتفوّق على الأذن، ولذا فإن بعض الوقائع ممنوع كلّياً نشر صورها. وهذه هي أنجع الوسائل في إخفائها، فمن غير الصورة لا واقعة».