أسئلة التدمير الشامل… والأسئلة الجرثومية؟

نارام سرجون

انّ معظم القناعات الراسخة في التاريخ والثقافات الإنسانية بقيت راسخة رغم عبثيتها لأنها مسيّجة بحزام من المحظورات والمحرّمات والتابوات… وهذه التابوات الصلبة التي تحمي وتحرس القناعات بسياج القداسة الخالصة تطلب منك الاستسلام فوراً وتسليم كلّ أسلحتك من الأسئلة الخطيرة التي تعامل كأسلحة الدمار الشامل… وتفرض على المجتمعات الانضمام الى معاهدة الحدّ من انتشار «أسئلة التدمير الشامل»… كانت أسئلة مثل أسئلة الوجود والخلق والإيمان في المجتمعات المتديّنة أسئلة محمّلة بالنوويات المحظور انتشارها… الى أن جاء الفلاسفة من ديكارت وسبينوزا ومفكرون مثل داروين وفجروها وفجروا معها الديانات القديمة… وفي الحياة فإنّ استعمال أسئلة الدمار الشامل هو الذي هدم الفيزياء الكلاسيكية والشعوذة السيميائية وخرافات الأديان وكشف الجاذبية والضوء والكوانتوم والتطوّر ونشوء الأنواع…

وفي السياسة الدولية هناك أسئلة يحظّر على أيّ كان الاقتراب منها كما لو كان كلّ سؤال قنبلة هيدروجينية… ولا شك أنّ الزمن ينتظر فلاسفة جدداً وعباقرة جدداً يضغطون على زر التفجير الذرّي… ففي كلّ إشارة استفهام بضعة رؤوس نووية… مثل هذه الأسئلة تسأل عن حقيقة الهولوكوست مثلاً… وعما اذا كان أدولف هتلر شريراً أم تمّ تشويهه كما صرنا نعرف من تجربة الاحتكاك مع إعلام العالم الحرّ… وعن تسرّب الصهيونية الى جسد المسيح واختطافه… وهناك اسئلة «هيدروجينية» محظور استعمالها عن تسرّب «الاسرائيليات» الى الفكر المسيحي ولعق دم المسيح من جرحه مباشرة وتسرّبها الى الفكر الإسلامي لإنجاب الوهابية ونظريات «الإخوان المسلمين» التلمودية الدم… ولخطورة هذه الأسئلة فإنه لا يسمح لك دوماً باستعمال أو بحيازة «أسئلة الدمار الشامل»… مثل هذه الأسلحة هي التي تزيل الخرائط وتمزج دماء الأعراق وتهدم أدياناً عمّرت آلاف السنين، وتبني أدياناً للمستقبل وتهدم التاريخ المزوّر… ووحدهم المفكرون والقادة العظام هم الذين يتجرأون على حيازة واستعمال أسئلة الدمار الشامل…

في الحرب على سورية حاول الخصوم نشر كلام التدمير الشامل بكلمات جرثومية عن الهوية الدينية والمذهبية وحكم الشرع وحكم الأقليات ومظلومية أهل السنة… وفي نفس الوقت فرضوا ستاراً حديدياً حول الحقائق، وزجروا أسئلتنا ومنعوها من الاقتراب من المناطق المحرّمة بحجة إهانة الثورة ومشاعر الناس المجروحة، وإهانة قيم الحرية وحلم الديمقراطية من قبل الشبيحة وعشاق الديكتاتورية… وأحيانا بحجة انتماءاتنا المذهبية والاقليمية… وصارت كلّ أسئلتنا البيضاء البسيطة كالأسلحة البيضاء تعامل معاملة أسئلة دمار شامل… لأنّ الأكاذيب لا يمكن حمايتها ما لم ترتد ثياب القداسة.

فاسطورة نشر التشيّع كذبة وهابية صارت بقرة مقدّسة في المساجد الوهابية… وأسطورة الهلال الشيعي صارت حقيقة مثل هلال رمضان وهلال شوال حتى صرنا نرصد الهلال الشيعي المقبل كما نرصد هلال الصيام والإفطار… وأسطورة أظافر أطفال درعا صارت ايضاً بقرة مقدّسة مثل قضيب حمزة الخطيب المبتور وحنجرة القاشوش بلبل الثورة… ومثل حكاية البراميل المتقجرة التي صارت أبقاراً مقدّسة يجب ذكرها في كلّ صلاة وخبر كأنها كتاب مقدّس وما فيه ليس الا وحياً يوحى… ولا شك انّ قدس الأقداس هي كذبة سلمية الثورة السورية البريئة التي سلّحها الأسد وزنّرها بالإسلاميين وتوّجها باختراع «داعش» كي يفسدها… وأطلق سراح أعتى الإسلاميين مثل زهران علوش ليخرّب سلمية الثورة ويبرّر تحطيمها بالعنف…

في زمن الأسئلة الجرثومية فإننا أحوج ما نكون الى امتلاك أسئلة التدمير الشامل الذرية التي تحرق هذا العصر الجرثومي الذي استعملت فيه أسلحة جرثومية ضربت الأمة كالطاعون والجمرة الخبيثة… لأنّ الأسلحة الجرثومية المنتشرة في الإعلام العربي تسمّم العقل والضمير والروح والإنسانية وتحوّل الدماغ الى جرثومة كبيرة… هذا السلاح الجرثومي هو أسئلة طائفية، واسئلة مذهبية، تسألك عن مذهبك وطائفتك، وتسأل كلّ طائفة عما قدّمته من أثمان وكلّ طائفة عما ستقدّم من أثمان، وكأن الحياة بورصات للشيعة والسنة والعلويين والدروز نقرّر تذبذباتها وأثمان أسهمها بعدد الشهداء… ورصيدنا من الشباب صعوداً أو هبوطاً… جراثيم الأسئلة تريد أن تجرثم الدم والضمير والوطنية لتوحي لكلّ طائفة أنها تدفع أكثر ولكن من بورصة مختلفة… وتريد الجراثيم ان تقول للعقل بأنّ شباب الأقليات يموتون، ولكن السؤال الذي لا تقترب منه الجراثيم هو سؤال من أسئلة التدمير الشامل يسأل: من هي الطائفة التي دفعت أكبر ثمن في الحرب على سورية… ولماذا؟

الحقيقة الصادمة ذات الانفجار الذري التي لا تقولها الجراثيم هي أنّ جميع الطوائف تدفع ثمناً باهظاً… ولكن كانت الطائفة الكبرى التي دفعت أكبر ثمن باهظ في الحرب هي الطائفة السنية في المنطقة العربية وفي سورية تحديداً لأنّ مشروع الحرب على سورية كان لتحطيم العمود الفقري لسورية ومناعتها… وكما هو معروف فإنّ تحطيم مناعة الشعب في أي دولة لا تكون بتحطيم أقلياته بل بتحطيم أكثريته اقتصادياً وبشرياً وديموغرافياً، ولأنّ هزيمة بقية الطوائف والأقليات في أيّ بلد في الشرق لا تكون الا بهزيمة الطائفة السنية التي تعرّضت كلّ مدنها للتخريب المقصود بتحويلها الى معاقل للمسلحين، وكان أكبر عدد من المهجرين واللاجئين في سورية منها، وأكبر عدد من المدنيين والعسكريين الضحايا كانوا منها بسبب أنّ الحرب أديرت عمداً من مدنها وقراها لتحويلها الى طائفة فقيرة ضعيفة بلا اقتصاد ولا بنية تحتية ولا ديموغرافية متوازنة، بل وتفككت فيها الأسرة وتشظت العائلات… ولم تبد قوى «الثورة» والداعمون لها ايّ حرص على تجنيب مدنها وسكانها الحرب والدمار، وإذا تحطمت الطائفة السنية اقتصادياً واجتماعياً وديموغرافياً سقطت بقية الطوائف تلقائياً أو انفصلت تلقائياً… وهذا هو لبّ المخطط الطائفي لتقسيم سورية، اي اضرب الطائفة الكبرى بشرياً وعمرانياً بقسوة… تتفكك بقية الطوائف وتنفصل عنها، وكلّ ما تشيّعه الثورة عن أنها تضرب طائفة من أجل طائفة ذرّ للرماد في العيون، وتتحدّث عن ثمن بشري، لكن الحقيقة هي أنّ من دفع الثمن المؤلم بشرياً وعمرانياً وسكانياً كان السنة في سورية، لأنّ تدميرهم هو تدمير لسورية…

نريد أسئلة ذرّية كثيرة تكون في الرؤوس سبباً في إفراغها من كل ما امتلأت به من قاذورات، وتنهي عصر الشيعة والسنة، نريد من يفجّر القنابل الذرية في رؤوسنا ويطهّرنا بالنار الذرية من الجراثيم التي عششت في رؤوسنا.

نحلم بسؤال تدمير شامل من عيار: متى يدمّر العراقيون واللبنانيون دستوراً وضعه محتلّ لتوزيع الطوائف والدم على مناصب الدولة؟ هل هناك من عاقل يصدّق أنّ هذا الدستور المقدّس سيضمن للمجتمع استقراره وأمنه طالما انّ كثيرين سيركبون الطوائف ودماءها للوصول الى المناصب والزعامات؟؟

نحلم يوماً بلبناني شجاع من تيار المستقبل يمسك مفاتيح قنبلة هيدروجينية بسؤال يفجرها بين أهل «الحئيأة» يسأل: لماذا قتل رفيق الحريري ليلتقي دمه بدم صدام حسين في فاصل عام واحد ليكون دمهمها بوابة حرب المئة سنة الدينية السنية الشيعية وانطلاق مشروع الشرق «الاسرائيلي» الكبير وإنجاز الوعد اليهودي من الفرات الى النيل بعد تفتيت مكوناته العربية؟

هل يفيق لبناني من «المستقبل» ويرمي ويفجر سؤالاً نووياً يقول: اذا كان سعد الحريري يدعو الى إسقاط النظام السوري واغتيال قادته وتصفية رئيسه، فقط لأنّ سعد منحاز إلى المعارضة السورية السعودية الوهابية… أليس من حق النظام السوري منطقياً الردّ بالمثل على هذا الحماس وإسقاطك بنفس الطريقة والدعوة الى عاصفة تحزمك؟ أم انّ دم أبيك يمنحك الحق في أن تقتل الناس جميعاً وأنت متمترس خلف المحكمة الدولية؟ وهل أنت من يقف بين الدم والدم؟ وهل غيابك سيجمع الدم مع الدم أم يفرق الدم عن الدم؟

نريد أسئلة دمار شامل عن حقيقة يهودية آل سعود وجذرهم! ولماذا لا نسمّي السعودية مملكة يهودية؟ فهي لا تعادي إلا من عادى اسرائيل… ولا تقتل الا عرباً ومسلمين؟

وهل سفك دم أردوغان سيخلّص الشرق من سفك الدم المتواصل قبل أن تندلع حرب بات لا مفر منها؟ واذا كان ذلك فمن سيحظى بذاك الشرف؟ عربي أم تركي أم ايزيدي أذلّته دواعش أردوغان؟

أسئلة جرثومية من وحي الحرية

الأسئلة الجرثومية هي التي تجرثم الجواب السليم… وهي أسئلة لا علاج لها الا أسئلة ذات تفاعل ذرّي حارق، ومن يريد أمثلة على الأسئلة الجرثومية التي تجرثم الجواب والجمهور وعقل الجمهور، فما عليه الا ان يستمع إلى مقابلات الصحافة الغربية الأخيرة مع الرئيس بشار الأسد…

ففي متابعاتي لمقابلات الرئيس الأسد مع الإعلام الغربي مؤخراً، لفت نظري أنّ هذا الإعلام لم تُفك عقدة لسانه إلا بعد أن نال الإذن من الأميركيين الذين افتتحوا مبادرة الاستماع – لأول مرة – الى الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في الكرة الأرضية طوال أربع سنوات… ومن بعدهم تدفق الفضوليون الأوروبيون للحديث اليه بالرغم من أنّ المنطق كان يقول بأنّ الاستماع للأسد كان يجب أن يكون منذ البداية واليوم جاء متأخراً جداً… لأنّ الأسد طالما كان نقطة الخلاف في العالم والجدال الشديد، فإنه كان الأكثر جدارة بالاستماع اليه… لكن تصرّف الغربيون بطريقة تدلّ على انتقائية وقلة احترام لذواتهم وشعوبهم التي تعتقد أنها تمارس حرية الرأي لكنها لا تعطى الحقائق لتمارس حرية الانتقاء الحرّ فتصنع رأيها، لأنّ السياسيين الغربيين وسياساتهم الإعلامية أصرّوا على إقصاء وجهة نظر الرجل الذي اختلف العالم حوله وحول بلده وأصرّوا في عنجهية على تجاهله واعتباره في حكم المنتهي من الإعلام الغربي دون الأخذ بعين الاعتبار انّ تغييب رأي صاحب الشأن هو إسقاط لجوهر الحرية والمنطق العقلي والديمقراطية…

ومع ذلك نكتشف انّ هذا الإعلام لا يقدر على التحرّر ولا يقدر على أن يستقلّ وكلّ ما يشاع عن حريته والتغني بعبقريته في اكتشاف الآخر متمثلاً لمقولة فولتير الذي قال: «انني قد اختلف معك في الرأي لكنني مستعدّ ان أموت في سبيل ان تقول رأيك بحرية»… هذا الكلام تبيّن لنا أنه ليس إلا خزعبلات ومثاليات فرنسية يثرثر بها الفرنسيون والليبراليون العرب الذين يعانون عقدة نقص، لأنّ قلب الحرية الغربية هو العكس تماماً… فشعار الحرية الغربية هو أنني مستعدّ أن أموت في سبيل ألا تقول الا رأيي أنا…

فكلّ اللقاءات الصحافية مع الأسد تكرّر بشكل غريب نفس الأسئلة حتى يكاد الإنسان يجزم بأنّ المؤسسة التي أرسلت المراسلين واحدة، ولكن يتمّ توزيع الأسئلة على لغات مختلفة… فكلّ المراسلين يعيدون نفس السؤال عن البراميل المتفجرة… وسلمية التظاهرات البريئة التي قتلها الأمن… وعن حكاية الأسلحة الكيماوية، وعن أولئك الأشخاص المجهولين الذين دوماً يكونون شهود عيان للصحافي، ويحلف انه التقاهم وبكوا بحرقة من القهر من وحشية النظام، وهم لا يكذبون ولا يزوّرون ولا ينطقون عن الهوى، وليست لهم مآرب… وللصدفة الغريبة لا يلتقي هذا الصحافي الذي يجوب الآفاق الثورية ضحية واحدة لـ«الثوار»، وذبيحاً يصرخ دمه، وابناً أو أمّاً ثكلى، لا يسأل الصحافي أحداً ممّن ذبح أهله وشرّدوا بأيدي «الثوار الأحرار»، فهؤلاء غائبون وأساطير لا وجود لها…!

وغنيّ عن القول إنّ تكرار السؤال وتطابق الأسئلة تكاد تكون محاولة لتثبيت نقاط الذاكرة حول مجموعة بدهيات… تصبح من المسلّمات في الوعي الغربي… عندما يسأل السؤال نفسه من قبل مجموعة أطراف لا ينتمون لبعضهم بعضاً، وبلغات مختلفة ينشأ شعور عند المستمع أنّ الحقيقة هي التي تبقى نفسها وتسمعها بلغات مختافة مهما تغيّرت ألوانها ولغاتها…

ولكن الطريف في اللقاءات هي تلك اللهجة الاستجوابية احياناً والممتلئة بالصلف! لكن تفسيرها النفسي مردّه الى الحرج والذلّ الشديدين اللذين تحسّهما وسائل الإعلام الغربية وهي تضطر إلى الحديث مع الرجل الذي أذلّها وأتى بها راكعة.

فالحكومات الغربية محرجة جداً من الانعطافة الكبيرة في الشأن السوري، والقدوم الى دمشق، والحسّ بالذلّ من كسر القرار الإعلامي الغربي بإلغاء قرار النفي والإلغاء الاعلامي والسياسي، والعودة للاستماع إلى الرجل الذي أراد العالم إسقاطه، فإذا به مع شعبه يسقط إرادة العالم… ولذلك يظهر الصحافيون الغربيون في تمثيل دور الغاضب من الرئيس الذي كان حتى الأمس القريب عدواً للبشرية وللغرب وللقيم الغربية وللطفولة وللربيع والأزهار ولمبادئ الديمقراطية وحلم الحرية والذي يقتل شعبه ويعذبه وينكّل به حتى تعهّد الغرب بمعاقبته وجلبه الى العدالة على خطى العدالة التي طبّقت على صدام حسين ومعمر القذافي… ولذلك لا يبدو قرار العودة عن هذا القرار المتعالي المذلّ سهل الهضم، وهو الذي يكشف وهن الغرب عندما تواجهه إرادات الشعوب التي تلتقي بالقيادات الاستثنائية…

ولكن كلّ هذه الحركات والتمثيليات ستتلاشى قريباً بعد ان تمّ تجريع الجرعة الأولى للمشاهد الغربي وتحضيره نفسياً وإعلامياً للمرحلة المقبلة، وهي إنهاء العداء مع الأسد على قاعدة أننا أخطأنا التقدير… وأنه كان مصيباً، وهذه التحركات الإعلامية دوماً تكون سباقة لمرحلة انتهى ترتيبها والاتفاق عليها… ولولا الاتفاق عليها لما بدأ الإعلام عملية إعادة ترميم الصور وتلوينها بالتدريج…

ولكن لا يحطم الستائر الحديدية حول الاكاذيب المقدسة سوى الصمود المقدس… والنصر المقدس… ولا شيء يهدم الأكاذيب المقدسة الا أسئلة التدمير الشامل من مثل: متى يجيء نصر الله والفتح ويقرّر حلف المقاومة ساعة الصفر التي صرنا جميعاً نعدّ الثواني لها… هم أرادوها… وجاؤوا إليها بأرجلهم… فهل نسعى سعيهم أيضاً؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى