مجزرة سيفو
جودي يعقوب
يطلق اسم الإبادة على سياسة القتل الجماعي المنظمة، والتي تقوم بها عادةً الحكومات ضدّ مختلف الجماعات وليس الأفراد. وتعني الإبادة الجماعية كلاً من الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية. ولم يعد مصطلح الإبادة اليوم مصطلحاً وصفياً فحسب، بل أصبح أيضاً مصطلحاً قانونياً، لأنّه لم يعد يعني المجازر المرتكبة ضدّ المدنيين فقط، بل أصبح أيضاً يطلق على الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة ما، لذا تعتبر الإبادة من الجرائم الدولية التي لا يسري عليها التقادم، ومن الطبيعي ألا يسري على ذكرها التقادم أيضاً.
وتعتبر مجزرة سيفو، التي نفذتها السلطنة العثمانية في حقّ السريان، من أكثر المجازر التي حدثت في القرن العشرين وحشية ودموية، وقد أطلق على هذه المجزرة اسم «مذبحة سيفو» نسبة إلى الطريقة التي قتل فيها السريان، إذ إنّ كلمة «سيفو» كلمة سريانية وتعني السيف، كما أطلق على عام 1915 وهو العام الذي بدأت فيه المجازر في منطقة طور عابدين في «شاتو دسيفو»، أي «عام السيف» نسبة إلى المذابح التي ارتكبت في حقّ السريان، أي أبناء الكنائس السريانية في شكل عام في الدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى على يد تركيا الفتاة، كما عرفت اختصاراً بـ«قطَلعَمّو» أي بمعنى «التطهير العرقي». ويطلق هذا المصطلح على سلسلة العمليات الحربية التي شنتها القوات النظامية التابعة للدولة العثمانية، بمساعدة مجموعات مسلحة كردية شبه نظامية التي استهدفت مدنيين سريان أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى.
والجدير بالذكر أنّ أكثر من نصف ضحايا المجازر في حقّ السريان والأرمن لم يكونوا من القومية الأرمنية بل كانوا سوريين، من طور عابدين وأورفة والعديد من المدن السورية الأخرى، بالإضافة إلى السريان الساكنين في بلاد الرافدين، وقد كانت طور عابدين والمناطق التي تقع جنوب شرق تركيا وشمال غرب إيران هدفاً للقوات العثمانية والعشائر الكردية التي ارتكبت مجازر في هذه المناطق راح ضحيتها مئات الآلاف من السريان، بينما نزح آخرون من مناطق سكنهم الأصلية في جنوب شرق تركيا الحالية وشمال غرب إيران.
ومن أهم المجازر المنضوية تحت اسم «مذبحة سيفو» بين عامي 1914 و1923، مجزرة ديار بكر ومجزرة طور عابدين ومجزرة دير الزور التي هاجر إليها عدد كبير من السريان والأرمن هرباً من القتل، وغيرها العديد، ولا يزال هناك عدد من العائلات السريانية يقطن في تلك المناطق، ويشكل هؤلاء نسبة كبيرة من السريان في الشمال السوري. وهكذا فرغت أجمل المدن السورية القديمة التي لعبت دوراً مهمّاً في النهضة السورية: نصّيبين، ماردين، حران وأورفا مركز اللغة السريانية، عدا عن مديات عاصمة أول مملكة آرامية تعود إلى القرن الثالث عشر ق.م «مملكة بيت زماني»، وسكن فيها الأكراد الذين اشترك بعضهم في ذبح السكان وتهجيرهم.
كانت الحملة متعمّدة ومقصودة من أجل تطهير عرقي ضدّ المسيحيين، وقد تمّ التخطيط والإعداد لهذه الإبادة من قبل، فهذه المجازر قتلت الملايين من السريان والأرمن، كما تمّ ترحيل الملايين من أراضيهم إلى كافة أصقاع المعمورة، والغريب أنها قوبلت ولا تزال بصمت دولي، حيث لم يكن هناك أيّ ردّ فعلي وطني أو عالمي في شأن هذه المجازر، وتنفي الحكومة التركية إلى الآن وقوع هذه المجزرة من دون أن تقدّم تفسيراً منطقياً لاختفاء كلّ هؤلاء البشر بين ليلة وضحاها. أما الحكومات العالمية فتتصرّف وكأنها لا تعلم أنّ شعباً أبيد عن بكرة أبيه، ذلك أنه لم يكن للسريان صوت يدافع عنهم أو وزن في المحافل الدولية، ويعزو بعض المؤرخين ذلك إلى عدم تشكيل كيان سياسي يمثل السريان في المحافل الدولية في القرن العشرين، والأهمّ هو أن لا مكاسب سياسية للقوى العظمى في هذه القضية، حيث إنها كانت تحاول إرضاء تركيا لاتقاء دخولها في الحرب إلى جانب ألمانيا، لهذا كان السريان ضحايا حرب إعدام واسعة، والسبب الرئيسي هو الاضطهاد الديني الممتدّ من التوسع المسيحي في الأناضول.
وفي تلك الحالة، فإنّ المذابح التي حدثت في الأناضول تمّ ربطها بمذابح الأرمن وتمّ تصنيف المذبحة السريانية كجزء من مذابح الأرمن، لذا لم تحظَ مذابح سيفو باهتمام رسمي كبير، على عكس ما حصل بعد وقوع مذابح الأرمن، مع أنّ ما حدث في سيفو عام 1915 ضدّ أبناء شعبنا حسب قانون الأمم المتحدة هو عبارة عن إبادة جماعية. ولمّا كانت الإبادة الجماعية ضدّهم خلال وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى تصوّر عادة على أنها حرب إبادة ضدّ الأرمن حصرياً، خلال غياب الاعتراف بجرائم الإبادة المتماثلة نوعياً ضدّ مسيحيي العرقية الأخرى في الإمبراطورية العثمانية، حدّد الأتراك الشعب السرياني كجنس أرمني. ويعتبر يوم 24 نيسان من كلّ عام ذكرى لمجازر سيفو، وهو اليوم نفسه الذي يتمّ فيه إحياء ذكرى مجازر الأرمن أيضاً، مع العلم بأنّ الكثير من الصحف الصادرة آنذاك كانت تؤكد على وقوع هذه المجازر البشعة، ومنها جريدة «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«لندن تايمز»، بالإضافة إلى تقارير القنصليات ورجال الدين من مختلف المذاهب والمبشرين المتواجدين في الإرساليات الأجنبية، والكثير من الشهود العيان من أبناء شعبنا الذين عاشوا المأساة ونجوا من المجازر ونقلوا ما شاهدوه، ولا تزال أحاديثهم الحية تعيش في عقول وقلوب الأبناء والأحفاد، وكأنّ مئة عام لم تكن كافية لينسى السريان آلام هذه المجزرة الدموية. والأغرب هو ما ترويه الشهادات عن أنّ بعضهم يحتفظون بصكوك ملكية أراضيهم وبيوتهم التي هجروا منها بالقوة، على أمل أن يستعيدوا بالقانون يوماً ما خسروه بالإرهاب والقهر وحدّ السيف، والذي أدّى إلى اقتلاع حضور مسيحي تاريخي من هذه المنطقة.
لم تفلح محاولات الدولة التركية الحديثة في إخفاء الوثائق والصحف الصادرة في تلك الحقبة، بالرغم من رصدها طاقماً بشرياً ومادياً كبيراً لتلك الغاية من أجل تحريف الحقائق التاريخية، وبالرغم من كلّ تلك المحاولات لم يقتنع أحد بالادّعاءات التركية أنها لم ترتكب المذبحة، فبقيت المجزرة الدموية في حقّ شعبنا السرياني والأرمني جرحاً جائراً ودائماً يلاحق الحكومة التركية منذ قرن بعد فشل جهودها لطمسها، وتزايد الدول والمؤسسات الإنسانية العالمية التي تعترف بها وتطالب بتصفية آثارها، وخاصة بعد أن أثبتت هذه الشعوب إصراراً عنيداً على عدم التخلي عن حقوقها، وقد استطاعت تحويل المجزرة المنسية إلى عنوان إنساني عالمي لا يمكن تجاهله، ونأمل أن تأخذ العدالة مجراها في شكل قانوني في حقّ من ارتكب مجازر الإبادة الجماعية وأن تعترف بلدان العالم بمجازر الإبادة العرقية التي ارتكبت في حقّ شعبنا والأرمن وبقية الفئات خلال الحرب الكونية الأولى، لكي يطّلع العالم على الجرائم العرقية وعلى العقلية الهمجية التي كانت تتحكم بحياة البشر وتسببت بإبادة الملايين منهم، بسبب الانتماء الديني والقومي، ولكي ينال شعبنا اعترافاً بالمذابح التي ارتكبت في حقه وبقضيتنا وحقوقنا القومية المشروعة على أرضنا التاريخية منذ آلاف السنين.
علينا اليوم أن ندين بشدة، ونلقي باللوم على الدولة العثمانية ومن تعاون معها، ونطالب الحكومة التركية بالاعتراف بالإبادات الجماعية ضدّ هذه الأقليات، كما نطالبها بنشر اعتذار رسمي والقيام بخطوات جدية من أجل تعويض المتضرّرين، كون إنكار الإبادة الجماعية هو المرحلة النهائية من ارتكابها وتكريس الإفلات من العقاب لمرتكبي جرائم الإبادة الجماعية، وهو يمهّد الطريق إلى جرائم إبادة جماعية في المستقبل، ونطالبها أيضاً بتشكيل لجنة تاريخية مختصة بالسريان مماثلة للجنة التي ألفها أردوغان عام 2005 من أجل الأرمن، على اعتبار أنّ السريان تعرّضوا للمذابح على قدم المساواة مع الأرمن، وخصوصاً أنّ السنوات الأخيرة شهدت اعترافاً من دول ومنظمات بالمجازر التي حدثت للسريان علناً، كما قامت شخصيات ومؤسسات كردية بالاعتذار عن دور الأكراد في مجازر السريان والأرمن مثل عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني وحزب المجتمع الديمقراطي، وهنا أطالب الدولة السورية من موقعي كمواطنة سورية بالاعتراف بمذبحة سيفو والمذبحة الأرمنية التي تعرّض لها الشعب السرياني والأرمني واعتبارها جريمة ضدّ الإنسانية قام بها الأتراك في حقّ شعبنا السوري والأرمني واعتبارها جرائم إبادة جماعية، وعليها أيضاً أن تذكرهم في ذاكرتها الحديثة وفي تاريخها المدرسي والإعلامي، كما يفعل اليهود اليوم مع المجازر المزعومة في أوروبا في حقهم، فقد جعلوها سيفاً مسلطاً على أعناق الساسة في أوروبا كلها، لأنّ الشعب مثل الثقافة واللغة، لا ينقرض عندما يختفي أفراده فقط وإنما عندما تمحى ذاكرته وتستبدل بأخرى، وخصوصاً أنّ ثقافة سيفو تطلّ علينا من جديد وإن تغيّرت الوجوه والمسمّيات، فسياسة التطهير العرقي التي انتهجتها الحكومة التركية ما زالت مستمرة، ولكن ليس على يد طلعت باشا، بل على أيدي الذين يدعون إلى عودة الاحتلال التركي لبلادنا والذين يرتكبون مجازر في حقّ السوريين عموماً، والكنيسة السريانية والأرمن خصوصاً، ومثلما صمت العالم بالأمس فإنه وبعد مئة عام فضل الصمت أيضاً إزاء كلّ ما يحدث في سورية اليوم، بداية من الاعتداء على الكنائس وخطف المطرانين والكاهنين في حلب، وعشرات الحوادث من صلب وجلد وقتل وتدمير والتي يتعامل معها العالم بصمت غريب وسط كلّ هذه الأزمات والجرائم التي ترتكب في حق شعبنا السوري، وكأنّ حقوق الإنسان والعدالة الإنسانية هما وسيلتان لتخدير شعوب العالم فقط، حيث بات واضحاً أنّ المصالح السياسية لهذه الدول أهمّ من دمائنا ومن أرواحنا، وما يحصل في سورية اليوم هو جريمة تهزّ الضمائر وحلقة في مسلسل مستمرّ لإنهاء دور مسيحيّي الشرق ووجودهم المتأصّل في سورية منذ نشأت المسيحية قبل ألفي عام، في وقت يكثر الحديث عن خطر التهجير مجدّداً لترحيل الأرمن قسرياً عن وطننا إلى شتات الأرض، حيث ما زالت حلقات مسلسل الدم متواصلة لأنّ ما حصل ويحصل اليوم هو إشارة إلى التراكمات الحاقدة على هذا الكيان الجميل. وما يزيد من حدة المشهد والذكرى هو ما يرويه الكثير، وجلّهم من المواطنين السوريين السريان، من شهادات عما يتعرّضون له اليوم في كياننا العراقي والشامي وفي فلسطين، وما يصفونه بحرب إبادة حديثة بحيث لا تريد هذه الإبادة أن تترك من المجتمعات المحلية السريانية أثراً ولا حتى كنيسة أو مدرسة، ومثلما وجد قادة «الاتحاد والترقي» في ظروف الحرب العالمية الأولى فرصتهم للتخلص من المسيحيين من سريان وأرمن، يبدو أنّ حكومة حزب العدالة والتنمية، قد وجدت في ظروف الحرب الراهنة على سورية فرصة طالما انتظرتها لتدمير سورية وتحضير أرضية مناسبة للعثمانيين الجدد، لكنّ أي فكر من هذا النوع هو بعيد كلّ البعد عمّا تعنيه كلمة السريان من تاريخ وإرث وحضارة وثقافة، وهذا يعتبر تحدياً للكنيسة التي يجب أن تحافظ على نفسها وتراثها وهويتها ولغتها ومدارسها ومؤسساتها في ظلّ محاولات الانصهار في التعريب والتتريك وتنامي الأصوليات والفكر الإلغائي، والعمل على نشر ثقافة المحبة والتآخي في مواجهة خطر الفكر الإقصائي التكفيري الذي نعاني منه اليوم، لذا يجب علينا ألا نسكت ولا نساوم ولا نرضى بأن يخطفنا أحد من جذورنا، وعلينا أن نقف ضدّ محاولات اضطهاد وتهجير المسيحيين من الأرض التي شهدت ولادة دينهم وقد شكلوا منارة مضيئة فيها، والحدّ من تنامي الهجرة التي ازدادت بسبب الرعب والخوف من المصير الذي ينتابهم وينتظرهم، ولا سيما بعد أن فرضت الجماعات الدينية المتطرفة أنماطاً حياتية لا تناسب المواطنين وخصوصاً المسيحيين، حتى أصبحوا مشروع مهاجر محتملاً، وكأنهم مقيمون في بلدهم حتى إشعار آخر، والعمل على هجرة معاكسة، عن طريق تعزيز قيم المواطنة ومنحهم حقوقاً ثقافية، وفتح معاهد ومدارس حكومية وأقسام في الجامعات السورية لتعليم اللغة والآداب السريانية، باعتبارها اللغة الوطنية القديمة لسورية التاريخية والتي من شأنها أن تعزّز الوجود السرياني والمسيحي فيها، وألا نسمح بأن يتمّ اقتلاع الكنيسة الأرثوذكسية من جذورها وغرسها في تربة غريبة عنها، وأن نثبت في أرض وطننا الغالي وأن ندافع عنه بكلّ ما نملك من إمكانات، فإذا تراخت الكنيسة في تجذير أبنائها ستصبح في ما بعد كنيسة أنطاكية وسائر الاغتراب بدلاً من سائر المشرق، لكنني أحب أن أطمئن الدول الصهيو ـ أميركية بأنّ أي محاولة لإفراغ المشرق من المسيحيين لن تنجح لأنّهم متمسكون بجذورهم التاريخية ويعتبرون أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي السوري، فهم أبناء الكنيسة السريانية التي منحت اسمها لسورية الصامدة والتي تجمع السوريين، فالسريان ليسوا أقليات بل هم أصحاب أرض ورسالة انفتاح على العالم، وهم في أرضهم وليسوا عابرين، وهذا ما أكده الرئيس الراحل حافظ الأسد عند استقباله المجمع المقدس للسريان الأرثوذوكس في 17/3/1997، حين قال: «أيها السريان، يقصد السوريين الأصليين، سورية بلدكم أينما كنتم وهذا حقكم وعندما أقول ذلك لا أعطيكم ما ليس لكم».
ستبقى ذكرى «سيفو» محفورة في قلوبنا وعقولنا وأفئدتنا ومعلقة في أعناق أبنائنا وأحفادهم وأحفاد أحفادهم، ومهما حاول بنو عثمان أن ينكروا هذه المجزرة أو غيرها فلن ينجحوا لأنّ الدماء السورية غالية جداً، ولأنّ الشعب السوري لن يغفر، ولن تمحى هذه المجازر من الذاكرة مهما طال الزمن وإلى يوم القيامة، وسيروي أبناء من قتلهم الأتراك بحدّ السيف الفظائع والمجازر والمذابح الرهيبة والهمجية والبربرية والفظة والقاسية التي راح ضحيتها أبناء شعبنا الأبرياء، لأنّ شعباً بلا ذاكرة هو شعب بلا تاريخ، ونحن من صنع التاريخ.