الحكاية الشعبية… وسطوة المفاهيم النقدية
معجب العدواني
وصف الشاعر العربي طريقة تلقيه موروثه الشعبي بقوله:
فاتني أن أرى الديار بطرفي
فلعلّي أعي الديار بسمعي
كانت تلك إحدى طرائق التلقي التقليدية، فإنني أفضل أن نعي هذا الموروث بوعي مختلف يتمثل في نموذج مغاير للتلقي يتجاوز السمع إلى الكتابة، عبر ملامسة ما امتزجنا به وامتزج بنا، حتى لا يمضي موروثنا الحكائي الشعبي ـ وهو جزء من الأدب الشعبي، ونحن معه ـ إلى الهلاك.
يهدف هذا العنوان: «الحكاية الشعبية وسطوة المفاهيم النقدية»، إلى تناول أشكال التأويل المتصل بالموروث الحكائي الشعبي في إطار تراثنا بصورة عامة، إذ تحاول السعي إلى كشف التأويلات الممكنة للنصّ الحكائي الشعبي وتحقيق شعريته عبر اجتراح مفهوم نقديّ حديث، له آلياته المعروفة التي أثبتت فاعليتها في حقل النصوص الأدبية الأخرى. كما تركز على إشكالات التعامل النقدي مع النصوص الحكائي المكتوبة.
ويضمّ ذلك مستويين اثنين ربما يساهمان في صنع القراءة المرجوة: أحدهما يتصل بالأرضية النظرية التي تفترض ضرورة إعمال الربط بين المفاهيم النقدية الحديثة والنص الحكائي الشعبي لاستجلاء ذلك النصّ والكشف عن أنساقه المخبوءة، وهي الأنساق الأكثر أهمية التي قد لا تبلغها القراءة النقدية المباشرة.
أما المستوى الثاني، فهو المستوى التطبيقي. إذ يتم عبره إجراء التأويل النقدي المعتمد على أدوات نقدية مستمدة من المناهج الحديثة في إطار من تفعيل الموروث لمقاربة حكاية شعبية مفترضة.
ومن بين تلك المفاهيم النقدية المتصلة بآلية التأويل والداعمة له ـ على سبيل المثال ـ مفهوم التناصية «Intertextuality» وهو مفهوم تشعبت عنه مصطلحات لها مساهمة في الكشف بطريقة علمية تهدف إلى تجاوز القراءات التقليدية للحكاية، والسماح للمتلقي بالتفاعل معها عبر إنتاج عدد من القراءات التي تمكّن من إثراء النصّ في إطار اعتماد النصّ ومتلقيه على هدم وإعادة بناء النصوص السابقة والمعاصرة.
وتساهم هذه الآلية في إنتاج المعنى بحرية دلالية أكثر، إذ يمكن استثمار ما أطلق عليه «وظيفة التداخل النصّي»، حيث تعرّف جوليا كريستيفا هذه الوظيفة بأنها «الوظيفة التناصّية التي تقرأ مجسّدة في كل مستويات بنية النصّ، والتي تمتد على طول مساراته، مانحة له معطياته التاريخية والاجتماعية».
إن التأويل النقدي للحكاية يمنحنا الإحساس بإعادة إنتاج المعنى الذي لا يفترض خلوّه من أصالته في الحاضر. إن المسافة الزمنية التي تفصلنا عن الماضي ليست فاصلاً ميتاً، بل هي تحويل إبداعي للمعنى، وهو ما أطلق عليه بول ريكور «التراثية»، حين يرى أن الماضي يضعنا موضع سؤال، قبل أن نضعه نحن موضع سؤال. وفي هذا الصراع وإثارة الأسئلة لمحاولة التعرف إلى المعنى، يتناوب النص والقارئ بين الألفة والغرابة.
تحمل الحكاية الشعبية كما ترى نبيلة إبراهيم من الرموز الإشارية ما يمكن أن يستوعب حركة الفرد والمجتمع، أو لنقل حركة الفرد في إطار حركة المجتمع الدينامية.
ومع الإيمان بمثل هذه المقولات التي تؤكد على أن كل شيء مشار إليه في الحكاية فلا بد أن يمتلك المشار إليه وظيفة تعبيرية فيها، كما لا بدّ له أن يجسّد الصورة النهائية واللانهائية لدلالاتها. مع ضرورة الاحتراس من أن الاقتصاد في التعبير هو أبرز سمة من سمات الحكاية الشعبية وأن هذه الأمور قد تؤدي، إن لم يتم التعامل معها بدقة، إلى إغلاق الدلالات النصية وفاعليتها.
وتبدو أهمية هذا المطلب نابعة أولاً من أهمية الحكاية الشعبية نفسها، إذ يتوضح دورها الفاعل في الإفصاح عن مكوّنات لاواعية في حياة الشعوب، كما أن لها وجهها المتلألئ الذي يغري وسيظل مغرياً للمتلقي ببناء محاولات جادة تسعى إلى استنطاقها وإلقاء الضوء عليها، حين يؤدي ذلك إلى الكشف عن مستوياتها الدلالية العميقة التي توشك أن تكون مخبوءة في ثنايا الحكي، فتبدو الحكاية كنزاً لا يرمي الوصول إليه إلا القليل.
وما دام الموضوع يتصل بأهمية التناول النقدي الحديث للحكاية الشعبية، فلا بأس أن نعرّج على بعض مشكلات تداخل النص والقراءة وهي ناتجة عن تفعيل هذه المفاهيم في فضاء الحكاية الشعبية:
منها ما يتمثل في ذلك التحويل الآلي من الصورة الشفاهية المجازية في الموروث الشعبي إلى دائرة المكتوب.لأن النص الحكائي الشعبي شكل لغوي لشكل آخر سابق عليه وهو النص الذي يحقق في عمليته هذه تداخل النصوص وتشابكها، وترجع أهمية النص المدون أنه يفسح المجال للمقارنة بينه وبين النصوص الشفاهية الأخر من جانب، والنصوص المدونة من الجانب الآخر.
إن غالبية الحكايات الشعبية التي استجابت لغاية التدوين أو القراءة النقدية قد أثبتت تغييراً يتضح جلياً في عتباتها الأولى، كالعناوين أو البعد عن المقدمات المتداولة.
ويبرز هذا الإشكال عند محاولة الإعداد البدئية للقراءة النقدية الحديثة وهو يتصل بالنصّ نفسه.
أما الإشكال الثاني، فهو ينتمي إلى أزمة السياق، فالقراءة التأويلية لحكاية واحدة واجتثاثها من سياقها الشفاهي الضارب في العتاقة الذي نمت فيه، لن يساعدنا في التمكن من سبر الأنساق المحيطة بالحكاية الشعبية نفسها. إن نقل الحكاية من سياق إلى آخر ومن دائرة إلى أخرى سيلحق بها بعضاً من التدمير حين يبدأ التأثير على نوياتها النصّية المتداولة في قانونها الشفاهي، في ضوء غياب الأرضية الصالحة للنقل أو الرواية، أو لنقل غياب الأرضية المتصلة بالسياقات الثقافية والاجتماعية وغير ذلك.
ويزيد غياب تلك السياقات بمرور النصّ الشفاهي بلحظتَي انتهاك متتاليتين تتصل الأولى بلحظة التدوين الأولية، وتتصل الثانية بلحظة التلقي النقدي الكتابي المرتبط أصلاً بإعادة تدوين جديدة وخلق آفاق أخرى للحكاية.
الإشكال الثالث يتصل بالجنس الأدبي المتداخل بقوة مع أجناس أخرى تقترب منه ويصعب تمييزها عنه، كما يصعب وضع حدود له، وهذا الأمر الذي لا تدينه القراءة التناصية يفترض من القراءة نفسها أن تكون واعية بتلك الحدود.
تتميز الحكاية الشعبية كما يرى فراس السوّاح عن الحكاية الخرافية والحكاية البطولية بهاجسها الاجتماعي، وموضوعاتها التي تكاد تقتصر على مسائل العلاقات الاجتماعية والأسرية منها خاصة، والعناصر القصصية التي تستخدمها الحكاية الشعبية معروفة لنا جميعاً وذلك مثل زوج الأب الحقود وغيرة الشقيقات في الأسرة من البنت الصغرى التي تكون في العادة الأجمال والأحب، أو غيرة الأشقاء من شقيقهم الأصغر المفضل لدى الأب، وما إلى ذلك.
والحكاية الشعبية واقعية إلى أبعد حدّ وتخلو من التأملات الفلسفية والمتافيزيقية، مركزة على أدق تفاصيل الحياة اليومية وهمومها.
وهي ـ على رغم استخدامها عناصر التشويق ـ إلا أنها لا تقصد إلى إبهار السامع بالأجواء الغريبة أو الأعمال المستحيلة، ويبقى أبطالها أقرب إلى الناس العاديين، الذين نصادفهم في سعينا اليومي.
ويظل البطل عنصر الاختلاف لدى السواح بين الحكاية الشعبية والحكاية البطولية المندرجة تحت مفهوم «الليجندة Legend» و«الملحمة Ebic»، فـ«الليجندة» قصة غير متحقق من صحتها تاريخياً على رغم الاعتقاد الشعبي بصحتها ويطغى عليها الخيال وتمتلئ بالمبالغات، وأبطالها أشخاص متميزون ومحبوبون على النطاق الشعبي، أما الملحمة فهي تأليف شعري عالي المستوى يقصّ سلسلة من أعمال أحد الأبطال ومنجزاته، وتجري معالجتها بإطالة وتفصيل نصّي مضطرد. أما بطل الحكاية الشعبية فيلجأ إلى الحيلة والفطنة للخروج من مآزقه والتغلب على الأعداء.
ولا يعني ذلك غياب العناصر الخيالية تماماً في الحكاية الشعبية فهذه العناصر قد تستخدم في الإثارة والتشويق عندما يقابل البطل غولاً أو جنياً فيوقع به بالحيلة والذكاء.
ودخول مثل هذه العناصر لا يفقدها واقعيتها مثلما لا يضفي طابع الواقعية على الخرافة وجود أحداث وشخصيات واقعية فيها. أما بنية الحكاية الشعبية فهي بنية بسيطة تسير في اتجاه خطي واحد، وتحافظ على تسلسلها المنطقي الذي ينساب في زمان حقيقي وفي مكان حقيقي، إلى جانب رسالتها التعليمية والتهذيبية والأخلاقية.
وعبر هذه الأشكال المتصلة بحدود الجنس الحكائي الشعبي، تبرز أهمية التناول النقدي للحكاية في إطار مفهوم التناصية إذ يمكن به وعبره تجاوز المسافات التي تتوضح بين النصوص والاستفادة منها، من دون إلغاء الحدود غير الواعي. الإشكال الرابع يتمثل في ندرة التجريب الذي تخضع له الحكايات الشعبية لا بوصفها بعيدة عن الأدب، إنما بوصفها منطقة معزولة، يتوجس كثيرون من النقاد الولوج إلى عوالمها حين ينظرون إليها على أنها نصوص في هوامش الثقافة أو على أنها نصوص من الدرجة الثانية.
ولن ننسى جهود نبيلة إبراهيم من مصر وعبد الحميد بورايو من الجزائر وغيرهما، وفي تدوين الحكاية الشعبية، نشير إلى جهود لمياء باعشن في السعودية.
غير أن هذه النظرة التي يمكن تبئيرها في رؤى بعض النقاد، قد وجدت لها ما يبرّرها أحياناً في ظلّ ندرة التجريب الذي أشرنا إليه، إلى جانب ضعف بعض التجارب النقدية التي قد يكون لها آثار سلبية على النصّ الحكائي الشعبي.
تبئيرها: التركيز عليها