«القتال ليس الدين… والجهاد يغري العرب بالغزو والسلب ويشوّقهم بصورة الجنّة» «سيرى الشعب اللبنانيّ أنّ مسألة إسقاط وزارة ورفع أخرى لا تحلّ مشاكله»
جورج كعدي
مِنْ أين يأتينا قبس من نور وسط ظلمات الموت والإرهاب والدمار والخوف على مصير الأمّة، إنْ لم يكن من فكر النهضويّ والرائي الكبير أنطون سعاده، الذي نستحضر فكره اليوم، وكلّ يوم، لنلقى فيه الجواب والهداية والأمل والعزاء، فهو يجيبنا منذ أكثر من سبعة عقود عن أسئلة تؤرّقنا راهناً، تقلقنا وتدمي قلوبنا، حول الدين والدولة و«الجهاد» والعصبيّة الطائفية والضعف الذي يصيب جسد الأمّة بفعل التفسّخ والتشرذم وتسلّل الأعداء إلى الجسم المريض بآفات شتّى.
الشام متّشحة بالسواد، لبنان في تخبّط مستمرّ وطعم الموت عالق في الحلق، العراق مدمّى وجريح، فلسطين تنام وتصحو على احتلال وحشيّ رابض فوق الصدور، والبندقية العربيّة موجّهة إلى صدر الأمّة السوريّة بدلاً من صدر العدوّ «الإسرائيليّ»! كل شيء يبدو إلى انهيار تامّ، إلى مآل معتم، كأنّما لا رجاء لهذه الأمّة بأن تتّحد وتنفض عنها غبار التخلّف والطائفية، لتنهض على أساس قوميّ يزوّدها القوّة والمنعة والرفاه، فتقدر على التصدّي لأعدائها الطامعين، من الشرق والغرب، من قواعد الاستعمار أو من صحراء العُرْبة، فحسّادها كثر، والطامعون بموقعها وخصبها ومناخها وثرواتها يعتدون أو يتربّصون أو يتآمرون أو يتواطأون!
في الأوّل من آذار، التاريخ المجيد الذي شهد ولادة رجل النهضة القومية الأعظم، لا نرى أفضل وأجدى وأعمق من إعادة قراءة فكر سعاده مراراً وتكراراً، وإعادة الاستشهاد به في الملمّات الكبرى، فهو المنارة التي تنير لنا الدرب القويم، وتعطينا الجواب الشافي، وتمدّنا بالأمل، وتجدّد في عروقنا دم الحياة، وتؤكّد لنا على الثوابت التي لا تلغيها مراحل عابرة وطارئة تشهدها الأمّة المتراكمة الحضارات، الأعرق والأوفر إبداعاً في تاريخ البشرية.
خلت نفسي في هذه الذكرى أسأل النهضويّ الرائي سعاده في هموم الراهن وقضايا الساعة، خاصة حول الطائفية والدين والدولة، ويجيبني هو بما استشرفه برؤياه الفذّة منذ الأربعينات من القرن الفائت، وبما لا يزال صالحاً لساعتنا الراهنة، ما يؤكد استثنائية الرؤية وثبات المبادئ.
أسأل سعاده بدءاً عن القضية الدينيّة، خاصة بعنوانها الإسلاميّ الراهن في ظلّ الوهّابية الزاحفة إلى أرض الشام من بلاد العُربة وآل سعود لتعيث فيها قتلاً ودماراً، فيردّني سعاده إلى أصل هذه المعضلة قائلاً: « … الحقيقة أنّ الرسالة القرآنية تقسم إلى قسمين: القسم الأوّل وهو المكي السابق للهجرة وفيه الآيات المكية المتجهة اتجاهاً روحيّاً، على قدر ما تسمح به عقلية البيئة المحدودة العلوم والمعارف والاختبارات والأفكار والتصوّرات. والقسم الثاني هو المدني المشتمل على الآيات المدنية واتجاهه نحو شؤون أولويات الاجتماع وضروريات بداءة إنشاء نظام اجتماعيّ عام يشمل جميع العرب، ويحلّ محلّ العادات والعرف المقتصرة على القبائل وعلى حالات قليلة تقوم عليها الصلات بين القبائل التي كانت كلّ قبيلة منها كأنّها أمّة ودولة قائمة بنفسها، لا يجمع بينها غير عادة أو فريضة الحجّ إلى الكعبة والاصطلاح على ترك الغزو والثأر في شهر معيّن من السنة.
وفي هذا القسم يظهر عاملان رئيسيان هما: التشريع والسياسة. أمّا التشريع فلإقامة نظام عام يلغي خصوصيات القبائل ويوحّد العرب. وأمّا السياسة فلجعل نجاح الرسالة ونظامها ممكناً. وهذا العامل الأخير يظهر في أمر الجهاد الذي يُغري العرب بالغزو والسلب، وقد ظهر تأثير هذه الناحية في يوم بدر ويوم أُحُد، وفي تشويق العرب بصورة الجنة المادية وفي التساهل في شؤون حياتهم، خصوصاً في النساء وتعدّد الزوجات، مراعاةً لشهوات الصحراء الحادّة ولاقتصار شؤون حياة العرب على الغزو والسبي والسلب، ووقوف حياتهم الفنية والروحية على الفرس والرمح والمرأة. والمرأة أو أنوثتها كانت أقوى عامل في نفسية العربي ولذلك اعتبر القرآن هذه الناحية مع ناحية الصور المادية للجنّة حتى في الآيات المكيّة كما في قوله: «الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين. ادخلوا الجنّة أنتم وأزواجكم تُحبَرون. يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين وأنتم فيها خالدون. وتلك الجنة التي أُورثتموها بما كنتم تعملون. لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون» آيات متتالية من سورة الزخرف المكّية وقوله: «إنّ المتّقين في مقام أمين. في جنات وعيون. يلبسون من سندس واستبرق متقابلين. كذلك زوّجناهم بحور عين. يدعون فيها بكل فاكهة آمنين. لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم» سورة الدخان مكّية … ».
لكن هل أجاز الله للمسلم أن «يجاهد» ويقتل باسم الدين من دون تحديد واضح لهذا الأمر؟ يجيبني سعاده بثقة العارف المتفحّص عميقاً في الآيات القرآنية: « … لما كان الأمر بالقتال هو لإقامة الدين وليس لنقضه، فإنّ من الكفر بالله والهدم للدين الصحيح القول إنّ آيات القتال لاستعلاء الملّة المحمدية أو لدفع الشرّ عنها قد نسخت آيات الدين وحلّت محلّها. فالقتال فُرض لإقامة آيات الدين، لا لمجرّد القتال أو لحبّ القتال ولذلك قالت الآية: «ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين» سورة البقرة .
وقد قلنا في سياق ما تقدّم من هذا البحث إنّ الآيات الدولية في الرسالة المحمدية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحوادث الجارية. وهذه الحقيقة يجب أن تظلّ نصب أعيننا في كل درس صحيح لنصوص الإسلام المحمدي كدولة. ولهذه الحقيقة تخضع آيات القتال. فقد استنزل محمد آيات القتال لأنّه وجد من بادأ المسلمين بالقتال واضطهدهم. فأصبح القتال مربوطاً بشرطية وجود من يطلبون مقاتلة المؤمنين من المشركين.
أمّا الآيات التي قلنا إنها تقفو أوّل آية أمرت بالقتال فهي هذه: «واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشدّ من القتل، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا فإنّ الله غفور رحيم. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلاّ على الظالمين». وهذه الآيات توضح جيداً أن القتال كان دفاعياً، وليس هجومياً، وضرورة قضت بها عداوة المشركين. وقوله: «الذين يقاتلونكم» يعني أعداء الدين الذين يقصدون إبطاله ومقاتلة المؤمنين حتى ولو لم يباشروا القتال رأساً. ذلك لأن عداوتهم واضطهادهم المؤمنين ثابتان. وقد جعل القرآن الاضطهاد أعظم من القتال: «الفتنة أعظم من القتل» سورة البقرة رقم 2 الآية 217 . «الفتنة أشدّ من القتل» سورة البقرة رقم 2 الآية 191 .
والفتنة هنا بمعنى المحنة، كالإخراج من الوطن. ولذلك قال: «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم» سورة البقرة . وأيّد غرض القتال الذي أوضحناه بقوله: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله» سورة البقرة أي لإزالة الاضطهاد ومنع العداوة المؤذية ولإقامة دين الله والقضاء على عبادة الأوثان. فمتى صار الدين لله لم تبقَ حاجة إلى القتال الدينيّ وصار يجب العودة إلى الفكرة الدينية الصافية الموضحة في القسم المكي: «يا أيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد» سورة فاطر «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين» سورة القصص ، فهنا الدين. أما القتال فليس الدين بل ضرورة لإقامة الدين أوجبتها حالة البيئة.
وتأييد القرآن هذه النظرة هو تأييد جازم متكرّر. فقال «لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله…» سورة البقرة أي إن القصد من القتال ليس الإكراه بل دفع الفتنة والعدوان … ».
أقول للرائي سعاده إنّ راهننا يشهد إعادة خلط قويّ بين مفهومي الدولة والدين، وهذا ما لطالما عذّبه واحتلّ حيّزاً واسعاً من اشتغاله الفكريّ والعقيديّ القوميّ، فيجيبني: «في الدولة التي لا فصل بينها وبين الدين، نجد أن الحكم هو بالنيابة عن الله، لا عن الشعب. وحيث خفّ نفوذ الدين في الدولة عن هذا الغلو نجد السلطات الدينية تحاول دائماً أن تظلّ سلطات مدنية ضمن الدولة.
الدولة الدينية، التيوكراطية، منافية للمبادئ القومية، لأنّها تقول بسيطرة المؤسسة الدينية على مجموع المؤمنين كمزاعم البابوية والخلافة، فالبابا هو أمير المؤمنين أينما وجدوا وكذلك الخليفة. ليس في الدين أمة ومصالح وشعوب، بل مجموع من المؤمنين تسيطر عليه مؤسسة دينية متمركزة. ومن هذه الوجهة نرى الدين شيئاً دنيوياً، سياسياً، إدارياً تحتكره المؤسسة الدينية المقدسة. هذه هي الوجهة الدنيا من الدين. هي الوجهة التي كان الدين ولا يزال يصلح لها حين كان الإنسان لا يزال في طور بربريته أو قريباً منها أمّا في عصرنا الثقافي فإنّه لم يعد يصلح.
هذه هي الوجهة التي يحاربها الحزب السوري القومي الاجتماعي لا الأفكار الدينية الفلسفية أو اللاهوتية، المتعلّقة بأسرار النفس والخلود والخالق وما وراء المادة.
إنّ فكرة الجامعة الدينية السياسية منافية للقومية عموماً وللقومية السورية خصوصاً، فتمسّك السوريين المسيحيين بالجامعة الدينية يجعل منهم مجموعاً ذا مصلحة متضاربة مع مصالح مجاميع دينية أخرى ضمن الوطن ويعرّض مصالحهم للذوبان في مصالح الأقوام التي تربطهم بها رابطة الدين. وكذلك تشبّث السوريين المحمديين بالجامعة الدينية يعرّض مصالحهم للتضارب مع مصالح أبناء وطنهم الذين هم من غير دينهم وللتلاشي في مصالح الجامعة الكبرى، المعرّضة سياسياً، لتقلّبات غلبة العصبيات، كما تلاشت في العهد العباسي والعهد التركي. ليس من نتيجة القول بالجامعة الدينية سوى تفكك الوحدة القومية والانخذال في ميدان الحياة القومية.
القومية لا تتأسّس على الدين، ولا تتأسّس عليه الدول القومية. لذلك نرى أن أكبر جامعتين في العالم، المسيحية والمحمدية، لم تنجحا بصفة كونهما جامعتين مدنيتين سياسيتين، كما نجحتا بصفة كونهما جامعتين روحيتين ثقافيتين. إنّ الجامعة الدينية الروحية لا خطر منها ولا خوف عليها. أمّا الجامعة الدينية، المدنية والسياسية، فتجلب خطراً كبيراً على الأمم والقوميات ومصالح الشعوب، ولنا في العد التركي الأخير العثماني أكبر دليل على ذلك … ».
ما عساه رأي الزعيم القوميّ النهضويّ في الحال اللبنانية التي تراوح مكانها منذ عقود طويلة، وما سرّ هذا المرض المزمن الذي لا علاج له ولا شفاء؟ يجيب الزعيم سعاده: «لا أدري ما هي الميزة السياسية في الإسلام والمسلمين حتى تصبح رئاسة الوزارة وقفاً عليهم، ولا ما هي الميزة المدنية السياسية في المسيحية والمسيحيين لتصبح رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس النيابي وقفاً عليهم. ولكنني أدري أن تعيين المقدرة الأهلية للسياسة والحكم بالدين هو ضرب من إحلال الدين محلّ القومية وسياسة الدولة، وأنّ هذا الأسلوب هو من أسوأ أساليب الحكم وتمثيل إرادة الشعب ومؤهلاته. وإنّه أصلح الأساليب لإبقاء عقلية الشعب مفسخة، متناقضة، خالية من فهم الاتجاه القومي الصحيح والعمل بسياسة قومية صحيحة تخدم مصالح الشعب.
أليس من باب السخافة في هذا العصر أن يتقرّر مصير دولة بتحديد الإمكانيات والمؤهلات في اللون الديني الذي يجب أن يكون لرئيس وزرائها ومدير دفة سياستها؟
… سيرى الشعب اللبناني أن مسألة إسقاط وزارة ورفع أخرى لا تحلّ مشاكله ولا توجِد اليساسة الصحيحة التي تخدم مصالحه … إن الشعب اللبناني محتاج، ليس فقط لتغيير وزارات، بل لتغيير كلّ الحالة التمثيلية الإدارية من أساسها. فكل تغيير لا يكون في الأساس في المبادئ والأشخاص لا يعطي غير النتائج التي يئنّ الشعب منها.
إنّ سياسة «يجب أن يكون ابن عمّي في المجلس، لأنّي أنتفع من وجوده بتوظيف أو بتسهيل مصالح نفعية» هي سياسة تؤدّي إلى ترك مجموع مصالح الشعب الرئيسية، التي هي مصدر ثروته العامة وإمكانيات تقدمه وارتقائه، سبيل بعض المنافع العارضة الزائلة.
الحكومة تزول والحكومة التي ستحلّ محلّها تتألّف من أعضاء مجلس هذه الحكومة الزائلة. فالحالة ستبقى كما هي في الأساس.
وسواء أبقيت الوزارة أم سقطت فواجب الشعب تجاه حياته ومصالحه يقضي عليه أن يشيح بوجهه عن الشعوذات السياسية والألاعيب البهلوانية، التي كانت تستهوي أبصاره فيترك قيام الوزارة وسقوط الوزارة ومسألة المسلم والمسيحي ويتجه بكليته نحو الحياة القومية الصحيحة وتأسيس الحكم عليها».
ختاماً، أخرج على مسألتي الدين والسياسة لأسأل الكبير سعاده حول نظرته إلى الأدب، فيجيبني من المنظار القوميّ السوريّ قائلاً: « … إن الأدب الذي له قيمة في حياة الأمّة، وفي العالم، هو الأدب الذي يُعنى بقضايا الفكر والشعور الكبرى، في نظرة إلى الحياة والكون والفن عالية أصلية، ممتازة، لها خصائص شخصيتها.
فإذا نشأت هذه النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن أوجدت فهماً جديداً للقضايا الإنسانية كقضية الفرد والمجتمع وقضية الحرية وقضية الواجب وقضية النظام وقضية القوّة وقضيّة الحق وغيرها. وبعض هذه القضايا يكون قديماً فيتجدّد بحصول النظرة الجديدة إلى الحياة وبعضها ينشأ بنشوء هذه النظرة. فالحرية، مثلاً، كانت تُفهم قبل النظرة الجديدة إلى الحياة في أشكال واعتقادات لا وضوح ولا صلاح لها في النظرة الجديدة. فلمّا جاءت النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن، التي نشأت بسببها الحركة السورية القومية الاجتماعية، وقرنت الحرية بالواجب والنظام والقوة، وفصّلت الحرية ضمن المجتمع وتجاه المجتمعات الأخرى هذا التفصيل الواضح، الظاهر في تعاليمها، نشأت قضية جديدة للحرية ذات عناصر جديدة بينها فهم جديد يتناول أشكال الحياة كما تراها النهضة القومية الاجتماعية، وفعل الحرية وشأنها ضمن هذه الأشكال. والحب كان قضية شهوات جسدية ملتهبة لها شكل مادي يظهر في العيون الرامية سهاماً وفي خمر الرضاب وفي ارتجاف الضلاع وتثني القدود، فصار قضية جمال الحياة كلّه واشتراك النفوس في هذا الجمال. عرض عليّ مرة سجّل أمثال وأقوال فرأيت فيه قولاً مفاده أنّ الصداقة أجمل ما في الحياة، فكتبت في صفحة منه: «الصداقة هي تعزية الحياة، أمّا الحبّ فهو الدافع نحو المثال الأعلى».