بين التطورات في اليمن و«دول الفئة الشمالية»… أوروبا العظمى في مواجهة آسيا الأعظم!

image_0_1إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

لا شكّ أن الحروب ـ خصوصاً التي يطول أمدها ـ تغيّر في خرائط الدول والمناطق وحتّى القارات. فالدول التي رأت النور بعد الحرب العالمية الثانية، ليست هي ذاتها التي ولدت بعد الحرب العالمية الأولى. كما أنّ الحروب التي عصفت ببلاد البلقان، أفرزت دولاً جديدة منها الجبل الأسود، والبوسنة، وتشيكيا، وسلوفاكيا، وغيرها.

وإذا اتُفق على أن الحرب التي عصفت بمنطقة الشرق الأوسط منذ بداية تسعينات القرن الماضي، مروراً بالعدوانين على غزّة، والعدوان على لبنان، وما تبع ذلك العدوان من خضّات أمنية لم تغب عنها الأيادي الأميركية والصهيونية، إلى الحروب التي أشعلها «الربيع العربيّ» سيّئ الذكر… إذا اتُفق على أن كل تلك الحروب خاضتها أميركا، إن عبر عسكرييها، أو عبر أدواتها في المنطقة، فلا بدّ أن يُستنتَج ما يلي:

ـ لم تعد خريطة الشرق الأوسط تعجب واشنطن، وهذا ما صرّحت عنه مراراً عبر عدد من وزراء الخارجية، من خلال ما سمّي «الشرق الأوسط الجديد».

ـ أنّ الهدف من هذه الحروب إضعاف دول المنطقة للسيطرة على منابع الطاقة بعدما شعرت واشنطن بدرب حرير صينيّ جديد يحوك طريقه إلى الظهور.

ـ أن ثمة دولة آخذة في التنامي على الصعد كافة ولا بدّ من محاصرتها… وقصدنا إيران.

بناءً على كلّ ما ذكرناه، نضع بين أيدي القرّاء مقالين: الأول يتحدّث عن المواجهة بين «آسيا العظمى» و«أوروبا العظمى»، وتلاشي دور أوراسيا التي كانت تعوّل عليها الولايات المتحدة الأميركية.

والثاني يتحدّث عن تأثير حرب اليمن المندلعة حالياً، على مسار التحالفات بين المملكة العربية السعودية وعددٍ من الدول ـ لا سيما «دول الفئة الشمالية» ـ وعلى رسم خريطة جديدة للمنطقة. فهل تساهم الخريطة الجديدة في رسم «آسيا العظمى»؟

نبدأ من حكاية كيف أدركت الولايات المتحدة أنّ أوراسيا عفا عليها الزمن.

كتب بيبي أسكوبار لصحيفة «Asia Times»:

قل هي أكثر من ذلك، إنها القصة الحقيقية للحرب الباردة الثانية، الآن وفي المستقبل القريب، وعدد لا يُحصى من الانحرافات، وبالطبع، فإن استبعاد عدد من المعوقات، يعني المضيّ قدماً نحو أوراسيا جديدة متكاملة.

يتقاطع طموح الصين لتنفيذ مشروع طريق الحرير الجديد مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي EEC الذي تقوده روسيا. وحينذاك سيستفيق الاتحاد الأوروبي من كبوته، ليجد أن تجارته المزدهرة تمتدّ من حدود سان بطرسبرغ إلى شانغهاي. وسيكون من المناسب دوماً، تذكّر أن فلاديمير بوتين قد باع شيئاً مشابهاً، وربما أكثر شمولاً، وهي الرؤية الألمانية ـ التي تمتدّ من لشبونة وحتى فلاديفوستك، والتي قد تستغرق وقتاً ـ لا بل أوقاتاً عصيبة. غير أن إظهار وجه أوراسيا الراديكالي سيكون غير رحوم، يتطلّب حلماً استثنائياً. فالولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة على أوراسيا ولا تزال في مطلع هذه الألفية ـ تبدو هيمنتها واضحةً أمام أعين الجميع.

روسيا محور الشرق… الصين محور الغرب

تصرّ بعض العقول السليمة في الولايات المتحدة على ضرورة تفكيك السلبيات، مركزةً على مخاطر الحرب الباردة الثانية. وكان رئيس مركز كارنيغي في موسكو ديميتري ترينين، قد عبّر في الوقت عينه، عن قلقه المتزايد إزاء الإيجابيات، كما اقترح خريطة طريق للتقارب الأوراسي. إن الشراكة الاستراتيجية الروسية ـ الصينية، من تجارة الطاقة إلى الدفاع وتطوير البنى التحتية، ستتصلّب وتتعقّد، كلما اتجهت الصين نحو الشرق والصين نحو الغرب. غير أن هذا لا يعني أن موسكو تابعةً للصين من الناحية الجيوسياسية، بل إن علاقتها معها هي علاقة تكافلية متصاعدة، صُمّمت على مراحل متقطّعة بشقّ الأنفس.

يلمع نجم دول البركس ـ تلك الكلمة القذرة في واشنطن ـ ويلاقي صدىّ واسعاً حول العالم تخطى ذلك الذي تمتعت به دول الـ«G7» . فبنك البركس الجديد للتنمية، جاهزٌ للبدء بنشاطاته قبل نهاية عام 2015، هو البديل الأساس للآليات التي تسيطر عليها مجموعة الـ« G7»وصندوق النقد الدولي «IMF».

ستضمّ منظمة شانغهاي للتعاون «SCO» كلاً من الهند وباكستان في القمة المقرّر عقدها في روسيا الصيف المقبل، والتي ستُدرج فيها إيران ـ بحلول عام 2016 ـ كعضو رسميّ بعد رفع العقوبات عنها. يبدو أن منظمة شانغهاي «SCO» ستكون المنظمة الأكثر ازدهاراً اقتصادياً وسياسياً وأمنياً في جميع أنحاء آسيا.

إن «أوروبا العظيمة» التي يسعى اليها بوتين من لشبونة وحتى فلاديفوستوك والتي تعني أن الاتحاد الأوروبي «EU» والجمعية الاقتصادية الأوروبية «EEC»، قد يقبعا في خانة الانتظار، بينما تتحضّر الصين لتشقّ طريق الحرير الجديد برّاً وبحراً. سيصبّ الكرملين في الوقت الحالي اهتمامه على استراتيجية موازية ـ استخدام منطقة شرق آسيا فضلاً عن التكنولوجيا لتطوير سيبيريا والشرق الروسي الأقصى. سيُحكم على الينّ أن يصبح العملة الاحتياطية عبر أوراسيا في المستقبل القريب، وسيسود استخدام الروبل والينّ في التجارات الثنائية.

العامل الألماني

تعتمد «أوروبا العظمى» الممتدّة من لشبونة إلى فلاديفوستوك ـ حكماً ـ على حلّ للّغز الألماني. تدرك الصناعة الألمانية بوضوح أن الأعاجيب التي تضخّها روسيا إلى ألمانيا، تفوق بكثير تلك التي تصلها من الاتحاد الأوروبي بكامله، مع امتيازات جيوسياسية واستراتيجية للقناة الممتدةّ حتى آسيا والمحيط الهادئ. ومع ذلك، لا ينطبق الأمر نفسه على الساسة الألمان. وأيّاً كان خطاب المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل، فهي تبقى مغرّدةً على خطّ واشنطن.

لا شكّ أن ألمانيا هي القطار الاقتصادي السريع للاتحاد الأوروبي. وبصفتها قوةً للتصدير، فإن وجهتها الوحيدة، لا الذهاب غرباً أو جنوباً، بل شرقاً. وهذا ما أنبأ به الصناعيون أثناء زيارة زي جينبينغ إلى ألمانيا في ربيع عام 2014. لم يقترح زي أقلّ من مشروع خط سكة حديديّ عالي السرعة يربط خط الحرير الجديد من شانغهاي إلى دويسبورغ وبرلين.

على الألمان ألا يفوّتوا فرصة رئيسة: فرع حيوي وأساس لطريق الحرير الجديد يكون عبر سكك حديديّة سيبيرية عالية السرعة. لذا، تفتخر طرق البريك الصفراء إلى بكين وشانغهاي بأن تكون موسكو إحدى محطاتها الاستراتيجية.

إمبراطورية الفوضى

من الواضح أن استراتيجية بكين نحو الذهاب غرباً، تتمتع بالحرية بسبب قوتها العظمى التي تتيح لها التدخل براً ـ عبر سيبيريا وطرق السكك الحديدية فيها، إلى جمهوريات آسيا الوسطى وصولاً إلى إيران وتركيا. وعلاوةً على ذلك، فإن هذا ما تعتبره روسيا تكافلاً، لأن الفوز بالنسبة اليها قفزٌ نحو جمهوريات آسيا الوسطى من خلال الـ«EEU» وما تصفه الصين بالحزام الاقتصادي لطريق الحرير.

كذلك، فإن بكين ـ في الوقت عينه ـ حريصة جداً على عدم استعداء الولايات المتحدة على جبهات أخرى بسبب قوة الأخيرة العظمى الحاكمة. وللتأكيد على ذلك، يمكننا أن نلقي نظرة على بعض المقابلات الصريحة جداً والدبلوماسية جداً لرئيس الوزراء الصيني لي كيكيانغ.

أحد الجوانب الرئيسية للشراكة الاستراتيجية الروسية ـ الصينية، أن لكلا البلدين موقفاً من تحديد السياسة الخارجية غير المتماسكة لواشنطن، باعتبارها مؤسّسة الفوضى. تماماً كما أوضح في كتابي «أمبراطورية الفوضى» وهذا ينطبق تحديداً على روسيا والصين، إذ تسلك مع كليهما نهج الفوضى ومبدأ فرّق تسُد. فبكين تنظر إلى واشنطن على أنها تحاول زعزعة استقرار محيط الصين كهونغ كونغ، التيبت، وشينجيانغ ، وتتدخل باستمرار في نزاعات بحر الصين الجنوبي. بينما ترى موسكو إلى واشنطن على أنها مهووسة بالتمدّد الأعمى واللانهائي لحلف شمال الأطلسي «NATO»، وعدم المخاطرة في منع روسيا من تحقيق التكامل الأوراسي.

وبهذا، تكون هذه وفاة مصدّقة للاستراتيجية الجيوسياسية الروسية السابقة، فهي عاجزة أن تكون من بين النخبة الغربية لمجموعة الـ«G7»، فضلاً عن حرمانها من الشراكة الاستراتيجية مع حلف الناتو. إنها خبرة في التخطيط المبكر، فبكين ترى ايضاً مدى شيطنة واشنطن اللامتناهية ليس فقط لبوتين، بل لروسيا ككلّ، وها هي تفتش عن كيفية تطبيق الاستراتيجية عينها مع الصين في المستقبل القريب.

التقاء التأرجحات

سقطت جميع الرهانات حول كيفية تطوّر علاقات المثلّث الأميركي ـ الروسي ـ الصيني. ويمكن القول أنها قد تنتهج النهج التالي: يتحدّث الأميركيون بصوتٍ عالٍ ويعرقلون مختلف المساعي لا يخجل الروس من الحديث مراراً وتكراراً، ويستعدّون ـ بصمت ـ لاستراتيجية طويلة مرهقة وصعبة يتبع الصينيون عقيدة دينغ شياو بينغ التي تنادي بمبدأ «الربان الصغير»، حديث العهد في الدبلوماسية والذي يتصدّر الواجهة في هذا المجال.

تستمع بكين جيداً إلى ما تهمس به روسيا: الهمّ أن واشنطن الاستثنائية في تراجع أم لا. لن تُعامَل بكين على أنها شريكة متساوية معها أو حتى تحترم المصالح الصينية الوطنية. وفي مثل هذا الفصل من اللاتوازن والتأرجح، لا تزال الرهانات جارية حول ما اذا كانت موسكو ستتعاطى بجدّيّة مع الأزمة الثلاثية التهديد: العقوبات، أسعار نفط الحرب، انخفاض قيمة الروبل، بهدف تطبيق قواعد اللعبة الهيكلية وإطلاق استراتيجية جديدة للتنمية الاقتصادية.

تأرجح آخر واضح ينحصر في ما إذا كان زي، المتسلّح بالقوى الناعمة، الكاريزما والكثير من الأموال النقدية، سيكون قادراً على مواجهة تغيير النموذج الاقتصادي والذهاب نحو الانهيار الغربي الذي لن ينتهي مع استعداء الشركاء المتعددين المحتملين للصين في بناء طرق الحرير الجديدة.

تحدًّ آخر كبير جداً، يتضح في مدى إمكانية أن تقرّر بروكسل إجراء تكافل متفق عليه بصورة متبادلة مع روسيا. وهذا في مقابل موقفها الحالي من العداء الإجمالي الذي يتجاوز القضايا الجيوسياسية. يبدو أن ألمانيا ميركل قد اتخذت قرار الإبقاء على منظمة حلف شمال الأطلسي ـ الناتو، وبالتالي تقزيم استراتيجيته.

إذاً، ما لدينا هنا، صناعة آسيا العظمى الممتدّة من شانغهاي حتى سان بيترسبرغ ـ متضمنة، وبشكل حاسم، طهران ـ على البدل من أوراسيا الكاملة الممتدّة من لشبونة وحتى فلاديفوستوك. سينقصم ظهر أوراسيا الكبرى، هذا واضح، أقلّه إلى الآن. لكن آسيا العظمى في طريقها إلى التبلور والوجود. ستجتاح الجهود المبذولة للقيام بذلك كلّ ما يعترضها وتكسرها كالتسونامي.

سيكون هذا مشهداً رائعاً نشهد على حدوثه. كيف تحدّق كلّ من موسكو وبكين إلى الغرب سياسياً، تجارياً وإيديولوجياً ـ مع تجنّب الوقوع في فخّ الحروب؟ كيف سيتعاملان مع الكثير من الضغوط؟ أين سيبيعان استراتيجيتهما عبر مساحات واسعة من جنوب الكرة الأرضية، متخطين حواجز خطوط العرض الأسيوية العديدة؟

معركة واحدة ـ إلى الآن ـ هي الرابحة. وداعاً زبيغنيو بريجينسكي. فإن حلمك بالسيطرة على رقعة واسعة من الأراضي قد أصبح طيّ النسيان.

حرب اليمن وخريطة الشرق الأوسط الجيوسياسية

كتب غراهام فولر

هل بإمكان أحد أن يتذكر مصطلح الحرب الباردة الجيوسياسية القديمة «دول الفئة الشمالية»، والمؤلفة من دول ثلاث: تركيا، إيران وباكستان وأحياناً أفغانستان التي تقع على طول الحدود الجنوبية للاتحاد السوفياتي والتي نظر اليها الغرب باعتبارها حصناً محتملاً ضدّ العدوان السوفياتي جنوباً نحو الشرق الأوسط؟ وهل من المحتمل أن نواجه اليوم تجدّداً لدول هذه الفئة التي لن تتّحد هذه المرّة ضدّ روسيا؟ بل على العكس، فقد تمظهرت هذه الدول الثلاثة تطويراً لعلاقاتها الجيوسياسية المتجانسة روحاً وطبعاً مع عدد من وجهات النظر الجيوسياسية الروسية، الصينية، وكذلك الأوراسية.

تشكل الأزمة اليمنية المستمرة أصبحت المخاض العسير لمثل هذا التطور. ومن هذا المنطلق، يبدو أن إيران هي التي تدفع باتجاه تجميع القطع الضائعة معاً، بهدف تكوين سلطة جديدة فضفاضة في الشرق الأوسط.

أنشأت المملكة العربية السعودية تحالفاً سنّياً مؤلفاً من عشر دول لمحاربة «التهديد الإيراني والشيعي» في اليمن والخليج والذي تأثر حديثاً بضربتين أساسيتين: انشقاق غير متوقع لكلّ من تركيا وباكستان عن المخيم السعودي، بعد الإشارة إلى إمكانية الانضمام إلى الحملة العسكرية ضدّ اليمن.

نعم، إنه لمن المعروف أن تركيا، إيران وباكستان هي الدول الثلاث غير العربية في الشرق الأوسط. لكن وعند التحدّث من جديد عن «الفئة الشمالية»، فنحن لا نتحدث عن كتلة عربية في مقابل كتلة غير عربية. إذ إن الفروقات هي إيديولجية وجيوسياسية وتنطوي على رؤى متفاوتة للمستقبل وإعادة ترتيب للخريطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط. قد تؤلف «دول الفئة الشمالية» سلطةً جديدة غير رسمية تتحدّى وقاحة الرياض الجديدة وطموحاتها الرجعية في المنطقة.

تتنافس حالياً قصتان حول الصراع اليمني:

يتباهى السعوديون بتشكيلاتهم الجريئة واجتياح الائتلاف السنّي لمنع تهديد الامبريالية الإيرانية/الشيعية التي يُفترض ان تهيمن على العراق، سورية، لبنان، الخليج والآن اليمن. تبدي الرياض قلقها من إمكانية رفع العقوبات المفروضة على إيران من قبل الولايات المتحدة لتأخذ مكانها كلاعب أساسيّ وشرعيّ على الساحة الإقليمية. فواشنطن لم تعُد تلك القوة الموثوقة في مجال معاداتها لإيران.

غير أن رواية بديلة تقترح مصدراً آخر للتخوّف السعودي ـ الذي لا ينبع من خوف ديني ـ لاهوتي، بل من الأهداف السياسية للثورة الإيرانية: تلك الثورة التي أطاحت النخب الراسخة والمتجذّرة، والتي ناهضت الملَكية، دعمت قيام المؤسسات الديمقراطية نعم، فالبرلمان الإيراني يُعدّ الأنشط والأكثر استقلالية من أي برلمان عربيّ آخر ، تحدّت بشكل مباشر الهيمنة السياسية والعسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، دعمت بقوة القضية الفلسطينية، والقومية المشاكسة، وقد أُعجب قسم كبير من الشارع العربي باستقلالية إيران وشجاعتها في تحدّي واشنطن ومواجهتها.

تشكّل تركيا بطبيعة النموذج الديمقراطيّ الأفضل والأكثر رسوخاً في المنطقة، على رغم سياستها الداخلية المتعرّجة أحياناً. وكذلك، فإن باكستان تعمل ضمن بعض الهياكل الديمقراطية منذ عقود مضت، جنباً إلى جنب مع بعض الزخارف الإسلامية، والحكم العسكري الدوري. هذه النماذج الثلاثة «الحديثة» تمثل دولاً مؤسساتية، واقتصادية لافتة ومتنوعة.

تختلف هذه الدول من منظور أساسيّ آخر عن الدول العربية في الشرق الأوسط. تمتلك كلّ من تركيا وإيران هويات قومية، وتسعى باكستان إلى بناء شخصيتها الإقليمية الأقوى. هذه الدول الثلاثة هي دول متعددة الأعراق، لكن شرعية مفهوم الدولة في ما بينها ليس قابلاً للطعن في الأساس، على رغم أنّ العمل على مصالحة بعض الأقليات الداخلية غير الراضية لا يزال حاجة ماسة. إن مفهوم مستقبل وحدود هذه الدول ليس موضوعاً قابلاً للنقاش علماً أن باكستان قد اهتزّت بقوة بسبب الارتجاجات المدمّرة نتيجة الحرب الأميركية في أفغانستان .

من الصعب في مكان، إطلاق مثل هذه الأحكام على الدول العربية اليوم. فها هي مصر، الدولة العربية الوحيدة التي تمتلك هوية إقليمية ضمن حدودها الجغرافية المعهودة ـ فضلاً عن أن أهدافها كـ«دولة حديثة» قد أُصيبت بالشلل نتيجة سوء الحكم الذي طال أمده. لم يعُد لديها ما تقدمه للمنطقة أو للعالم العربي لا الإسلامي، ولا العربي القومي، ولا الديمقراطي، ولا حتى ذلك الاشتراكي. كذلك، فإن عدداً قليلاً من الدول العربية ـ اليوم ـ يتمتع بوظيفة سياسية. أما العراق، فقد دمّرت الحرب هويته الجغرافية الإقليمية، وستقضي قريباً على تراث حضارات بلاد ما بين النهرين. في حين تعمل دول الخليج الصغيرة في كثير من الأحيان بشكل معقول، وتعيش على النفط، وهي دول قديمة ودفاعية في بنيانها السياسي والاجتماعي. والمُلاحظ ان الاستقرار في العالم العربي لا يمكن وجوده الا في دول الملوك والرؤساء: «مدى الحياة».

لكن، ما الذي أدّى إلى ذلك التحوّل في الموقف التركي من التحالف السعودي؟

فوجئنا صراحة بدعم أنقرة الأولي للرياض في حربها ضدّ اليمن في آذار الماضي، وكذلك بانتقادات أردوغان الصريحة والقاسية حول دور إيران في المنطقة. وهذا الموقف المتحوّل من الرياض يتناقض تماماً مع السياسات التركية طويلة الأمد في هذا المجال. وفي كتابي الحديث «تركيا والربيع العربي»، قدّمتُ وصفاً مسهباً لكلّ من أنقرة والرياض على أنهما تمثلان القطبين العقائديين الأساسيين لناحية: الطائفية، الديمقراطية، العولمة، العلمانية، التعددية الثقافية، الحداثة، والإخوان المسلمين. بينما تتفقان فقط على ضرورة الإطاحة بنظام بشار الأسد في سورية.

قد يُفهم قرار أردوغان المبكر على أنه قرار انتهازي، ومصدر قلق مبدئي لما يمكن أن يشكل في ما بعد «قوة عربية جديدة». لكن وخلال زيارة متوترة نسبياً إلى طهران أوائل نيسان الحالي، فإن أردوغان تراجع عن توجيه المزيد من الانتقادات إلى إيران، كما تراجع عن المشاركة في الحملة العسكرية السعودية ضدّ اليمن وهي صفعة قوية وجّهها للرياض. فإيران لا تزال البلد الأكثر أهمية بالنسبة إلى تركيا في الشرق الأوسط، في المجالات الاقتصادية والطاقة والشروط الجيوسياسة. وعلى أنقرة أن تضع في الاعتبار الأقلية الشيعية. فكم كان التأثير الإيراني واضحاً وراء هذا التغيير التركي المفاجئ؟

وليس أقلّ من ذلك، التحوّل الباكستاني. فبعد أن بدا للجميع أن إسلام آباد منفتحة على دعوة الرياض القوات الباكستانية العسكرية ودعمها لها في حملتها ضدّ اليمن. قرّر رئيس الوزراء الباكستاني نوّاز شريف، وعلى رغم علاقاته الشخصية العميقة مع السعودية، إحالة هذا القرار إلى المجلس النيابي، مع علمه المسبق بالرأي العام الشعبي الباكستاني من تبعات تورط القوات العسكرية الباكستانية في الحرب اليمنية. كما كانت لافتةً ـ وفي ذلك الوقت تحديداً ـ زيارة رئيس الوزراء الإيراني محمد جواد ظريف إلى إسلام آباد للدعوة إلى عمل إسلاميّ مشترك يبحث عن حلول تفاوضية سليمة. فكم فعل التأثير الإيراني على باكستان فعله في هذا المجال؟

ومع ذلك، قد لا تكون هناك كتلة «دول شمالية» بالمعنى الذي ذكرناه. لكن هناك الكثير من المنطق وراء التقاء وجهات النظر بين هذه الدول في قضايا متعددة. فهذه الكتلة غير الرسمية قد تشكل قوة أكثر اعتدالاً وتقدّمية من دول «التحالف السنيّ السعودي الحالي»، القائم على مبادئ الانقسام، والعقائدية، والتدمير والطائفية.

تطالب المنطقة بتحالف أكثر تقدمية من ذلك السعودي السنّي ذي النظرة الرجعية تجاه المستقبل. كذلك، فإن استحسان كلّ من روسيا والصين هذه السياسات الجيوسياسية غير التدخلية من قبل «كتلة الشمال»، قد يضفي نفوذاً أكبر لدول هذه الكتلة، التي قد تمثل رؤية غير عربية ـ إنما واضحة ـ لمنطقة الشرق الأوسط في الوقت الذي يبدو فيه أن العالم العربي نفسه يفتقر إلى تلك القيادة الحكيمة والبنّاءة التي تجسّد مستقبل الحداثة الحقيقي المنشود.

ربما لا يرغب العرب بالاستماع إلى غير العرب، لكنهم هم أنفسهم يقدّمون بدائل صغيرة في الوقت الحالي للمشهد القاتم في العالم العربي. على أمل ألا تسمح واشنطن لنفسها بأن تصبح عالقة مع «الثورة المضادّة»، فإن التحالف العربي يعتبر أساساً ومرتكزاً للسياسة الأميركية المستقبلية في المنطقة.

«G7» مجموعة الدول الصناعية السبع وهي: كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، المملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأميركية.

غراهام فولر: مسؤول سابق في قيادة الاستخبارات الأميركية، وكتب عدداً من الكتب حول الشرق الأوسط.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى