جبران الأطرش… الشهيد الذي لم يستشهد
ل ن
لا بدّ وقد تحدثنا عن المهرجان الذي أقيم في مخيم ضبيه وأنشدت فيه الرفيقة أدال نصر نشيد «موطني يا توأم التاريخ» 1 ، إلّا أن نتذكر بتقدير كبير، ابن المخيم الرفيق جبران الأطرش، القومي الاجتماعي الذي يصحُّ أن نطلق عليه لقب «الشهيد» لمواقفه الحزبية الصلبة، ولكل ما تعرّض له من صنوف التعذيب لدى اعتقاله مشاركاً في الثورة الانقلابية.
كذلك لا بدّ لي أن أذكر الرفيق موسى جريس أبو جورج الذي كان له نشاطه المعروف ومسؤولياته في اتحاد عمال فلسطين، ثم اضطرّته ظروف الحرب اللبنانية للمغادرة إلى النروج.
كنت قد استلمت من الرفيق جريس معلومات جيدة عن الحزب في كل من بلدة ضبيه، والمخيم، وهذه تؤسّس لكتابة نبذة تضيء على الحضور القومي الاجتماعي فيهما.
يُحكى الكثير عن الرفيق جبران الأطرش منذ أن اعتُقل لمشاركته في الثورة الانقلابية، عن مواقفه الجريئة، وتحمّله الكثير من التعذيب. الرفقاء الذين كانوا معه في الأسر تحدّثوا. والرفقاء الذين عرفوه في السنوات التي قطن فيها إلى جوار منزل الأمين الدكتور عبد الله سعاده في منطقة قريطم 2 . يملكون الكثير من النوادر عنه، فقد كان ظريفاً، إلى جرأة، وإلى إيمان مطلق بالحزب.
إلّا أن ما رواه الأمين عبد الله سعاده في مذكراته «أوراق قومية»، على قلّته، يكفي عنواناً لمسيرة رفيق بطل، عانى الكثير وبقي شامخاً كالسنديان، جذوره في تربة الحزب تضاهي بعمقها جذور أرز بلادنا.
في الصفحات 144-147 يتحدّث الأمين سعاده عن صنوف التعذيب الذي تعرّض لها الرفقاء الأسرى 3 ، ويورد نماذج عن هؤلاء الرفقاء، ومنهم الرفيق جبران الأطرش. إذ يفيد أنه ضربه وتعذيبه استمرّا يومياً، لأكثر من سنة، وكان مرشّحاً للتصريف كغيره.
وعن تجسيد الرفيق جبران قسمه الحزبي يروي الأمين عبد الله سعاده في الصفحة 155 من «أوراق قومية»:
«اتهم الرفيق جبران الأطرش بقتل الرقيب شمعون لدى دخول القوميين الاجتماعيين إلى بيوت الضباط لأسرهم. أثناء المحاكمة الأولى أصرّ الرفيق جبران الأطرش على أنه لم يقتل الرقيب شمعون. وكان الصدق في كلامه يعلو أكثر من نبرة صوته. والرفيق الأطرش، تعرّض أكثر من الرفقاء من دون استثناء للضرب المستمر مرّة أو أكثر في كل يوم، وذلك لسببين: أوّلاً، لأنه متهم بقتل الرقيب شمعون، وثانياً، لأنه فلسطينيّ. وقد روى لي أن أحد الجنود حاول قتله أثناء اعتقاله، ولكن الرصاصات لم تنطلق لخللٍ في المسدس. أما أنا فقد شاهدت بعيني الاعتداءات المتكررة عليه كلّما توجّه إلى المراحيض أو الحمّامات.
بعد المحاكمة الأولى استدعيته إلى غرفة المحامين وقلت له: يا رفيقي، لقد أكدتَ في المحكمة أنك لم تقتل الرقيب شمعون، وأنت كنت أحد أفراد مجموعة الدخول إلى بيوت الضباط. هل تعرف من الذي قتل شمعون؟ فأجاب: نعم أعرفه. قلت له: ولكن الاتهام موجّه إليك وحدك وسيصدر حكم بالإعدام عليك بهذه التهمة إذا كنت ستستمر في كتمان معلوماتك. فهل تسمّي لي من هو القاتل؟ قال: كلا، فأنا لا أخون رفيقي ولا أكشف سرّه. قلت: ولكنني المسؤول الحزبي الأول ورئيسك السابق، ومن موقع المسؤولية أطلب إليك أن تخبرني. فتجهّم وجهه وسكت طويلاً ثم قال: فلان. فسألته: ولماذا تتقبل حكم الاعدام بدلاً منه؟ فقال: لأن زوجتي نشيطة، وإذا متُّ فهي قادرة على تأمين العيش اللائق لبناتي الثلاث. أما هو فله ثلاث بنات مثلي، ولكن زوجته غير مؤهلة لتأمين العيش اللائق لهن ومن الأفضل في هذه الحال أن أقبل الموت بدلاً عنه».
بدءاً من الصفحة 164، يشرح الأمين عبد الله سعاده كيف تمّ إقناع الرفيق جبران للمثول أمام المحكمة، بعدما قرر الرفقاء الأسرى مقاطعة جلساتها. ولكن الرفيق الأطرش اعترض قائلاً: «شو أنا خاين؟» «فأقنعناه بأنه يقوم بواجب وتضحية، لا يجوز أن يتهرب منها… فوافق».
وهكذا، تابع الرفيق الأطرش جلسات المحكمة التي انتهت فصولها في أواخر أيلول سنة 1963. وألقى الاستاذ يوسف السودا دفاعه عن الرفيق جبران الأطرش الحاضر ورفاقه، وبدأت المذاكرة السرية لهيئة المحكمة، بينما أهالي القوميين الاجتماعيين المتهمين وعدد من الرفقاء المتابعين يتجمهرون كل يوم حول مبنى الأونيسكو وثكنة الأمير بشير لسماع الحكم الخطير المرتقب 4 .
وأخيراً صدر حكم المحكمة في 15 تشرين الثاني 1963 بالأكثرية ويقضي بإعدامات عدّة منها ثمانية أحكام وجاهية بحق العسكريين الثلاثة ورئيس الحزب عبد الله سعاده، ورئيس المجلس الأعلى محمد البعلبكي وعميد الدفاع بشير عبيد، والرفيقين جبران الأطرش ومحسن نزهة.
تُليت الأحكام على المحامين والأهالي لأننا كنّا لا نزال مضربين عن الحضور إلى قاعة المحكمة، وكنّا قد كلّفنا الرفيق جبران الأطرش بتمثيلنا في هذه الجلسة. ولكن ما إن انتهى لفظ الأحكام على جميع المتهمين، حتى أخذ رئيس المحكمة قرار الحكم بيده وتلا مخالفته القانونية المعللة لهذه الأحكام. ذلك أنّ القانون الجزائي اللبناني يطالب القاضي رئيس المحكمة، إذا خالف الأحكام، أن يدوّن مخالفته في قرار الحكم ويذيّلها بتوقيعه، فكان لهذه المخالفة صدى كبير في الرأي العام القضائي والشعبي اللبناني، وفي المحافل الدولية المعنية بحقوق الانسان. أما الرفيق جبران الأطرش، فقد توجه إليه كاتب المحكمة وتلا عليه حكم الإعدام الصادر بحقه، فكان ردّه: على … فأجابه الكاتب: ولاه انت مجنون، أقول لك إنك حُكمت بالاعدام، فتردّ بوقاحة هكذا؟ فقال له: أوليس أشرف لي أن أموت في سبيل قضية شعبي وبلادي، من أن أموت غداً صعلوكاً مثلك على فراش المرض؟. فقال الكاتب: مجنون، مجنون… وغادر، وجيء بالرفيق جبران الاطرش مخفوراً إلى مهجعنا. وعندما دخل سألته: بشّر يا جبران، فقال لي: إعدام، وبالجملة. فقلت له: كم؟ قال: لا أدري. ولكنك في رأس القائمة. فقلت له: ماذا تأمر الآن؟ أجاب: جوعان بدي آكل. وجلس يأكل بشهية مميزة والضباط والحرس يراقبونه ويراقبوننا بتعجب».
المعلومات أدناه كانت قد دُوّنت من الرفيق جبران الاطرش منذ سنوات.
بطاقة شخصية
الاسم الكامل: جبران ابراهيم الأطرش.
مواليد عام 1927، البصّة قضاء عكّا.
اسم الأمّ: هلّون الياس السمّور من منطقة صور .
الأشقاء: جريس، خليل، مخايل.
الأبناء: راغدة، إليسار، مرتى، حبشة.
تاريخ مغادرة فلسطين: عام 1949 على إثر القتال مع اليهود. غادر القرية معظم سكّانها، ما عدا العجزة.
مرحلة التعرّف إلى الحزب: قبل الخروج من فلسطين لم يكن للرفيق جبران أيّ علاقة بالحزب، كل ما كان يعرفه أن هناك جمعية في قريته البصّة تضمّ حوالى 40 شخصاً وعلى رأسها جميل الليّوس. كل ما سمعه عن هذه الجمعية أنه كان ينسب إليها قربها من الحركة النازية.
بعد خروجه من فلسطين توجّه الرفيق جبران وأهله إلى المية ومية، ثم إلى الشام للتطوع في القتال ضد اليهود، متوجهاً إلى منطقة بنت جبيل، وتحديداً إلى بلدة عين إبل، حيث التحق بجيش الإنقاذ كشرطيّ عسكريّ تحت أمرة فوزي القاوقجي.
استقرّ حوالى سنتين في المنطقة حيث استأجر منزلاً. في هذه المرحلة كان يسمع أخباراً جيدة ومرويّات حسنة عن القوميين، فبدأ يبحث عنهم إلى أن وصل إلى من دلّه على القوميين في دبل، وتحديداً الرفيق جميل النداف فأصبح ينتقل كل ليلة من عين إبل إلى دبل ويتابع لمدة ثلاثة أشهر الحلقات الإذاعية التي كان بعضها يتمّ في الحقول والكروم. كان يتابع معه تلك الحلقات ما يقارب خمسة عشر شخصاً، ثلاثة منهم من بلدة عيتا الشعب.
بعدئذٍ، أقسم اليمين في مديرية دبل على يد مديرها الرفيق جميل النداف.
عام 1951 انتقل وأخوه مخايل إلى مخيم الضبية حيث التقى بجميل الليّوس، المذكور آنفاً، حينذاك اكتشف أنه قومي وأنّ الجمعية التي كان يرأسها في البصّة لها علاقة بالحزب. دعي إلى أداء القَسَم في المخيم مرّة ثانية، كونه لم يكن لديه ما يثبت انتماءه في دبل، فتمّ ذلك على يد الرفيق جريس حنّا الحاصباني الذي كان مديراً. من معلومات الرفيق جبران أنّ المخيم ضمّ مديريتين، ومن الرفقاء الذين يذكرهم في تلك المرحلة: يوسف الحداد وإميل خوري.
عام 1956، شارك في عمليات نقل السلاح من ضهور الشوير إلى الضبيه فبيروت الشياح ثم إلى فلسطين، وفي إحدى المرات، وقد أحبطت عملية نقل السلاح، أعيد السلاح الذي بقي في المخيم إلى منزل الأمين بشير عبيد في بيت شباب.
عام 1958 شارك في القتال في شملان.
مشاركته في الانقلاب
كان ضمن زمرتين أو ثلاثة، على ما يذكر، تحت أمرة الأمين عمر أبو زلام. أمّا المهمة فكانت اعتقال الضابطين عبد القادر شهاب وتوفيق جلبوط في مساكن الضباط في شارع محمد الحوت، ونقلهما إلى ديك المحدي. جرى إطلاق النار، ما أدّى إلى مقتل رقيب وعسكريّ في الجيش. الأمين ديب كردية تسلّم الضابطين المذكورين ونقلهما إلى ديك المحدي. إليها انتقل الرفيق جبران، وإذ تأكد من فشل الانقلاب توجه إلى مخيم ضبيه. في اليوم التالي، اعتقل، إنما أخلي سبيله بعد 18 يوماً. ثم أعيد اعتقاله في شهر شباط. تعرّض للضرب في المخفر ثم نُقل إلى وزارة الدفاع. أما سبب اعتقاله في المرة الثانية أنّ أحد القوميين المعتقلين كشف للمحققين أنّ الرفيق جبران هو الذي أطلق الرصاص على الرقيب، فيما اُتهم الأمين محسن نزهة بقتل العسكريّ، فلم ينكر هذه التهمة مع أنه يعرف من الذي أطلق النار، كذلك فعل الرفيق جبران الذي واظب على الإجابة بـ«ما بعرف» خلال التحقيقات، على رغم كل ما تعرّض له من تعذيب.
أحكام الإعدام
أصدرت محكمة التمييز العسكرية حكم الإعدام بكل من:
الأمين عبد الله سعاده رئيس الحزب .
الأمين محمد بعلبكي رئيس المجلس الأعلى .
الرفيق بشير عبيد عميد الدفاع الامين لاحقاً
الرفيق محسن نزهة الأمين لاحقاً .
الرفيق جبران الأطرش.
النقيب الرفيق فؤاد عوض الأمين لاحقاً .
النقيب الرفيق شوقي خير الله الأمين لاحقاً .
الملازم الرفيق علي الحاج حسن الشهيد لاحقاً .
هوامش
1. للاطّلاع على النبذة، الدخول إلى أرشيف تاريخ الحزب على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
2. من الأمناء والرفقاء الذين أذكر أنهم أقاموا في تلك المنطقة، الأمناء: عبد الله محسن، صلاح دبا، جميل عساف. والرفقاء: نعمة حماده، سمير حبايب، سليم عازوري، وفوزي غنطوس.
3. يقول الأمين عبد الله سعاده: «ذات يوم، أدخلوني إلى بناية الثكنة الكبرى التي يقطن في مهاجعها الـ18، ثلاثة آلاف معتقل. وأصعدوني إلى الطابق الرابع حتى وصلت إلى مهجع كبير وجدت في وسطه الرفيق خليل دياب كتلة من لحم عاجزة عن التحرك. واقتادوني إلى المهجع المجاور وبدأت عملية الجلد والتعذيب حتى تساويتُ برفيقي خليل دياب، وهذه الحالة استمرت مدة شهرين كاملين ونصف الشهر».
الرفيق أسد الأشقر: اعتقل بعدما أصيب بكسر في ذراعه وفخذه. وقد أجريت له عملية تجبير وكانت حرارته مرتفعة جداً وتصل أحياناً إلى الاربعين، وعلى رغم هذا، استمر التحقيق معه ليلاً ونهاراً من دون إعطائه أيّ مجال للراحة وهو في هذه الحالة المَرضية الصعبة. ثم ان الجلادين اكتشفوا أن بإمكانهم ممارسة الجلد على الساق الثانية السليمة وهكذا كان، فجُلد على ذراعه وساقه السليمتين.
الرفيق فؤاد يونس: عُذّب هذا الرفيق تعذيباً بربرياً حتى استُشهد فأرسل إلى براد الكرنتينا لتحفظ جثته، وبينما كان الممرض يدخله إلى دُرج البراد، تحرّك فؤاد يونس فانتبه اليه الممرض واسترجعه من البراد، فبُعث حيّاً، وعاد إلى الثكنة ومثل أمام محكمة التمييز.
الرفيق الفقيد علي الحاج حسن: استمرّ ضربه ثلاثة أشهر يومياً، مرّة إلى مرتين على الأقل، وهو العليل المريض وقد توفي هذا الرفيق متأثراً بمرضه قبل صدور العفو عنه.
الرفيق عبد الرسول أبو خليل: فقد بصره في السجن ولم يعالج إلا بعد انقضاء ست سنوات على اعتقاله بحيث لم يعد ينفع العلاج.
الرفيق ديب كردية: كان يُجلد وهو جريح وعار من الثياب، وكان هذا الرفيق مرشحاً للتصريف مع الرفيقين مسلط أبو فخر وعادل أبو فخر، لولا تدخل أبناء منطقته من الرتباء.
4. كنتُ من بين الذين كانوا ينضمّون إلى عائلات الرفقاء الأسرى، مع رفقاء نشطوا في تلك الفترة الصعبة. قطعة الأرض التي كنّا نتجمع فيها تقع في مواجهة الباب الرئيسي لقصر الأونيسكو، ولم تعد قائمة حالياً.