كيف تبدو زيارة الراعي من الظلال بدلاً من الأضواء؟
روزانا رمّال
سيزور بطريرك أنطاكية وسائر المشرق الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي القدس، وسيفرح به المقدسيّون، وهو الذي لا يمكن التشكيك فيه أو اتهامه بأي محاولة للتشجيع على التطبيع، أو الطعن بوطنيته، فهذه الزيارة كما أكد غبطته «رعوية دينية فقط».
يرفض البطريرك الراعي أيّ انتقاد من هنا وهناك على «الزيارة الرعوية»، ويؤكد أنّ قراره قد اتخذ… هذا القرار رأى فيه البعض قراراً خطيراً وحساساً، فيما رأى البعض الآخر فيه حقاً دينياً لا يستدعي كلّ هذا القلق، طالما أنّ أمر الزيارة واضح هدفاً ومضموناً.
موقف حزب الله يبقى الموقف الأهمّ من جهة جمهور أحد فريقي البلاد المنقسمين بين 8 آذار و 14 منه، ويبدو أن الحزب بحسب المصادر يتجه إلى التمني على الراعي العدول عن الزيارة المقرّرة في 24 أيار الجاري.
التيار الوطني الحر بحسب مصادر نيابية يقول إنه لا يعارض الزيارة، لكنه لا يتمنى حصولها لئلا تؤدي إلى انقسامات داخلية، ويتمّ استغلالها.
مواقف أخرى كثيرة وعديدة تناولت الزيارة لكن بعيداً عن كلّ تلك التصريحات وما قيل وسيقال عن الزيارة من الساعة الأولى لانطلاق الرحلة، إلى أن تطأ قدما البطريرك الأراضي المقدسة، وصولاً إلى متابعة جدول أعماله ولقاءاته بدقة، كما يحدث عند كلّ القضايا الخلافية في البلاد… لا بدّ من النظر إلى الجانب الآخر من الكأس، البعيد عن المواقف والآراء والمبدأ الأساس، وهو العداء لـ«إسرائيل» أو الاعتراف بها، فهذا ليس جلّ ما في المشهد.
يشاء الراعي أن يعتبر الزيارة رعوية بحتة، وهي من دون شك كذلك، لكن أعداء لبنان قد لا يشاؤون هذا.
لهذه الزيارة تداعيات خطيرة وكبيرة لا تقتصر على لبنان، إنما على المنطقة بأكملها، فموضوع فيه خلاف حادّ بوجهات النظر بين مختلف الأفرقاء في البلاد مع شخص بوزن الراعي، مع ما يمثله من رمزية دينية وعقائدية مسيحية مشرقية، يشكل كما شكلت عدة خلافات مع رموز دينية أو طائفية أو سياسية في البلاد، ثغرة حساسة وخطيرة لاستغلالها وفق ما يريد المتربّصون شراً بالبلاد. أن تتشكل أرضية أو فرصة لإيجاد مشكلة بهذه الأوزان، الرئيس رفيق الحريري أحد هذه الرموز، وأكثر الأمثلة حداثة في نفس المشهد المعاصر، شكل الخلاف الحادّ معه حول سورية واستغلاله سياسياً وطائفياً ومذهبياً، وكان ما كان ووظف وخطط على أساس هذا الخلاف مشاريع ومخططات.
زيارة خلافية كهذه، لشخص وازن كالكاردينال الراعي، ستشكل ثغرة أمنية سياسية بالغة الأهمية والخطورة في البلاد لا يمكن عدم وضعها في الحسابات، سيستغلها كلّ من يبحث عن وسيلة أو أداة للعبث في لبنان وبث روح الفرقة والتشرذم المنسجم مع باقي دول المنطقة، في وقت تشظت معظم المجتمعات العربية بينها لبنان المتشظي أصلاً مسبقاً، وهو سريع الاشتعال والاصطفافات، وبيئة صالحة جداً تركيبة وإعلاماً وبنية للتوقف كثيراً عند أكبر الخلافات كما أصغرها بالتساوي لشدّة الانقسام على أولوياته.
الزيارة هذه تأتي في أوقات عصيبة كالتي تمرّ فيها المنطقة اليوم، فيتعرّض فيها المسيحيون لأشدّ أنواع الاضطهاد في المناطق التي سيطر عليها التكفيريون في الشرق الأوسط بعد ما سُمّيَ «ثورات الربيع العربي» من مصر إلى سورية فالعراق، ستكون دافعاً مغرياً لمنح تنظيم «القاعدة» وأعوانه وكلّ من ورائهم فرصة تخوين مجانية للمسيحيين وتبرير استهدافهم كمجموعات أو كأفراد أو أديرة وكنائس، بحجة أن المسيحيين على رأس كنيستهم في المشرق لا يمانعون هذه الزيارات، وقد يستغلون الأمر لتبرير أعمالهم المشينة بما يُخرج الموضوع عن إطاره الديني.
في بلد كلبنان… لحرية الرأي جوانب عدة، فإنّ زيارة الراعي للقدس إضافة إلى الثغرات الأمنية الخطيرة التي قد تفتحها، ستشكل دعوة غير مباشرة، طالما أنّ الراعي حيثية وشخصية الأب الروحي لجميع المسيحيين في المشرق ومثلهم الأعلى، لزيارة «إسرائيل» واستجلاب مسيحيّي المشرق إليها بحجة الاقتداء بما فعله الكاردينال، وتحت شعار زيارات الحج الدينية، وهنا لا يمكن اعتبار كلّ مسيحي ممن سيزورون القدس بعد البطريرك «بالمسؤول وطنياً»، فإذا كان الكاردينال أعلم الناس بما يقوم به وقادراً على ضبط الأمور، فليس كل المسيحيين من عامة الناس حكماء.
زيارة الراعي، أو التعاطي معها، يختلف تماماً عن التعاطي مع من هم قسراً تحت الاحتلال، ممّن اضطروا إلى البقاء أو التعامل مع القوانين الإسرائيلية، كاللبنانيين في فترة الحزام الأمني، والفلسطينيين في الأراضي المحتلة، لأنّ «المبادرة « تختلف عن «الضرورة» حيث لكلّ ضرورة حكم… من هنا يدرك المتربّصون شراً بلبنان والمنطقة أهمية استغلال كلّ ثغرة من التأويلات التي تحملها الزيارة بوصفها وشخصها ووزنها وبكلّ تفاصيلها.