سنة على رحيل من عاش ليروي وكتب ليبقى حيّاً… غابرييل غارسيّا ماركيز
عمر ح الدريسي
يوم 17 نيسان من هذه السنة، حلّت الذكرى الأولى لوفاة من عاش ليروي، «عشتُ لأروي» وكتب ليبقى حيّاً، «أكتب لأبقى حيّاً». الكاتب العظيم هو من يرحل جسده ويبقى عطاؤه ليحكي عنه دوماً، الكاتب الحقيقي هو من له قدرة الإصرار والإمساك فجأة باللحظة الدقيقة التي تنبثق منها الفكرة، «مثل الصياد الذي يكتشف فجأة، خلال منظار بندقيته، اللحظة التي يقفز فيها الأرنب». الكاتب العظيم هو من يعرف أنّ القصة تُولد ولا تُصنع، كما أنّ الموهبة ذات قيمة أساسية، إلا أنها بالطبع، لا تكفي وحدها، المهم لدى الكاتب الموهوب أن يتعلم، أن يمتهن ويَتَمَهْنَن، أن يرود أنامله على اجتراح الكَلِم، ويصقل قلمه على عذوبة الأسلوب، أن يعلم كيف يكتب بخبرة المُتعلّم ووعي الإنسان الحكيم المثقف، المطّلع ، كيف يبدع، ليكتب بحبّ، ليسبر أغوار الذات والروح والنفس الإنسانية، ومن دون ضجر بالنسبة إلى القرّاء على اختلاف تنوّع ثقافاتهم ومرجعياتهم. فكيف اجتمع في كتابات ماركيز ما تفرّق في غيرها لدى الغالبية الساحقة من الكتّاب والمبدعين عبر الأصقاع؟
«عشت لأروي»
يُقال: «التعليم في الصغر كالنقش في الحجر» و«التعليم في الكبر كالنقش في الماء». دشّن غابرييل غارسيا ماركيز عهده مع الكتابة منذ الصغر، إذ يعترف: «كانت حكاياتي في معظمها أحداثاً بسيطة من الحياة اليومية، أجعلها أكثر جاذبية بتفاصيل متخيّلة كي يُصغي إليّ الكبار، وكانت أفضل مصادر إلهامي، هي الأحاديث التي يتبادلها الكبار أمامي، لأنهم يظنّون أنني لا أفهمها، فيشفّرونها عمداً كي لا أفهمهما، لكن الأمر كان خلاف ذلك، كنت امتصّها مثل اسفنجة، ثم أفكّكها إلى أجزاء، وأقلبها لكي أخفي الأصل، وعندما أرويها للأشخاص أنفسهم الذين رووها في ما بينهم، تتملكهم الحيرة للتوافق الغريب بين ما أقوله وما يفكرون فيه».
«عشتُ لأروي» يقول الروائيّ غابرييل غارسيا «إن نصف الحكايات التي بدأت بها تكويني، سمعتها من أمي. وهي لم تسمع مطلقاً أي كلام عن الخطاب الأدبي، ولا عن تقنيات السرد، ولا عن أيّ شيء من هذا. لكنها تعرف كيف تُهيّئ ضربة مؤثرة، وكيف تخبّئ ورقة آس في كمِّها خيراً من الحواة الذين يخرجون مناديل وأرانب من القبعة. إن الشيء الوحيد الذي أثار اهتمامي منذ كنت طفلاً، أن يحبّني أصدقائي أكثر…». كانت رغبة طفولية بحق، نَمَت حقاً، بعطر الجبين وشجاعة الإبحار عميقاً بين سحر الكلمات وفنّ الحكي وروعة الحبك وسلاسة السرد وجمالية الصور والنصوص، حتى أصبح فعلاً محبوب العظماء وساحر القراء وملهم اليافعين ومثال الكتّاب المبدعين.
مهمنة انتحارية
عاش غابرييل غارسيا ماركيز حقاً ليكتب ويروي، أصدر تأملات عن حياته، وهي شبه سيرة ذاتية موسومة بمصائب مؤلف كتاب، نشرها في تموز عام 1966، إذ عبّر قائلاً: «إن تأليف الكتب مهنة انتحارية، إذ ما من مهنة غيرها تتطلب قدراً كبيراً من الوقت، وقدراً كبيراً من التفاني مقارنة بفوائدها الآنية. إنني لا أعتقد أن عدداً كبيراً من القرّاء يسألون أنفسهم بعد الانتهاء من قراءة كتاب ما، عن عدد الساعات المؤلمة، والبلايا المنزلية التي مرت على المؤلف في أثناء تأليفه مئتي صفحة، أو ما هو المبلغ الذي حصل عليه لقاء عمله ».
ولا ننسى الإحباط الشديد الذي عاناه الكاتب في بدايات مغامراته الإبداعية مع والده، ومع دور النّشر، التي غالباً ما كانت تحبطه برفض طبع أعماله، لا بل أنّ دوراً قدّمت له النّصح بالبحث عن مهنة أخرى غير مهنة كاتب. إلا أن مؤازرة زوجته مرسيدس له، وعزمه الفولاذي، وإرادته العجائبية على أن يكون محبوب الناس قولاً وفعلاً، خلقت منه البطل والساحر والعبقري، وكل هذا انعكس فعلاً على كتاباته بوضوح وجلاء، سواء في المقالة الصحافية أو في القصة أو في الرواية.
السبب الذي يدفعنا إلى الكتابة
يتساءل الكاتب، على رغم إيمانه العمق، يقول: «أن أكون كاتباً من الكتّاب، ليس سوى إنجاز استثنائي، لأنني رديء جداً في الكتابة، وعليّ أن أخضع نفسي لانضباط بشع كي أنجز كتابة صفحة واحدة بعد ثماني ساعات من العمل. إنني أناضل نضالاً جسدياً مع كل كلمة، لكن الكلمة هي التي تفوز على الغالب، لكنني عنيد جداً، حتى أنني تمكنت من نشر أربعة كتب خلال عشرين سنة. أما الكتاب الخامس الذي أكتبه الآن، فكتابته أبطأ من كتابة باقي الكتب لأنني لا أملك إلا النذر اليسير من الوقت بين كثرة الدائنين وحالات الصداع».
فكان الجواب مجازياً «عشتُ لأروي»، لكنه كان بالفعل الجاد والعمل الخالد إبداعات روائية عالمية. «عشتُ لأروي» رواية «مئة سنة من العزلة»، رواية تتسم بالحكاية، وكأنها «ألف ليلة وليلة» الشرقية، والتسلسل غير المنسجم وكأنها بدايات بلا نهايات، صراع أسطوري عبر الأجيال، يروي الكاتب أحداث المدينة من خلال سيرة عائلة «بوينديا» على مدى ستة أجيال والذين يعيشون في قرية خيالية تدعى «ماكوندو»، من خلال الأحداث، عمل غابرييل غارسيا ماركيز ـ بشاعريته وخياله الثاقب وسحر حبكه الواقعي ـ على فضح تاريخ الحروب والدكتاتوريات في القارة المشبعة بالأسطورة والأبطال والطغاة. القارة التي لم تحظ ببرهة طمأنينة نتيجة العنف والمظالم، فعاشت عزلة قسرية، لذالك ربما عنون روايته بـ«مئة سنة من العزلة».
ولفكّ تلك العزلة عن المجتمع الأميركي اللاتيني، أتى الكاتب برواية «الحب في زمن الكوليرا»، إذ اعتبر الكاتب أن الاهتمام بالحب والجمال والرومانسية السبيل الأفضل للإبحار بأمان ضد الظلم والاضطهاد، وهو وقود الأمل في الحياة، «لقد كنت مؤمناً على الدوام بأنّ الحبّ قادر على إنقاذ الجنس البشري من الدمار، وهذه العلامات التي تبدو ارتداداً إلى الوراء، هي على العكس من ذلك تماماً في الحقيقة: إنها أنوار أمل». ويضيف: «إن هذا الحبّ في كل زمان وفي كل مكان، ولكنه يشتد كثافة كلما اقترب من الموت».
قلمه الصحافي
«عشتُ لأروي» لم يكتف الكاتب بالرواية والقصة والمسرحية وباللغة الشعرية العظيمة الراقية وحسب: بل كان مناضلاً وإعلامياً، أعلن تخوّفه من السلاح النووي المنتشر عبر العالم مطلع القرن الواحد والعشرين، وتخوّفه من قتامة الأوضاع الاجتماعية والهيمنة والاستغلال الإمبريالي، أبدع في السرد والوصف وحبك الحكايات الممتعة التي تشدّ القراء شداً بليغاً، له مواقفه الواضحة في رواية «خريف البطريرك»، في مناهضة الاضطهاد والعنصرية والدكتاتوريات المتناسلة عبر العالم.
ربما كان يساريّ الهوى السياسي، تقدّميّ الأفكار والقناعات، يقول الجامعي البريطاني جيرالد مارتن مؤلف كتاب سيرة الروائي «غابرييل غارسيا» وترجمه إلى اللغة العربية الدكتور محمد درويش: « كان بوليفار وآليندي ووفوينتس وعمر توريخوس وكور تاثار وكاستر ومن الذين احتفى بهم، وعزّز بهم مواقفه..»، إلا أن هذا لم يمنع غابرييل بحسب كاتب سيرته في نسج علاقات مع الشخصيات الغربية النافذة مثل فرنسوا ميتران الرئيس الفرنسي، ملك إسبانيا، عائلة كلنتون
عام 2001، وبعد تردد كبير وللأمل في حياة أفضل لزوجته وأولاده، قال حين وقّع العقد مع هوليوود لتحويل رواية «الحبّ في زمن الكوليرا» إلى فيلم سينمائيّ: «لقد كبرت، وكل نفس ذائقة الموت، ولا بدّ من التفكير في تأمين مستقبل الأولاد، ومعهم زوجتي، التي أحبها منذ نصف قرن ولا أستطيع أن أغادر وأتركها في مهبّ الرياح ».
إِن تخلى بعض المثقفين العرب عن قضية فلسطين، لم يتخلَّ عنها غابرييل غارسيا ماركيز، بل دافع عنها عبر مواقفه الكثيرة المضيئة في مسيرته الحافلة بالمبادرات الخلّاقة إذ نشر عام 1982 بيانه الشهير عن مجزرة صبرا وشاتيلا، وعام 2002، ندّد باقتحام القوات الصهيونية المدن الفلسطينية في الضفة، وأصدر البيان الناريّ الذي ندّد فيه بمواقف الكتّاب والمثقفين المتخاذلين في العالم، وقال في نهاية البيان: «لكل هؤلاء أقول أنا غابرييل غارسيا ماركيز أوقّع هذا البيان منفرداً».
الانسجام بين الخيال والقناعات والتصرّفات
رواية «قصة موت معلن»، تحكي عن جريمة قتل قام بها التوأمان «فيكاريو» دفاعاً عن شرف أختهما ضدّ سانتياغو نصار، ومع هذا، لم يتحرك أحد لمنع الجريمة مع أن الأدلة لم تكن ثابتة على الضحية، هل معنى ذلك أن هذه المدينة بأجمعها، برجالها ونسائها وسلطاتها، لا بل أكثر من ذلك، أصدقاؤه أيضاً، كانوا يريدون الخلاص من سانتياغو نصار؟ ذلك في الروية. أما الواقع، فعلى فراش المرض، غابرييل غارسيا ماركيز لم يستسلم، فكتب رسالة إلى أصدقائه ومحبّيه عبر العالم: «لقد تعلمت منكم الكثير أيها البشر تعلمت أن الجميع يريدون العيش في قمة الجبل، غير مدركين أن سرّ السعادة تكمن في تسلّقه حافظ بقربك ممّن تحب، اهمس في آذانهم، إنك بحاجة إليهم، أحببهم واعتنِ بهم، وخذ ما يكفي من الوقت لتقول لهم عبارات مثل: أفهمك، سامحني، من فضلك، شكراً، وكل كلمات الحب التي تعرفها. لن يتذكرك أحد من أجل ما تضمر من أفكار ».
لقد غادر الكاتب هذا العالم منذ سنة، وهو الذي قال: «ليس العمر ما يملكه المرء من سنوات، بل ما يملكه من أحاسيس»، صاحب كتابة الإبداع السحري الواقعي، الحائز جائزة نوبل للآداب لعام 1982. منذ سنة، غادرنا الروائي العظيم، وذلك يوم الخميس 17 نيسان 2014، عن عمر ناهز 87 في منزله في العاصمة المكسيكية، بعد معاناة مريرة مع المرض، وقد نعاه آنذاك الرئيس الكولومبي بقوله: «العظماء لا يموتون أبداً». ونعاه أيضاً الكاتب الكولومبي الدكتور عمّار علي حسن، قائلاً: «البشرية فقدت واحداً من أعذب الأقلام، ومخيّلة من أخصب المخيّلات، وكاتباً كبيراً من كتّاب القرن العشرين».
لم ترحل السيد غابرييل غارسيا ماركيز، فأعمالك ستخلدك. لم تمت، إنّك حيّ في الكلمات كل عبارة في أعمالك، درس بليغ وحكمة مستقلة، وحياة أخرى، تتجد كلما وقعت عين قارئ عليها لما تمنحه له من روح ونفس وسحر وجمال إنها فعلاً حياة وعي. حياة الإنسان كإنسان حقاً. لا صورة وهيكل إنسان خالٍ من الإنسانية!