المرجل المقدسي يغلي… ولا انتفاضة في الأفق
راسم عبيدات
واضح أن الظروف الموضوعية ممثلة بكل إجراءات وممارسات الاحتلال القمعية والإذلالية بحق المقدسيين ناضجة لخلق واقع انتفاضي، وهذه الإجراءات والممارسات والقوانين والتشريعات والقرارات ذات البعد العنصري والممتهن لكرامة المقدسيين والنافي والمقصي لحقوقهم، هي التي دفعت بالحالة المقدسية إلى هبات جماهيرية متلاحقة تخبو حيناً وتعلو حيناً آخر ارتباطاً بحالة القمع «الإسرائيلي»، من جريمة خطف وتعذيب وحرق الشهيد الفتى أبو خضير حياً في 2 تموز 2014 وحتى اللحظة الراهنة، وهذه الهبّات أتت وتأتي في إطار ردود فعل فردية وعفوية، مفتقرة للقيادة والتنظيم والمشاركة الجماهيرية الواسعة وتحديد الهدف.
هبّات تأتي في إطار حماية والدفاع عن الذات، في مقابل الظرف الذاتي الفلسطيني، بدلاً من أن يلعب دور تصعيد الفعل الشعبي والجماهيري وتأطيره وتنظيمه للوصول به إلى حالة انتفاضية شعبية عارمة، وجدنا أنه في معادلة غير مستقيمة، وحالة مشوهة في عرف وفكر وحركات التحرر الوطني، لعب ويلعب دور المفرمل والكابح لتطور الفعل الجماهيري الشعبي المقدسي والهبات الجماهيرية إلى انتفاضة شعبية واسعة تمتد شرارتها ومفاعيلها إلى أرجاء الوطن كافة، فالحالة الفلسطينية عدا عن كونها ضعيفة ومنقسمة على ذاتها، وتمارس التحريض والطعن ببعضها بعضاً، فهي تستنفذ الكثير من طاقاتها وإمكاناتها في إطار مناكفاتها وصراعاتها الداخلية، مضيّعة اتجاه البوصلة وحارفة لها عن اتجاهها الصحيح. وكذلك ما أفرزته وأوجدته السلطة من طبقة نمت داخل إطار السلطة أو من خارجها، نظرت لمشروع السلطة على أنه مشروع استثماري يخدم مصالحها ونفوذها وتسيّدها للتراتبية السياسية والمجتمعية، وأي خطر على هذا المشروع من شأنه أن يفقدها مصالحها واستثماراتها ونفوذها، ولكن هي ليست فقط غير معنية بقيام حالة انتفاضة شعبية شاملة، بل هي عمدت إلى تطويع الكثير من الفئات الاجتماعية من خلال سلطتها المالكة للتوظيف كربّ عمل معتمد على الضرائب ومؤسسات النهب الدولية البنك والصندوق الدوليين والقروض البنكية والمساعدات العربية والدولية المشروطة والمدفوعة الثمن، حيث شجعت الموظفين على الاستدانة والاقتراض من البنوك، من أجل تحسين شروط وظروف حياتهم المعيشية، بحيث أصبح مصير هؤلاء الموظفين بيد السلطة ومدى قدرتها على صرف الرواتب، فالراتب من أجل تسديد تكاليف المعيشة والقروض من البنوك، قروض سكن، شراء أرض، سيارة، تعليم، زواج وغيرها، تجعل الموظف يعلي ويقدم شأن العامل الاقتصادي فوق أي عامل آخر، وبالتالي يطأطئ الرأس ويستجيب ويخضع لما تريده السلطة أو ما تتخذه من مواقف وقرارات.
ولا يغيب عن بالنا عامل آخر في هذا الجانب على درجة عالية من الأهمية، هو أن الأحزاب والفصائل والمفترض أن تشكل وتقود الانتفاضة، أوضاعها محزنة، فهي تعيش أزمات عميقة بنيوية، وأوضاعها الداخلية أقرب إلى حالات هلامية منها تنظيمات صلبة ومتماسكة وموحدة الإرادة والفعل، وقيادتها مترددة وغير مبادرة، وهي أقرب إلى التكلس والجمود والنمطية، وتعيش حالة من الاغتراب والانعزال عن الجماهير في إطار الفعل والمبادرة والتصدي لجرائم ومشاريع الاحتلال.
على رغم كل التموجات والغليان في المرجل المقدسي عبر حالة متقطعة من الهبات الجماهيرية، فنحن لسنا على أبواب انتفاضة شعبية عارمة، على رغم وصول الوضع في القدس إلى حالة التأزم وذروة الأزمة، احتلال يشن حرباً شاملة على المقدسيين في كل المجالات والميادين، حتى أنه يستهدفهم في تفاصيل ومناحي حياتهم اليومية، يتصدون ويقاومون، يفشلون مخططاً أو مشروعاً للاحتلال هنا أو هناك، ولكن لا تصل الأمور إلى مرحلة الانتفاضة الشعبية العارمة، فالانتفاضة ليست مسألة إرادوية أو إسقاطية، بالضرورة أن تتوافر لها أركان وعناصر، القيادة والتنظيم والهدف والمشاركة الشعبية الواسعة والكبيرة، كما حدث في انتفاضة الحجر الأولى في كانون أول 1987، مع تأكيد أن اندلاع انتفاضة ثالثة لا يعني أن تكون نسخة كربونية عن الانتفاضتين الأولى والثانية. إذ تغيرت الظروف والأوضاع والتجارب والخبرات والحقائق، والمشهد الدولي والإقليمي والعربي، وكذلك الفلسطيني.
إذا كانت الأوضاع في القدس ناضجة لانتفاضة شعبية، فهي على المستوى الفلسطيني العام غير ناضجة، إذ إن واحداً من عوامل التحول في الوضع الفلسطيني في القدس والضفة الغربية نحو الانتفاضة الشعبية، هو إقدام السلطة الفلسطينية على تطبيق قرار المجلس المركزي في شباط الماضي بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، هذا القرار الذي من الواضح أنه لم يجر أية ترجمة عملية له، بل كل الدلائل تشير إلى أن السلطة الفلسطينية ما زالت ترى بالرهان على العمل السياسي والمفاوضات والجهد أو العمل المقاوم السلمي، خياراً لها في مواجهة التغوّل والتوحش «الإسرائيلي»، وزيادة وتائر القمع والاعتداءات والاستيطان.
والعامل الفلسطيني، ليس وحده غير ناضج أو مالك لإرادة الشروع في انتفاضة جماهيرية ناضجة ظروفها الموضوعية، بل الحاضنة العربية للفلسطينيين، هي الأخرى في أعلى درجة الأزمة والانهيار، إذ نرى بأن هناك حالة من التردي والانهيار غير المسبوق، فلم تعد القضية الفلسطينية، هي قضية العرب والمسلمين الأولى، وكذلك بعض أطراف النظام الرسمي العربي المنهار، لم تعد ترى في «إسرائيل» العدو الأول والمباشر للعرب والفلسطينيين، بل عمق التحولات الحاصلة والجارية في بنية النظام الرسمي العربي غيرت من دوره ووظيفته وتحالفاته وعلاقاته وأولوياته، حتى وصل الأمر بالعديد من أطرافه، ليس فقط التآمر على القضية الفلسطينية، بل إلى حد التنسيق والتحالف مع الاحتلال، ولكي تصل الأمور إلى حد التنسيق والتعاون بالعمل على تهدئة الأوضاع في مدينة القدس.
إن المرجل المقدسي سيواصل الغليان صعوداً وهبوطاً، ولكن يبقى الحديث عن انتفاضة شعبية الآن رهناً بالتطورات على الوضع الفلسطيني العام، وحالة الاشتباك والصراع مع المحتل ستبقى قائمة ومحتدمة، ما دام الاحتلال قائماً، ويخطط لطرد وتهجير المقدسيين، بسياساته العنصرية وقوانينه وتشريعاته وعقوباته الجائرة، والتي كان آخرها قرار محكمة العدل العليا «الإسرائيلية» بتطبيق ما يسمى بقانون أملاك الغائبين على أراضي وممتلكات المقدسيين المقيمين في الضفة الغربية، وحالة الاشتباك والفعل الانتفاضي، قد تقلب الطاولة وتخلط الأوراق وتغير من المعادلات القائمة، في ظل حالة من التخبط والإرباك «الإسرائيلي»، لمصلحة الشعب الفلسطيني وحقوقه ومشروعه الوطني، إذا ما أحسنّا الاستثمار، ويمكن أن تقودنا حالة التخبط وفقدان السيطرة، وغياب التنظيم والفعل القيادي الموحد والهدف إلى حالة من الفوضى بما يحقق الأهداف «الإسرائيليّة». فهل نجرؤ على الاختيار الصحيح أم يقضي علينا الانقسام والخشية من المجابهة المفروضة؟
Quds.45 gmail.com