التصدّع الداخلي الأميركي: تحذير من فقدان الهوية البروتستانتية البيضاء!
كتب زياد حافظ ـ خاص «البناء» ـ واشنطن
الأحداث التي هزّت مدينة بالتيمور الأميركية، وهي من المدن الكبرى التي تنافس حجماً العاصمة الاتحادية واشنطن، تنذر بصيف حار قد لا يتوقف لهيبه قريباً. وهذه الأحداث ليست أحداثاً عابرة بل تشكّل نقلة نوعية وكمّية ومتراكمة في حجم التصدّع الداخلي الأميركي. صحيح أن الدافع الأول لتلك الأحداث هو العنف العنصري المنسوب إلى قوى الشرطة ليس فقط في مدينة بالتيمور ولكن في العديد من المدن الأميركية كمدينة شارلوت في ولاية كارولينا الشمالية وقبلها في مدينة ميامي في فلوريدا وقبلها في مدينة فرغيسون في ولاية ميسوري، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر.
لكن الأحداث العنصرية التي تعصف بالولايات المتحدة منذ فترة لها جذورها في تكوين الولايات المتحدة ولم تختف كما يزعم البعض في وصول الرئيس باراك أوباما إلى سدّة الرئاسة. بل العكس، لم تستوعب النخب المسيطرة على الحزب الجمهوري، والحزب يمثل نصف الناخبين الأميركيين تقريباً، أهمية الانفتاح على كافة مكوّنات الشعب الأميركي حيث العنصر الأبيض المسيحي البروتستانتي كان حتى وتاريخ قريب العنصر المسيطر. لقد حذّر صمويل هنتنغتون من فقدان الهوية البروتستانتية البيضاء يعني نهاية الولايات المتحدة. وهذه المقولة العنصرية لها أصداء كبيرة وتعكس مزاجاً واسعاً عند العديد من الأميركيين.
في المقابل فإنّ الحزب الديمقراطي كان تاريخياً أكثر استيعاباً للجالية السوداء وخرج من رحم ذلك الحزب الرئيس الحالي. لكن إذا ما نظرنا إلى قيادات الحزب خلال الحملة الانتخابية الأولية عام 2007 ثم عام 2008 نجد أن القيادات الديمقراطية لم تكن مؤيّدة لترشيح أوباما بل لهيلاري كلينتون وأن الذي خرج على الاجماع «الديمقراطي» هو الشيخ الراحل ادوارد كندي الذي أيّد بشكل واضح وملتزم ترشيح باراك أوباما. وهذه المساندة نقلت الإرث المعنوي الكبير لدى عائلة كندي إلى المرشح المنحدر من أصول إفريقية. ولكن أيضاً لم تكن القيادات السوداء داعمة في بداية الأمر لباراك أوباما بل لهيلاري كلنتون فاضطرت إلى تغيير موقفها بعد الضغط الشعبي الأسود الكبير لمصلحة أوباما.
لذلك نرى إخفاق الرئيس أوباما في تحقيق أجندته الداخلية. ومشروعه للضمان الصحي عانى الكثير من معارضة جمهورية كما من معارضة ديمقراطية. لم يكن الرئيس أوباما ابن المؤسسة الحاكمة رغم التنازلات للمجمّع المالي بعد الأزمة المالية التي كادت تطيح بالبلاد وحتى بالعالم أجمع. فالجشع كان أقوى من المؤسسات التي يتغنون بها والتي تبهر المتغرّبين من العرب!
وبالتالي لم يحقق اوباما آمال الجالية السوداء في الولايات المتحدة فخابت بل أصبحت خارجة عليه بخاصة عند جيل الشباب الذين أخذوا بتبنّي مواقف أكثر جذرية من قياداته التقليدية. فكانت الأحداث العنصرية التي كان سببها حماقة قوى الشرطة مع تراكم الاضطهاد ضد الجالية السوداء بخاصة مع تردّي الأوضاع الاقتصادية في البلاد. واليوم يوجد انشطار بين الجيل الأميركي الأسود الصاعد وبين قيادته التقليدية.
ووفقاً لبحث أعدّه الكاتب الأميركي كريس هدجز فإن الزعامات الشابة أسماء غير معروفة حتى الآن في الفضاء السياسي الأميركي الأسود ولكن الأب الروحي للروح التمرّدية السوداء بل الثورية إذا جاز الكلام هو الأستاذ الجامعي المرموق والفيلسوف كورنيل ويست صاحب المؤلف الشهير «قضايا عنصرية» أو «العنصر العرقي مهم» وهي من الترجمات المتعدّدة للعنوان بالإنكليزية. Race Matters الموقع الإلكتروني الشخصي لكورنيل وست مملوء بالانتقادات اللاذعة للنخب الحاكمة وبالتحريض لمقاومة الظلم الذي يحلّ بالجالية السوداء. ساند كورنيل وست ترشيح أوباما ولكنه ابتعد عنه بعد قبول الرئيس الأميركي جائزة نوبل للسلام على أساس أنه لم يعمل أي شيء ليستحقّها.
إن تسارع وتراكم الصدامات بين قوى الشرطة لمختلف المدن والضحايا من السود على يد تلك القوى عزّز الشعور بالتهميش والتحقير لديهم. ليس من الواضح عمّا سيُنتج المسار التصاعدي الذي نشهده في الولايات المتحدة ولكن تظافر الضيق الاقتصادي وتنامي الروح العنصرية مع تمركز السلطة والثروة في يد القلّة وعجز المؤسسات الدستورية في إيجاد الحلول للقضايا والمعضلات الوطنية إضافة إلى الرداءة في القيادات السياسية كفيلة لتوسّع رقعة التصادم. قد نرى المزيد من تدخّل الحرس الوطني وفرض حظر التجوّل وتفشّي الرعب واللجوء إلى الحماية الشخصية في بلاد تقدّس حمل السلاح وتحميه دستورياً، مما يوفر تشكيل عناصر العاصفة المثالية التي قد تطيح بالمجتمع الأميركي.
هذا سيناريو محتمل يزيد احتماله مع مرور الوقت وعدم معالجة الجذور السياسية والاقتصادية والاجتماعية لظاهرة العنصرية. وهناك من يعتبر أن العنصرية من سمات المجتمعات بشكل عام فثقافة تقبّل الاختلاف ليست مترسّخة كما يعتقد البعض وبالتالي قد تستمر العنصرية وتداعياتها السلبية في المستقبل المنظور. لكن العنصرية العائدة بقوة لتصدّر الأحداث في الولايات المتحدة ليست العامل الوحيد للتصدّع الداخلي. فهناك عوامل أخرى لا تقلّ أهمية وإن لم تكن تتصدر لائحة الاهتمامات عند النخب الحاكمة. فعامل الفقر المتزايد في أحد أغنى دول العالم سيكون سبباً رئيسياً في بلورة حركة احتجاجية في الولايات المتحدة.
نشير إلى بعض الأرقام المعبّرة عن ذلك الواقع والتفاوت الاجتماعي الكبير. فهناك أكثر من 118.000 طفل أميركي يعيشون خارج المنزل لأن لا منزل لهم وفقاً لإحصاءات وزارة الإسكان الأميركية بينما هناك 115.000 أسرة تجني كل واحدة منها أكثر من عشرة ملايين دولار سنوياً كما أبرزته أبحاث معهد السياسة الاقتصادية الأميركي. من جهة أخرى زاد عدد الأطفال الذين يعيشون على طوابع الإغاثة للتغذية بنسبة 70 في المئة من 9 ملايين طفل إلى 16 مليوناً في فترة ما بين عام 2007 وعام 2014 بينما تمّ خلق في تلك الفترة ثروات بقيمة 30 ألف مليار دولار! وهنا المفارقة العجيبة الغريبة حيث تمّ خلق تلك الثروات والعجز عن تأمين الغذاء لملايين من الأطفال. وليس هناك ما يبرّر العجز في تأمين الغذاء للأطفال حيث تدعم الحكومة الأميركية المزارعين الكبار بما يوازي 14 مليار دولار سنوياً وبالمقابل تمّ تخفيض الدعم الغذائي للأطفال بنسبة 8.6 مليار دولار على فترة العشرة السنوات القادمة!
هناك مشكلة أخرى توحي بالمزيد من التصدّع داخل المجتمع الأميركي وهي الخلاف حول المهاجرين غير القانونيين الذين يساهمون بشكل فعّال في تشغيل القطاع الزراعي الأميركي. فالنخب المسيطرة من الحزب الجمهوري لا تريد تثبيت المهاجرين غير الشرعيين لأنهم ينافسون الأميركيين في العديد من الوظائف في القطاع الزراعي وقطاع الإعمار كما أنهم يكلّفون الخزينة الأميركية في تقديم الخدمات الاجتماعية من تعليم وتطبيب. في المقابل يعتبر أصحاب شركات الإعمار والشركات الزراعية الكبيرة أن الهجرة الوافدة وغير الشرعية مصدر لعمالة رخيصة وبالتالي يعارضون أي سياسة تهدف إلى إيقاف تلك الهجرة. لكن العنصرية المتفشية في الولايات المتحدة وبخاصة عند الحزب الجمهوري جعلت الحزب يتجاهل المهاجرين من أميركا اللاتينية مما أفقده تعاطف تلك الجالية مع المرشّحين الجمهوريين. والمفارقة أن مرشّحين من الحزب الجمهوري للرئاسة هما من أصول أميركية لاتينية، أي تد كروز وماركو روبيو، لكنهما لا يحظيان بتأييد الجاليات الأميركية اللاتينية المعروفة بـ «اللاتينو».
هذه بعض المؤشرات التي توحي بأن الولايات المتحدة قد تواجه صيفاً حاراً قد لن تخمد نيرانه في المدى القريب.
أمين عام المنتدى القومي العربي