v معن بشور

كثيرون يتحدثون بحقّ إنّ ما يشهده الوطن العربي من اقتتال واحتراب، من غلّو وتطرف، من تدخل وعدوان، من إقصاء واجتثاث، يهدف، بالإضافة إلى سفك الدماء وتعميم الدمار وتدمير الدول والجيوش، إلى صرف الأنظار عن الصراع الرئيسي مع العدو الصهيوني، بل «إجبار» الأمة على اعتبار أنّ لها عدواً رئيسياً غير المشروع الصهيوني….

لكن قلة تنتبه إلى أنّ لهذه الظروف الدموية المؤلمة أهدافاً أخرى أيضاً هي صرف الأنظار عن مجمل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطن، وعن عمق المعاناة الإنسانية والحياتية لغالبية الناس، فتجري في ظلّ هذه الظروف المريرة أكبر عمليات نهب للموارد، وسلب للثروات، وأخطر عمليات الفساد والإفساد، وهو ما يجعل فقراءنا أكثر فقراً، والأغنياء أكثر غنى.

فكما عرفنا خلال الحرب في لبنان، كيف كانت الميليشيات على ضفتي الحرب تعقد الصفقات وتتبادل الرشى، وتنسق معاً أعمال النهب تحت ظلال البنادق، فإننا نشهد اليوم في كلّ ساحات المعارك اقتصادات موازية حيث يحقق «الاستثمار» بكلّ أشكاله أرباحاً مضاعفة، وتتمكن مصانع السلاح وتجاره من تكديس الثروات وتناميها، فيحلّ التهريب مكان التجارة، وتطردُ الأسواقُ السوداء، الأسواق العادية، فيرتقي أشخاص من طبقة إلى طبقة أكثر يسراً وثراء، فيما ينحدر باتجاه خط الفقر المدقع العديد من أبناء الطبقات الوسطى، على نحو يجعل للحروب المحيطة بنا أسباباً تضاف إلى الأسباب المتداولة، بل يصبح للاحتراب اقتصاده، ولهذا الاقتصاد مستفيدون منه، حريصون على استمرار الحرب لاستمرار منافعهم.

في ظلّ هذا الواقع الذي يختلط فيه الاقتصاد بالحرب، والقتال بالتهريب، و»النضال» بالارتهان للسفارات، وفي عيد العمال بالذات نرى بوضوح أنّ الكادحين يزداد شقاؤهم يوماً بعد يوم، وأصحاب الحقوق تهدر حقوقهم جهاراً نهاراً، بل نرى قوانين تصدر لإضافة أعباء على المواطن، فيما تتعدّد الأسباب للحيلولة دون صدور قوانين تنصف أصحاب الحقوق.

ولا أظن أنّ أحداً من المهتمين ينكر أنّ قوانين وقرارات صدرت إثر «نصائح» الصناديق الدولية كانت سبباً في ازدياد الاستقطاب الاقتصادي الاجتماعي، وبالتالي الاحتقان الشعبي والنفسي وقد شكلا، مع غيرهما، تربة لكلّ ما نراه حولنا من حالات غلو وتطرف وتوحش.

ومثلما يستخدم السلاح في زمن الحرب لتهجير الناس من بيوتها وحتى بلادها، نرى القانون في زمن السلم يستخدم أيضاً سلاحاً للتهجير.

إنّ عمّال لبنان، ومعهم كلّ الكادحين وأبناء الطبقات الوسطى، يفتقدون اليوم الحدّ الأدنى من مقومات العيش الكريم، فلا الكهرباء منتظمة إلا بالاشتراك الخاص، ولا المياه متوفرة إلا بالصهاريج وزجاجات البلاستيك، ولا المستشفيات «جاهزة» لاستقبال الفقراء حتى ولو كانوا على شفير الموت، ولا المدارس مجهزة لتضمن للأجيال مستقبلاً أفضل من حاضرهم المحزن، ولا وسائل المواصلات مهيأة لتنقل الناس من وإلى أعمالهم بالأسعار المعقولة، ولا الأسعار تراعي قدرة الناس على الشراء، بل إنهم عمال لبنان وكادحوه يتساءلون: أين قانون سلسلة الرتب والرواتب مثلاً الذي ينصف عشرات الآلاف من المعلمين والموظفين والعسكريين؟ هل ينتظر فعلاً جلسة تشريعية لمجلس النواب أم أنّ من أهداف تعطيل الجلسات التشريعية هو منع إقرار هذا القانون بعد أن أُمطر المطالبون بالوعود من كلّ الجهات؟

وفي المقابل، كيف تنعقد جلسة نيابية لإقرار قانون جديد للإيجار بمادة وحيدة ليطلق سلسلة من التفاعلات المهدّدة بالتصاعد، وخصوصاً بعد أن أبطل المجلس الدستوري بعض مواده الأساسية، فيبدو القضاء في جدل حول شرعية هذا القانون أو لا شرعيته، فيما المطلوب ببساطة قانون يتفهم ظروف المالك القديم وينصفه، ويحول دون تشريد المستأجر القديم ويصون كرامته وما تبقى من عمره.

ثم أين قانون السلفة لـ 23 ألف مواطن من أصحاب الحقوق في تعاونيات لبنان، بعد أن أمضى هؤلاء أكثر من عقد ونصف يناضلون لنيل بعض حقوقهم من مؤسسة يفترض أنها تحت وصاية الدولة ورعايتها، فإذا بها تتعرض لأشنع أنواع القرصنة والنهب وسلب حقوق فقراء ومتوسطي الحال ائتمنوا دولتهم على مدخراتهم وتعويضاتهم.

أما قانون السير الجديد، الذي كان مطلباً لكلّ مواطن يشكو من حال السير في العاصمة وعموم البلاد، فقد تحول إلى عبء على المواطن والدولة، بدلاً من أن يكون عاملاً مساعداً على تخفيف الأعباء عن كاهل الناس، ففرض على المخالفين رسوماً يعجز أصحاب الدخل المحدود عن دفعها، فيما لم توفر الحكومة الحدّ الأدنى من واجباتها تجاه الطرقات وحفرها والشوارع وانسداداتها وتأمين المواقف وتجهيز شبكات النقل العام وغيرها.

وإذا كان من حقّ الدولة التشدّد مع بعض المخالفين الذين لا تبرير لمخالفاتهم كالسكارى، والمدمنين، والمسرعين دون حساب، فإنّ من واجبها تفهّم ظروف أغلبية الناس التي تخضع اليوم مثلاً لابتزاز السوق السوداء، حين يتعلق الأمر بشراء بعض الحاجات التي فرضها القانون، بل من واجبها كدولة أن تؤمن شروطاً عدة ليصبح معها قانون السير «المعدّل» قابلاً للتطبيق.

ولن نسترسل في سرد أمثلة تمتلئ بها حياة اللبنانيين الذين إذا احتاجوا قانوناً حاسبهم المسؤولون بتعطيل التشريع وغياب الرأس الأول للبلاد، أما إذا احتاج المحتكرون أو أهل الصفقات إلى قانون من هنا أو قانون من هناك، فيصدر القانون حتماً.

في لبنان هجرتان… هجرة سببتها الحرب، وأخرى يسببها «السلم»… واحدة تمّت تحت قرقعة السلاح… والأخرى تجري باسم القانون الذي يفترض فيه حماية الناس فإذ به يطاردهم في قُوتهم وسكنهم وصحتهم ومواصلاتهم.

ألا تستحق الهجرتان حراكاً ممن لا مكان له خارج بلده، أو ممن ما زال مصمِّماً على الثبات في أرضه مهما كانت الصعوبات.

سؤال لا نجد أفضل منه، ونحن نحتفل بعيد العمال في بلد حُرم من الأعياد، ويكاد يُحرم من العمال والكادحين ومتوسطي الحال أيضاً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى