المأزق العثماني في مشهد سورية المنتصرة…
سومر صالح
شكل الدور التركيّ مع بدايات «الخريف العربي» في العام 2010 عاملاً حاسماً في رسم الملامح المأزومة لمنطقة «الشرق الأوسط» برمته، فالمشروع الإخواني التركي لم يعد خافياً على أحد، انطلاقاً من دعم حركة النهضة في تونس إلى دعم المجلس الوطني الانتقالي بقيادة مصطفى عبد الجليل في ليبيا حينها، إلى تبني حركة إخوان مصر ورئيسها محمد مرسي، واحتضان تركيا لإخوان سورية، وحماس وغيرها من القوى الإخوانية في المنطقة.
إلى هنا يبدو الأمر عادياً بعض الشيء، فالنجاحات الداخلية التي حققها نموذج «الإسلام السياسي» للحكم في تركيا، قد أغرت أردوغان وحزبه على محاولة نمذجة المنطقة العربية، ويصبح من بعدها سهلاً السيطرة على الدول التي تُحكم بالإسلام السياسي، مشروع وجدت فيه إدارة اوباما بداية العام 2010 أداةً لإحداث الفوضى ولإحكام السيطرة على الدول العربية. هذه الدول فشلت على مدى عقود في تحقيق التنمية المطلوبة على المستوى المجتمعي، مما فتح الباب على مصراعيه أمام حركات «الإسلام السياسي» لتقدم نموذجها للحكم.
وبالمنطق نفسه نجد مفكرين عرباً «علمانيين» استسلموا لهذه الرؤية في تجريب حركات «الإسلام السياسي»، ولكن مع بدايات الانحسار المبكر لتجربة الأخونة السياسية لأنظمة الحكم ابتداءً من مصر وتونس وصولاً إلى ليبيا، نجد أنّ الموقف التركي تجاه هذه الدول اتسم بالعدائية الشديدة لأنظمة الحكم الجديدة، وهي عدائية تتجاوز مجرّد سقوط حليفٍ سياسي وهو أمرٌ يحدث عادة بين الدول والحكومات.
إذاً المسألة ليست مجرد نموذج سياسيّ جديد للمنطقة تحت يافطة «الإسلام السياسي» ليتجاوزه إلى حليف عقائدي يتشاطرون معه الفكر والنهج، هذا الفكر الإخواني هو الحاضن الايديولوجي لكلّ التنظيمات السلفية التكفيرية في المنطقة التي تتبنّى العنف وسيلة للتغير السياسيّ متشاطرة مع تنظيم «القاعدة» الإرهابي السلوك العنفي الإرهابي، هذا الأمر سمح لاحقاً بتحالفاتٍ بين تنظيم «القاعدة» والتنظيمات السلفية الإخوانية في سورية والعراق ومصر…
الوراثة التركية للسعودية: المتتبّع لحركة السياسة التركية يجد أنها تتخذ من الأذرع المتطرفة المتحالفة معها ايديولوجياً وسيلة من وسائل تنفيذ سياستها الخارجية، انطلاقاً من سورية والعراق ومصر وليبيا، بل جهدت تركيا إلى جمع إرهابيّي العالم على أراضيها وتمويلهم وتسليحهم وتحويلهم إلى تنظيمات إرهابية واستخدامهم حسب المصلحة العثمانية الاردوغانية، في نموذج يحاكي التجربة السعودية في إنشاء ودعم تنظيم «القاعدة» واستخدامه بداية في أفغانستان ضدّ الاتحاد السوفياتي السابق، ولاحقاً في زعزعة استقرار العراق بعد العام 2003، وتقويض استقرار لبنان بعد العام 2005، والذي منح المملكة السعودية قدرة على التفاوض على كامل «الشرق الأوسط» خشية وصول الإرهاب الوهابي السعودي إلى أراضيها، هذا النموذج على ما يبدو أغرى أردوغان بالتحوّل إلى قوة مهيمنة تخشاها الدول الفاعلة، مستفيداً من نموذجه الاسلاموي للحكم في تركيا، فنصّب من نفسه «أميراً» لكافة التنظيمات الإرهابية العاملة على امتداد الجغرافيا الإقليمية، مرسلاً بذلك رسائل إلى أوروبا وروسيا والصين بتحوّله إلى قاعدة عالمية للإرهاب يستطيع معها تقويض استقرار الدولة التي يريدها، هذا الإرهاب المدرّب في تركيا والمجرّب في سورية، أصبح حقيقةً قاطعةً تخشاها الدول وتعمل على تجنّبها…
الاحتواء الدوليّ لأردوغان
السياسة الأردوغانية لاقت بعض النجاحات، فالخوف من الإرهاب الاردوغاني والذي عمل على «أسلمة التطرف» في العالم وتحويله إلى أذرع سياسية قاد بمجموعة من الدول إلى تقديم امتيازات اقتصادية عالية لتركيا في محاولة إقناع أردوغان بأنّ الدور التركي الجديد يرسمه التعاون الاقتصادي لا التهديد الإرهابي، وهو توجه عززته زيارة الرئيس الروسي إلى تركيا العام 2014، وتعزيز التعاون الاقتصادي بين إيران وتركيا العام 2015 رغم كلّ الخلافات والتصريحات الاستفزازية لأردوغان قبيل الزيارة على خلفية الأزمة اليمنية والاتفاق النووي بين إيران ومجموعة 5+1.
يبقى أن نشير هنا إلى أنّ الصبر الأوروبي على ممارسات أردوغان بدأ بالنفاذ، فتعاظم النشاط الإرهابي لأردوغان حول الحدود الشرقية لأوروبا إلى مستودع ضخم للإرهاب «الداعشي القاعدي»، ومعه جذب المتعطشين إلى الإرهاب في القارة العجوز، مما بدأ يقلق الحكومات الأوروبية، والتي تجد في تصرفات أردوغان عبثية مفرطة يجب الحدّ منها، وأنّ المشروع الأميركي التركي بدأ يهدّد أمن أوروبا، فأردوغان تجاوز الخط الأحمر في دعمه للإرهاب…
تقويم المشهد
أعطت أوروبا إشارات واضحة للعالم أنها قلقة من العبث الإرهابي في «الشرق الأوسط» وخصوصاً سورية، فبدأت تتمايز قليلاً عن الدور الأميركي في المنطقة فأخذت وفودها البرلمانية والإعلامية تزور دمشق لتعزيز التنسيق الأمني معها، هنا بدأ المشروع الإرهابي العثماني يخضع للتقييم الداخلي التركي، فالاستمرار في سياسة الأذرع الإرهابية سيضع تركيا في مواجهة أوروبا وروسيا وإيران والصين، والتي تخشى من عودة الإرهاب إليها بشكل إفرادي أو منظم بتوجيه من حكومة أردوغان لتنفيذ أجندات في هذه الدول التي يشكل الإسلام جزءاً من بنيتها الديموغرافية، في مقابل حوافز اقتصادية وسياسية يجري تمريرها إلى تركيا من قبل هذه الدول، وهو أمر بدأ يعّقد المشهد السياسي الداخلي في تركيا، حتى داخل قيادات حزب العدالة والتنمية، لإعادة التوازن إلى الدور التركي، والبحث عن حلول سياسية لأزمات شاركت تركيا بافتعالها…
عوامل الفشل
ماذا لو سقطت الدولة في سورية كما كان يحلم أردوغان مع بدايات العام 2012، أما كان تغيّر معها المشهد الإقليمي والدولي برمته؟ وتمدّد المشروع الإخواني إلى الجزائر والسودان ودول أخرى، إذاً… صمود الدولة السورية وقوة جيشها وتلاحم الجيش والشعب والقائد، عوامل أدّت إلى فشل المؤامرة الاردوغانية، طبعاً والموقف الروسي الصيني الإيراني كان عاملاً مساعداً في صمود الدولة السورية.
خيارات أردوغان المتاحة
انطلاقاً مما سبق فإنّ أمام حكومة أردوغان خيارين راهنين، إما الاستمرار في سياسة الأذرع المتطرفة الإرهابية، والتي ستضع تركيا في عداوة مع كلّ جيرانها تقريباً، وتحوّلها إلى مستنقع يعيش فيه الإرهاب وينتشر، مما يهدّد الاستقرار الداخلي التركي، ويحوّل نظام أردوغان إلى مشكلة أوروبية ينبغي التخلص منها، أو ينبغي على أردوغان البدء بتفكيك التنظيمات الإرهابية وإيقاف تدفقها إلى ميادين الصراع، والامتناع عن التمويل والتدريب، مستفيداً من الدور الاقتصادي والسياسي الموعود به في المنطقة، وفي كلا الخيارين يجد أردوغان نفسه في مأزق، فإذا ما قرّر الاستمرار في دعمه لمشروع الإرهاب في المنطقة سيكون مصيره السقوط السياسي بفعل الموقف الأوروبي الذي سيكون حازماً حال الاستمرار، عبر طلب أوروبي بتفعيل القرار 2170-2178 تحت الفصل السابع، أمّا إذا قرّر التراجع عن مشروعه الإرهابي سيكون ردّ الفعل الإرهابي تقويض الاستقرار الداخلي التركي كردّ فعل متوقع على الخذلان التركي لها وتركها وحيدة في ساحات القتال، فضلاً عن كون المشروع الإخواني في المنطقة هو عقيدة أردوغانية، لذلك من غير المتوقع على مستوى التحليل الشخصي أن يقبل أردوغان بتفكيك التنظيمات الإرهابية العاملة تحت إمرته، وهو ما سيعمّق المأزق الاردوغاني الداخلي والخارجي، ويضعه في مواجهة تحالف أوروبي سوري عراقي مفترض لمكافحة الإرهاب القادم من تركيا، ستكون نتيجته المباشرة السقوط الاردوغاني الداخلي المحتوم… ومهما يكن الخيار التركي في التعامل مع مأزقه، من الثابت القول إنّ سورية انتصرت وإنّ ثبات جيشها أفشل المؤامرة الأميركية الأردوغانية.