أفكار متقاطعة هايدغر مخيّراً الفلسفة بين «الوجود» والإنسان
جورج كعدي
يفتتح هايدغر مؤلّفه الأوّل والأساسيّ «الوجود والزمان» 1927 بالفكرة القائلة «إنّ مسألة الوجود أضحت اليوم في طيّ النسيان»، ويجمع الدارسون على أنّ هذه الفكرة القصيرة تتضمّن الأطروحة المركزيّة لفلسفة هايدغر، وأنّها بمثابة الإعلان عن لحظة ميلاد فلسفة جديدة ترمي إلى نقل مركز الاهتمام الفلسفيّ من الإنسان والذات، عقلاً ووعياً وإرادة، إلى الوجود الذي أضحى بحسب الفيلسوف الألمانيّ نسياً منسيّاً، كما ترمي إلى إحياء السؤال الفلسفيّ الأساسيّ حول معنى الوجود. ويعتبر هايدغر أنّ كلّ تعيين أو تعريف لماهيّة الإنسان لا ينطلق من حقيقة الوجود V rit de l Etre ويتناساها هو بالتأكيد نزعة إنسانيّة وميتافيزيك. ولعلّه قصد من «نسيان الوجود» التذكير بـ»نسيان الإنسان» من خلال الفلسفة إلى ما يتجاوزه بالمطلق، ولفت النظر إلى أنّ الفلسفة تغاضت عن التفكير في مسألة الموت التي تقضّ مضجعها، وتناست محدوديّة الإنسان في الزمان، وما عادت تهتمّ إلاّ بالإنسان وطموحاته وإنجازاته وما يؤكّد ذاته، أيّ أضحت نزعة إنسانيّة، وفي هذه الحال يكون «نسيان الوجود» تشخيصاً لمرض الفلسفة المزمن و»الإلحاد الأكثر تجذّراً». وفي سياق هذا التّأويل يمكن أن نفهم على نحو أوضح سبب رغبة هايدغر في تقويض أسس التفكير الفلسفيّ، ابتداء من الفلاسفة اليونان إلى نيتشه، وتأسيس أنطولوجيا أخرى تجعل السؤال الفلسفيّ كلّه مركّزاً حول معنى الوجود، وحول حقيقة هذا الوجود.
يرى عبد الرزّاق الدَوَاي في بحثه القيّم «موت الإنسان في الخطاب الفلسفيّ المعاصر» أنّنا مع هايدغر أمام فكر لا يتردّد في الكشف عن هويّته منذ البداية، فكر لم يعد يشعر بأيّ إحراج في القول صراحةً إنّه أتى لزعزعة استقرار الإنسان وإزاحته عن مركزه وتفكيك ما يتوهّم أنه من صنع إرادته وتاريخه وتدبير عقله وإبداع ثقافته، وتبديد جميع تلك الهالات التي أضفتها عليه النزعة الإنسانيّة. فكر لا يريد أن يرى في الإنسان سوى مخلوق تابع للوجود، من دون خصوصيّة ولا هويّة، وبلا حول وبلا قوّة، في حين أنّ الوجود، أو بالأحرى تأويله الخاص والغريب يصبح بالنسبة إلى ذاك الفكر موضوعاً محوريّاً للتفكير.
تظلّ حقيقة الوجود، بالنسبة إلى هايدغر، خفيّة على المتيافيزيك باستمرار وممتنعة عليه. مسألة لا يتوقف الفيلسوف الألمانيّ عن تكرارها والإحالة عليها وتتواتر في فلسفته بل توجّه إشكاليّتها العامة، ومن مهمّاتها تخليص السؤال حول الوجود من النسيان الذي يطوله في الميتافيزيك، لذا لم يبق مستغرباً ألاّ تنمو فلسفة هايدغر ولا تتنفّس إلاّ في تفكيك ما تسمّيه بـ»الفكر الميتافيزيكيّ» وتقويضه.
من مؤلفات هايدغر المشهورة «ما هو الميتافيزيك؟» ويوضح في مقدمته أنّ «حقيقة الوجود» تشكّل الأرضية والأساس الذي يستقرّ فيه الميتافيزيك ومنه يتغذّى بوصفه جذراً لشجرة الفلسفة التي تحدّث عنها ديكارت. أضاف هايدغر عنصراً آخر إلى تلك الشجرة معتبراً أنّ ديكارت أهمله في وصفها، وهو عنصر الأرض أو الأساس الذي تستقرّ فيه وتتغذّى جذورها منه، وتلك الجذور ضاربة في الأعماق وتتفرّع في الأرض لتمكّن الشجرة من الحياة والنموّ. بيد أنّ الشجرة لا تكاد تكبر وتينع حتى ينصرف الميتافيزيك إلى الاهتمام بها وحدها، مسدلاً حجب النسيان على الجذور والأساس.
يتحرّك خطاب الميتافيزيك بحسب هايدغر، من بدايته إلى نهايته، ضمن هذا الخلط بين الوجود والموجود، لذا فإنّ إحياء السؤال الأصيل والجوهريّ حول الوجود لا يمكن أن يكون إلاّ ثمرة تقويض الميتافيزيك وهدمه.
فكر هايدغر، تبعاً لأحد المفكّرين المنتمين إلى جيله، مشروع لا ينتهي ولا يتوقف عند شيء أو عند حقيقة ما. إنّه يشبه ثوب بينلوب P n lope في الأسطورة اليونانيّة، فما كان هذا الفكر ينسجه نهاراً كان يعود إلى تفكيكه ليلاً، كي تتسنّى له معاودة الحبك في اليوم التالي. بذلك، ترى هانّا أرندت أن كل مؤلّف من مؤلّفات هايدغر يبدو كأنّه يعيد الكرّة من جديد، ويعيد كلّ شيء من البداية. وخلال رحلة التأمّلات هذه التي يرجع فيها هايدغر إلى الوراء بحثاً عن أساس أو أصل غير ميتافيزيكيّ تنجلي فيه «حقيقة الوجود» وحدها، يُغضّ النظر عن الواقع وعن الإنسان ويُدعى إلى الاحتفاء بهذا الحضور الكبير للوجود في حدّ ذاته، وهو أشبه بالخواء والفراغ الموحش، بعيداً وفي منأى عمّا هو موجود بالفعل وحاضر بالفعل. عندئذ تتأكّد تبعيّة الإنسان المطلقة للوجود ويفقد تباعاً تلك المكوّنات والمعالم التي يتقوّم بها وجوده كإنسان، عقله وإرادته، أسسه الواقعيّة والتاريخيّة والثقافيّة. وتُصادر كينونته لمصلحة الوجود تحت ذريعة التأسيس الأصيل الذي يفاجئنا هايدغر في نهاية المطاف بالقول إنّه هو ذاته أيّ ذاك التّأسيس «لا أساس له»!
يعتبر هايدغر أنّ أفلاطون هو الأب الأوّل لكلّ نزعة إنسانيّة، وأنّ بروز هيمنة الذات في «الأزمنة الحديثة» إنّما هو ثمرة ما بذره أفلاطون فلسفيّاً وبعده أرسطو. لكن ماذا يعني هايدغر بقوله إنّ فكر «الأزمنة الحديثة» وفلسفتها هما انتصار لميتافيزيك الذات؟ الأرجح أنّه يرمي إلى التأكيد على أنّ المعرفة الفلسفية عصر ذاك كانت تنطلق من الإنسان وتعود إليه، وأنّ الاهتمام الفلسفيّ تركّز، منذ ديكارت على الأقلّ، حول الإنسان كذات، والأصل النظريّ الذي تستمدّ منه الأشياء وجودها وموضوعيّتها. ويبدو أنّ السؤال حول فكر «الأزمنة الحديثة» كان بالنسبة إلى هايدغر مناسبة لدخول حوار خاص مع الذين يصفهم بالمفكرين ذويّ النزعة الإنسانيّة. حوار يهدف أساساً إلى تفكيك التصوّرات الميتافيزيكيّة عن الوجود والإنسان، التي تنطوي عليها أنساقهم الفكرية. ويمكن اختصار أطروحة هايدغر في هذا الصدد على النحو الآتي: إن مفكريّ الأزمنة الحديثة، جميعهم ومن دون استثناء، من ديكارت إلى نيتشه، وحتّى مفكريّ عصر التقنية، أوّلوا الوجود كتجلّ في صورة الذات، وصاغوا تأسيساً على ذلك تصوّرات ذاتية عن الحقيقة وعن ماهيّة الإنسان. وهكذا يكون جميع أولئك الفلاسفة، على تعدّد مشاربهم ومقاصدهم، قد استأنفوا الإشكاليّة عينها التي طرحها ديكارت يتبع .