بين «نيوزويك» وبيريس يضعان رسائل في صندوق بريد نتنياهو

رامز مصطفى

موقفان بارزان في التوقيت السياسي الذي تعيشه المنطقة والعالم لهما دلالة بالغة وتأثير في مجريات سياسية تتعلق بالكيان الصهيوني وتتخطى متاهة المفاوضات وتدويخ الفلسطيني بحثاً عن فسحة أمل في ظل السياسيات والممارسات الصهيونية.

هذان الموقفان وإن بدا للوهلة الأولى أن لكلّ منهما دوافعه وأهدافه، إلاّ أنهما يتقاطعان في المحصلة تماماً عند الموضوع الفلسطيني والمعنيين بالأمر، أي الولايات المتحدة والغرب الأوروبي والكثير الكثير من دول الإقليم. الموقف الأول يتمثل في ما كشفته صحيفة «نيوزويك» الأميركية عن شهادات تقدم بها عدد من أعضاء لجنتي الشؤون الخارجية والقانونية في الكونغرس حول أنشطة التجسس «الإسرائيلية» داخل الولايات المتحدة الأميركية، إذ استهدفت هذه الأنشطة الأسرار التقنية والصناعية. وذكرت الصحيفة أن الاستخبارات الأميركية اتهمت الكيان بأنه تجسس على الولايات المتحدة من خلال الشركات والبعثات التجارية «الإسرائيلية» التي تتعاون مع شركات أميركية، أو من خلال جواسيس تقودهم حكومة نتنياهو وسفارتها في واشنطن. وبحسب «نيوزويك»، وصف مصدر في الكونغرس هذه الشهادات بأنها جرس إنذار، وبأنها مرعبة. وأضافت «النيوزويك» أن لا دولة قريبة من الولايات المتحدة تواصل تجاوز سائر الخطوط الحمر، بحسب قول موظف سابق في لجنة للكونغرس أشارت الصحيفة إلى أنه حضر اجتماعاً سرياً أواخر 2013. من عدة اجتماعات عقدت في الأشهر الماضية بين الخارجية ومكتب التحقيقات الفدرالي والإدارة الوطنية لمكافحة التجسس والأمن الداخلي. وختمت «نيوزويك» بالقول إن من شأن استمرار عمليات التجسس هذه أن تدمر تدريجياً العلاقات الأميركية مع الكيان الصهيوني.

يحصل هذا الكشف بالتزامن مع بلوغ المفاوضات بين السلطة وحكومة نتنياهو طريقاً مسدوداً. وتقدم مارتن أنديك باستقالته من الإشراف على ملف المفاوضات. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كثرة الحديث عن التقدم في ملف المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، وعودة التحريض « الإسرائيلي « على إيران والتهديد باتخاذ إجراءات أحادية في مواجهة ما يسميه نتنياهو كاذباً الخطر الإيراني». وهنا يُطرح السؤال المشروع: لِمَ حرصت صحيفة «نيوزويك» الأميركية على الكشف عن أمر التجسس «الإسرائيلي» على الولايات المتحدة، وقد مضى عليه زمن؟ وهل يتم ذلك في سياق ممارسة الضغط على حكومة نتنياهو أولاً للكف عن التشويش والتخريب على مفاوضات النووي الإيراني، ووضع العصي في دواليب التوصل إلى اتفاق نهائي بشأنه. وهي ثانياً رسالة إلى حكومة نتنياهو حول المفاوضات المتعثرة مع الفلسطينيين، وتحميل «إسرائيل» مسؤولية هذا التعثر، ومن ثم دعوتها إلى التقدم بخطوات عملية تعيد الحيوية إلى هذه المفاوضات التي تحتاج الإدارة الأميركية إليها في المرحلة هذه لجملة أسباب موضوعية وذاتية. في حين يشهد العالم مخاض متغيّرات دولية تعيد توزيعه على أقطاب ولاعبين، بعدما احتكرته الولايات المتحدة لنفسها على مدى عقود.

أما الموقف الثاني ففجّره رئيس الكيان شمعون بيريس قنبلة سياسية من العيار الثقيل، قبل شهرين من انتهاء ولايته الرئاسية، إذ صرح للقناة الثانية العبرية بأن نتنياهو أمر عام 2011 بوقف اتصالات ومفاوضات كانت ستؤدي إلى اتفاق تاريخي بين الجانبين «الإسرائيلي» والفلسطيني، على أساس الاعتراف بيهودية الدولة وحل ملف اللاجئين بحسب زعم بيريس. وأضاف أن نتنياهو كان على علم مسبق بهذه الاتصالات وشريكاً بها، بل أكد بيريس أنه تلقى تفويضاً منه، لكنه ـ أي نتنياهو ـ وفي اللحظات الأخيرة أحبط الاتفاق عندما طلب إليه تأجيل التوقيع على الاتفاق لعدة أيام. وشكل هذا التصريح عاصفة سياسية داخل الكيان وبدأ قادته وبينهم نتنياهو وليبرمان حملة تحريض دولية ضد رئيس السلطة وتحميله مسؤولية توقف المفاوضات، وذهب نتنياهو إلى حدّ وصف أبو مازن بأنه هو من أطلق رصاصة الرحمة على المفاوضات بسبب الاتفاق على تنفيذ المصالحة مع حماس. واعتبرت أوساط متابعة في الكيان هذا التصريح صك براءة لرئيس السلطة من مسؤولية فشل المفاوضات. وتقاطع بذلك مع اتهامات ساقها الوزير كيري لنتنياهو بفشل المفاوضات سرعان ما تراجع عنها الوزير الأميركي تحت الضغط. وما صح في الأسئلة حول ما نشرته «نيوزويك» حول التجسس «الإسرائيلي» يصح مع تصريحات بيريس، فهل أطلقها بيريس للقناة الثانية وفي هذا التوقيت من دون خلفية أو هدف؟ وهل تعتبر منسقة مع ما ورد في صحيفة «نيوزويك»؟

في الأمن كما في السياسة والإعلام، لا شيء يحصل مصادفة. كل شيء منسق ومنظم في انتظار كلمة السر. وكلمة السر التي جمعت بين الحدثين هي حكومة نتنياهو ورئيسها تحديداً بأن عليه إعادة النظر في سلوكه السياسي وممارساته في ما يتعلق بالمفاوضات وانتهاز الفرصة التي توفرها الفوضى العارمة التي تعيشها المنطقة والعالم، في ظل ما يحصل في أوكرانيا. ليس معنى ذلك أن يتخلى نتنياهو وحكومته عن برنامجهم في التهويد والاستيطان على نحو كامل، بل بما يوفر التوصل إلى اتفاق تاريخي بحسب مفهوم كيري وبيريس الذي التقى بعيد التوقيع على اتفاق أوسلو عام 1993 للرئيس الفرنسي الأسبق ميتران فسأله هذا الأخير: «بعد الذي قدمه عرفات وتنازلوا عنه، ماذا ستقدمون إلى الفلسطينيين؟»، خلُص الرئيس ميتران إلى أن «الإسرائيليين» لا يريدون تقديم شيء للراحل عرفات، إذ أجابه شمعون بيريس: «سنجعل الفلسطينيين يؤقلمون أنفسهم تدريجياً على كيفية خفض سقف توقعاتهم. هكذا قال ميتران لمحمد حسنين هيكل: «يستمر التدويخ للطرف الفلسطيني قبل الدخول في الكلام الجدّي». لذا، ليس مستبعداً أن يطرح الموقفان الحدثان في هذا التوقيت، وليس ذلك عن عبث أو جهل في مجريات الأمور، فمن أعطى الإذن بإطلاقها على هذا النحو يدرك جيداً ماذا يريد في الأوقات السياسية الصعبة على أكثر من صعيد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى