الكاتب المنطوي لم يجد مَنْ ينتشله من حزنه العميق فمضى إلى موته الإراديّ

سلوى صالح

يقدم الكاتب نبيل رضا المهايني في كتاب تولى تأليفه وترجمته عن الإيطالية بحثاً متكاملاً عن الشاعر والروائي والكاتب الإيطالي شيزاري بافيسي يتضمن مقتطفات من أشهر أشعاره ومقالاته وأقواله وملخصات لأهم رواياته وقصصه، إضافة إلى شذرات من أهم ما قيل عنه وعن أعماله. ويتناول الفصل الأول من الكتاب حياة بافيسي المولود 1908 شمال غرب إيطاليا منذ طفولته المأسوية ثم كفتى ذي شخصية انطوائية منعزلة ثم يعرض فصولاً من حياته المعذبة وتجارب حبه الفاشلة ومحاولاته الأدبية كأديب مغمور في البداية ومشهور، ثم نجاحه في مجال الترجمة وحياته في المنفى. وتمنى بافيسي في منفاه أن يخترع العباقرة دواء مخدراً يضمن له سباتاً يدوم طوال مدة نفيه، فقد حكم عليه بالنفي ثلاث سنوات لمجرد أنه قبل بتسلّم بريد له صفة سياسية يخص حبيبته ما أثر تأثيراً ملحوظاً على شخصيته الغريبة والمعقدة في الأصل.

في مرحلة الدراسة الثانوية انتقل بافيسي من الريف إلى مدينة تورينو، فكتب مرة الى أحد أصدقائه أن الريف قد يكون رائعاً إذا قصدناه لراحة النفس خلال فترة مؤقتة، لكن الحياة الحقيقية هي الحياة في مدينة كبيرة مليئة بالضجيج والمصانع والعمارات الضخمة والنساء الفاتنات.

يتطرق الكتاب الصادر لدى الهيئة السورية للكتاب تحت عنوان «شيزاري بافيسي… حياته وأعماله» ضمن سلسلة أعلام الأدب العالمي، إلى فترة الحرب التي مرت بها إيطاليا وتأثيرها في الشاعر، إذ يرى بعض النقاد أنه ليس هناك أكثر من بافيسي تمثيلاً للحقبة التاريخية المضطربة التي عاشتها إيطاليا في عقد صعب من تاريخها بين عامي 1940 و1950 ما أدى في نهاية الأمر إلى إقدام بافيسي على الانتحار في الثانية والأربعين من عمره.

يتضمن الفصل الثاني تحليلات وأقوالاً حول مؤلفاته الروائية والشعرية وأهمها: «سيأتي الموت عيناه عيناك»، «البيت على الهضبة السجن»، «العمل يرهق»، «مهنة الحياة»، «بلدانك»، «الرفيق»، «الصيف الجميل»، «الشيطان على الهضاب»، «بين نساء وحيدات»، «القمر والمشاعل»، «الشاطىء»، «حوار مع ليوكو». ويقدم الكاتب المهايني في الفصل الثالث مقاطع مختارة من تلك الأعمال، خاصة الأعمال الشعرية مثل قصيدة أنت يا رائحة آذار»: «جئت في آذار/ على الأرض العارية/ رعشتك مستمرة/ يا دم الربيع».

في الفصل الرابع مقاطع نقدية تتناول أعماله وشاعريته وأفكاره، وما سمي بواقعيته الوجودية، إذ تدور أعمال بافيسي بين الواقعية والرمزية، إذ يتحول واقع منطقة اللانغي التي ولد فيها ومدينة تورينو التي نشأ فيها الى مسرح تنعكس عليه دواخل نفسه وقلقه الوجودي الجوهري وأساطير خيالاته وبحثه عن الأصالة وعن هواجسه النفسية، ولذلك فإن البطل في الهضاب والمدينة هو وعي الكاتب وإدراكاته لها وليس واقعها الخارجي البيئي والتاريخي.

أكثر الاستشهادات بأقوال بافيسي مأخوذة من مذكراته التي كتبها بين عامي 1935 و1950 ونشرت في ما بعد في كتاب مليء بالتشاؤم، عنوانه «مهنة الحياة» واتسمت الصفحات الأولى من المذكرات بتأملات نظرية حول العلاقة بين الشعر والرواية، أما في الفصول التالية فنرى عودة المعنى الديني إلى الألم، إنما في هيئة علمانية تتمثل بعلاقات إنسانية ملموسة.

من أقواله المشهورة: «إننا لا نبحث عن أفكار جديدة عندما نقرأ، بل نبحث عن أفكار كنا فكرنا فيها وتتأكد مجدداً على الورق. نحن لا نذكر الأيام بل نتذكر اللحظات. إننا نحصل على الأشياء التي نريدها عندما لا نريدها. الحياة هي وجود لأجل الموت».

كان بافيسي يظن نفسه وحيداً في هذا الوجود، وكان يشعر بأنه لا يمكن لأي انسان أن يقف الى جانبه وينتشله من حزنه العميق الذي تشرنق داخله، لذلك حقق بانتحاره حلماً كان يراوده طوال حياته وكتب على الصفحة الأولى من رواية «حوارات مع ليوكو» التي تركها على طاولة الى جانب سريره في غرفة الانتحار في أحد فنادق تورينو: «سامحت الجميع وأطلب السماح من الجميع». ومع ذلك نجد في نصوصه الشعرية مقاطع تحوي ومضات من الأمل فلا نصدق أن الإنسان الذي كتبها سيقدم على الانتحار يأساً: «ستكون هناك أيام أخرى/ أصوات أخرى وصحوات/ سنعاني في الفجر يا وجه الربيع».

ما برحت إيطاليا وعشاق الأدب العالمي يذكرون أديبا كبيراً اسمه شيزاري بافيسي كأحد أهم الأدباء الإيطاليين في القرن العشرين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى