تاه العزم في وهم الحزم… فضاعت البشارة
ناصر قنديل
– من سوء طالع الكاتب عزمي بشارة أنه قبل مرور خمسة أيام على محاضرته، توقفت «عاصفة الحزم» السعودية في اليمن التي اعتبر أنها، متغاضياً عن التشابه التطابقي بينها وبين العدوان «الإسرائيلي» على قطاع غزة، تشكل الحضور العربي الوحيد الممكن من ضمن ردّ تاريخي، من حواضر البيت، يحتاجه العرب إلى أن ينضج العرب لردّ «ديمقراطي»، لا بدّ لبشارة أن يذكر به باعتباره نموذجه المفضل كي يخرج مبرّراً، قبوله بالردّ المتاح.
– يتوقف وصف بشارة للردّ بالتاريخي، الذي اعتبره بشارة في محاضرته، بداية مأمولة لمأسستها على وصوله إلى سورية، مبدياً الخشية على هذه السابقة من الذين يعارضون التحوّل الديمقراطي في المنطقة وممانعتهم لمشاريع الإصلاح، مبرّراً طابعه المذهبي والاستئصالي، فقد نهض كردّ مفهوم على تحويل إيران «الشيعة العرب» إلى جماعة طائفية فتحوّل «السنة العرب» إلى جماعة طائفية لصدّ هذا التهديد، لكن لا الشيعة تحوّلوا ولا السنة تحوّلوا، وحدها مخيّلة بشارة تريد اختزال الشيعة والسنة بعيداً عن مسرح اسمه فلسطين لا تزال تشكل مساحة لتلتقي فيها القوة الصاعدة في الشيعة وهي حزب الله مع القوة الصاعدة في السنة وهي حماس.
– كعادته بشارة يعرض مواقفه بصيغة استنتاجات، لعرض ظواهر، بغموض متعمّد، يبقي له مخرج النجاة كي لا يُتهم بالشوفينية والعصبية والدفاع عن التخلف والديكتاتورية وتبرير الاحتلال، والترويج لكيان الاحتلال الذي يغيب كلياً ومعه القضية الفلسطينية عن محاضرة بشارة، إلا كذريعة في شعارات التنافس على الرأي العام، خصوصاً مما يصفه بطريقة روائية بوليسية، الاحتيال الإيراني الذكي على بساطة الشعوب العربية في تبني القضية الفلسطينية، فيصير العرب مجرّد مهابيل في رأيه، والقضية تخلى عنها الحكام العرب غصباً عنهم، فهم مظلومون ومتهمون بالتخلي عن فلسطين والوقوف ضدّ المقاومة، طالما لم يكلف بشارة نفسه عناء تفسير سرّ الوقوف الإيراني العملاني والسياسي والمادي مع قوى المقاومة وتخلي القادة العرب عنها، بل عداؤهم الوجودي لها إلى حدّ شراكتهم في الحروب الإسرائيلية عليها لاستئصالها، كما يعلم بشارة جيداً من كواليس الأمراء الذين عاش دواوينهم وقرأ تقارير ديبلوماسيتهم عما جرى في حربي لبنان وغزة «الإسرائيليتين»، وكلام تسيبي ليفني الشهيرة، كانوا يقولون لنا اسحقوا عظامهم ولا توقفوا الحرب.
– فلسطين غير موجودة في الصراع الجيوسياسي، بل الجيو إستراتيجي، في منطقة يكرس بشارة محاضرته للحديث عن كل شيء إلا فلسطين، ليشرح لنا برؤوس أنامله كي لا يلوثها بغبار الطائفية والمذهبية، ويؤكد تمسكه بالأنفة الديمقراطية وهو يسد أنفه من روائح التخلف والتلوث بأوساخ تفوح من سلوك الديكتاتوريات، فيقف إذا سألته والخلاصة؟ ليقول أنا مع الحالة الوطنية فوق الطوائف ومع التحول الديمقراطي، ودونهما عقبات كثيرة ولا أراهما ممكنين في الأفق المنظور، فتراني أعرض للواقع بواقعية.
– في واقعية عرضه للواقع، يختصر بشارة المشهد في المنطقة بتقدم ثلاثة لاعبين بأدوار جديدة، يريد لنا أن نراها متشابهة في وجهة ما أصابها من تحولات، إلى حد الإيحاء، والتلميح وصولاً للتصريح، أنها متحالفة ضمناً، بوحشية غير آبهة بنا نحن العرب حتى استللنا سكاكين المطبخ ندافع عن أعراضنا بوجه غزوتها لغرف نومنا بعد منتصف الليل، وسكاكين المطبخ هي الحكم السعودي، الذي ينسى بشارة وصفه بالديكتاتورية، لأنها وصفة خاصة في قاموسه تستخدم حصراً لدى الحديث عن سورية.
– اللاعب الأول هو أميركا، التي أدى فشل غزوتها العسكرية في العراق وأفغانستان إلى مراجعة انتهت بتغليب التفكير المؤسساتي لديها لإنتاج وطنية براغماتية والبحث عن أدوار تسندها لدول إقليمية قوية صاعدة، من بين خصومها السابقين، فالحال هي الحال في مثالي إيران وكوبا، فهي لا تملك جيوشاً برية قادرة بحصيلة نتائج فشل حروبها، بينما إيران تملكها بجيشها وميليشياتها العربية التابعة من لبنان إلى سورية والعراق واليمن، لذلك تبدو العلاقة الأميركية بإيران علاقة ذاهبة للتحالف مع وكيل إقليمي، عنوان التفاوض النووي معه لإخراج هذا التحالف وتفسيره وتبريره وإيجاد حلول للمشاكل العالقة بتنازلات متبادلة.
– اللاعب الثاني هي إيران، التي شهدت هي الأخرى تحولات، محورها أيضاً تشكل نواة وطنية براغماتية تجمع الإصلاحيين والمحافظين الذين يحب تذكيرنا بشارة كي لا يفوتنا، أنهما لا يختصران المشهد الإيراني، الذي سقطت فيه فرص التحول الديمقراطي تحت ضربات ولاية الفقيه، وهذه الوطنية الإيرانية البراغماتية لا مشكلة لديها بالتعاون مع نظيرتها الأميركية كما حصل في حربي العراق وأفغانستان، لكنه تعاون توسعي على حساب الذات العربية التي يحق لها أن تنتفض لعدم معاملة الأميركي معها بندية يعامل بها إيران، وتقدم نموذجاً آسراً بإبانة الهيبة العربية إزاء التمدد الإيراني من جهة والاستهانة الأميركية من جهة مقابلة، فتكون عاصفة العزم هي الرد.
– اللاعب الثالث الأشد وحشية عند بشارة هو روسيا العارية من أي معايير قيمية وأخلاقية، لحساب وطنية براغماتية ثالثة، تقوم على تجميع الدول الوطنية بمعزل عن أي منظومة تتصل بالديمقراطية بل تدعم الديكتاتوريات بوجه التحول الديمقراطي والإرهاب بذات المستوى، وتصير روسيا وأميركا وإيران معضلة العرب، لماذا يا دكتور عزمي؟ لأن أميركا لا تريد التدخل العسكري لإسقاط سورية، ولأن إيران وروسيا تتقاسمان مسؤوليات وأعباء دعمها، هذا هو الجواب بلا لف ولا دوران.
– في مواجهة هذه التحولات، برأي بشارة، ظهر مارد النهوض الشعبي العربي، المقصود الإخواني عند بشارة، لأنه يريد تذكيرنا بأن سقطة أميركا الكبرى هي تعاملها مع نظام السيسي في مصر، لنعرف قطبته المخفية، ومقابله ظهر التطرف الإسلامي من متفرعات القاعدة، ولكن الأصل هو التطرف العابث و«الاستعماري» الذي أثارته إيران، والذي لا يرضاه أي عربي.
– في قلب هذه المواجهة، بشارة يقدمها لأصدقاء مجهولين لا نعرفهم بعد، إيران تتهاوى وستنهار بصورة تشبه ما أصاب روسيا بعد غزوها أيام الإتحاد السوفياتي لأفغانستان وبعد بيروستريكا غورباتشوف، ويستند بشارة إلى تمريرة خلفية في ملعب «عرضه الواقعي» فيروج لما يسميه التنازلات المؤلمة برأيه التي قدمها الإيرانيون في ملفهم النووي، وإلى التمدد الذي لن يرضاه العرب في نسيجهم الوطني، وهو ضمناً يريد أن يقول لأحد ما «غير عربي» لا تخافوا، التهديد الإيراني.
– في قلب هذه المواجهة تأتي عاصفة الحزم التي يقول بشارة، لا نعرف نهايتها، لكن لا تقولوا لنا كيف تتحالفون مع السعودية وتؤيدونها، فنقول لكم كيف تبررون التمدد الإيراني والوقوف مع الديكتاتورية باسم القومية العربية، فيعرض علينا صفقة على طريقة من كان بلا خطيئة فليرجمها بحجر، اصمتوا على خطيئتنا فنصمت على خطيئتكم، بطريقة التجار في صفقات المافيا، حكلي بحكلك أو مرقلي بمرقلك، وعالسكين يا بطيخ.
– بطيخ بشارة يضيع في شاحنة الخردة التي يقودها السعوديون، فتتوقف بارقة الأمل قبل أن يجف حبر ما كتب.
– ليست قضيتنا مناقشة كل ما ورد في محاضرة بشارة، ولا محاولاته تغليف المواقف بغموض يريد تسريب الانطباعات والإيحاءات لإخفاء الهوية الحقيقية للضفة التي يصطف عليها، وبث بعض الصور المدروسة بتفاعلها النفسي والعصبي داخل العقول والمشاعر، لإيصال رسالة ضمنية تسهم في رسم وعي زائف لهوية الصراعات في المنطقة.
– المهمة الرئيسية لنص بشارة، إزالة «إسرائيل» من ذاكرة التحديات العربية، وطرح الأمور على طريقة المثال المستحيل، لدولة عربية ديمقراطية مستقلة علمانية متحررة تنطلق من المساواة أمام القانون بين مواطنيها وتحفظ لهم عزتهم وكرامتهم الوطنيتين، وتتبنى قضاياهم القومية وتقاتل لأجلها، ولكن من أين آتيكم بمثلها يقول لنا بشارة، أمامنا نموذج ديكتاتوري، مدعوم من غزو استعماري إيراني، مقابل تخل دولي، وتغاض روسي وإدارة ظهر أميركية، فالبحر من ورائكم أيها العرب، والفرس من أمامكم، أين المفر؟ ليس لكم إلا سكاكين المطبخ، أي السعودية، فتغاضوا وكونوا براغماتيين كخصومكم وتقدموا صفاً مرصوصاً وراء قائد الحملة التحررية ملككم سيدكم سلمان بن عبد العزيز، وبعد الحرب نتفرغ للبحث الديمقراطي.
– لم يقل لنا بشارة، كيف حدث أن أميركا تأتي للتفاهم مع إيران من وراء ظهر «إسرائيل»، هل يسمح لنا بفاصل إعلاني بين كلامه، لنسأل، كيف نجحت إيران بفرض مهابتها ونديتها على الأميركيين الذين يحملون «إسرائيل» على ظهرهم في كل أنحاء العالم وتنجح إيران وحدها بإجبارهم على «تحطيط» الحمل عن ظهورهم وقبولها كما هي، والمواقف واضحة تجاه إيران وحلفائها ومن هو الخطر الأول في العيون «الإسرائيلية»، أليست إيران وحلفاؤها وعلى رأسهم حزب الله الذين يراهم بشارة غزواً يفكك النسيج العربي، من لبنان إلى اليمن، ولماذا هذا الاهتمام «الإسرائيلي» بعاصفة حزمه ضد اليمن، فهل كل هذا تخيل أم سوء تدبر «إسرائيلي»، أم ثمة نصيحة يوجهها لـ«الإسرائيليين» في مكان ما؟
– بالنسبة لجيل من القوميين، لا تزال البوصلة ببساطة «إسرائيل»، بوصلة يريد بشارة أن يتخطى نسيانه لها بالتقدم خطوة إضافية للترويج والدعوة لنسيانها، ووفقاً لهذه البوصلة عندنا نحن بقايا هذا الجيل، الأمور ببساطة كما يلي، مصر مرسي ومصر السيسي متساويتان بقياس الموقف من «إسرائيل»، وآخر همنا كلام بشارة عن درجة الفحص والتحليل المخبري الديمقراطي لكليهما، وبالنسبة لهذا الجيل، سورية دولة مواجهة لـ«إسرائيل» وجيشها آخر جيوش العرب الذي تقوم عقيدته القتالية على بناء قوة بوجه «إسرائيل»، وهذا وحده يفسر سر استهداف «إسرائيل» المتمادي لهذا الجيش من دون سواه من جيوش تحالف عاصفة الحزم والعزم، وتخوض «إسرائيل» استهدافها لسورية في قلب الحرب الطاحنة التي يخوضها جيشها بوجه ثوار بشارة الذي يرفلون بالنعم الديمقراطية في أحضان قادة عواصفه من ملوك وأمراء، وبالنسبة لهذا الجيل، جيلنا نحن، حزب الله مقاومة حقيقية، وعداء «إسرائيل» له لا ينقصه ختم المصادقة على صحة التوقيع، سواء كان صاحب الختم مفكراً عربياً أم مختار محلة، وبالنسبة لهذا الجيل إيران تدعم سورية وحزب الله والمقاومة في فلسطين ومن بين صفوفها وفي مقدمها حركة حماس المتفرعة من التنظيم الديمقراطي المحبوب عند بشارة، الإخوان المسلمين، ومن نسيج طائفي لا يشبه التوصيفات المذهبية التي يريدها بشارة لإيران ومداخلاتها، وما زالت إيران وحزب الله يقفان خلف دعم حماس التي طردها الأمراء والملوك، لأن أصدقاء بشارة من قادتها لم ينجحوا في تمرير طبخات مسمومة لانفتاحها على «إسرائيل».
– القضية هي «إسرائيل» يا أستاذ، ولأننا لم نجد لها أثراً في محاضرتك الثمينة جداً، نستطيع أن نفهم معنى وضعك الأمور بين ثنائية حدية، حراك ديمقراطي أم دولة وطنية ديكتاتورية، لتقول حراكاً ديمقراطياً، ثم تقول، تعثر الحراك الديمقراطي بسبب مشروع تمدد إيراني لا يرضاه عربي، فاخرجوا إليهم بسكاكين المطبخ وراء أحمد العسيري، واقتلوا آلاف اليمنيين أطفالاً ونساء وشيوخاً وشباباً ورجالاً، وتريدنا ألا نسمع التصفيق «الإسرائيلي»؟
– القضية أن المعادلة التي ترسمها تقول الوطنية متوحشة تريد اغتيال الديمقراطية في المنطقة، فاخرجوا من جهنم وطنياتكم وتعالوا إلى الجنة الديمقراطية، لكن بعد أن تفرغوا من عاصفة الحزم، فمن صحرائكم تبدو واحة وحيدة للديمقراطية، من يحزر يربح؟
– لكن واأسفاه تاه العزم في وهم الحزم، فضاعت البشارة.