يازجي من دمشق: الشهادة في سبيل الأوطان خير تعبير عن العيش الواحد
استضافت الكاتدرائية المريمية في دمشق أمسية مرتلة لتكريم الشهداء حضرها بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يازجي، وأحياها كورال الكنارة الروحية وأوركسترا أورفيوس.
وحضر الأمسية وزراء وأعضاء مجلس الشعب وفعاليات مدنية والقاصد الرسولي في دمشق وممثلو الطوائف المسيحية وأساقفة الدار البطريركية وحشد كبير من المؤمنين.
وتضمنت الأمسية عدداً من التراتيل والترانيم والأناشيد تخللتها تأملات في معنى الشهادة المسيحية والشهادة في سبيل الوطن. وفي نهاية الأمسية، التي نقلت عبر أثير الفضائيات، كانت للبطريرك يوحنا كلمة بعض ما جاء فيها:
«من ضحى القيامة أتمنى لكلّ نفس قيامية بركات العيد الحاضر. أردناها أمسية عن الشهيد وأمام الشهداء تصمت الأقلام. يراع الشهيد عزيمة قيامية ومداده دم قلبه. وأمّا قدس أقداسه فوطن أحبه وديار احتلت منه القلب، ومن حبه لها يفترش رحمها كرحم الأم. كلّ منا يكتب أزلية عشقه لشيء ما ويسكبها أفعالاً أو سطوراً أو ما شابه إلا الشهيد، وحده يكتب بروحه ويمضي بدم قلبه ويمسح بدموع محبيه غشاوة الدمع عن عين الوطن».
وأضاف يازجي: «الشهيد هو شهيد المحبة. والمحبة هي التي تتهادى بين ثنايا الشهيد والشهادة والوطن. وصناع المجد هم الشهداء للحق. ومن الشهادة للحقّ التي كتبها ملك المجد على علياء صليبه، يحلو لنا أن نطل عليكم إطلالة المحبة بلسماً لوطن جريح ومجيد في آن معاً. جريح لما يجري ومجيد بمجد شهدائه الأبرار».
وقال :»من دمشق، من بوابة الحاضر إلى التاريخ، ونافذة الأوابد إلى دنيا اليوم، من جارة الأبدية التي تستظلّ كنائسها بفيء الأموي وتغفو مساجدها على رائحة بخور الكنائس يطيب لي أن أذكر أنّ الشهادة في سبيل الأوطان كانت ولا تزال خير تعبير عن ماهية عيش واحد في ثرى سورية وفي أديم هذا المشرق. نحن، أبناء هذه الديار، إخوة في الإنسانية وإخوة في التاريخ. نحن إخوة الجغرافية وإخوة الإيمان بقدرة الوطن على صهر كلّ مكوناته في بوتقة المواطنة. نحن أيضاً إخوة الشهادة لنورانية قاطن السماء. نحن إخوة تراب الشرق وإخوة الشهادة والدفاع عن تراب الوطن».
وأضاف: «إلا أنّ فهمنا للشهادة يا إخوة لا يعني أبداً استرخاصاً للكرامة البشرية وازدراء مبطناً بقدسية الحياة الأرضية. نحن قوم نحب العيش ومن حقنا العيش بسلام لكن إذا ما اضطررنا أن نقول كلمة في وجه الباطل فسنقولها غير هيابين الموت حاملين أرواحنا على أكفنا. من الشام الشاهدة على هداية بولس والكبيرة كبر قاسيون والصخرة العصية أمام عواصف التاريخ نقول ونكرّر. أما آن لعواصف البطل أن تغرق في بردى؟ أما آن للعالم أن يستفيق ويصحو؟ أما آن للبشرية أن تستوعب أنّ هنالك إرهاباً وتكفيراً يستهدف هذا الشعب؟ أما آن لكواليس الأمم أن تسمع الصوت عالياً في قضية المطرانين يوحنا ابراهيم وبولس يازجي والآباء الكهنة المخطوفين منذ أكثر من عامين؟ أما آن لهذا المجتمع الدولي أن يتساءل ولو مرة، لماذا تغلق سوقه حصاراً على شعب وتفتح في آن معاً سوق سلاحه على مصراعيها»؟
وتابع: «نحن، أبناء هذي الأرض، لم نخلق على هامش البشر. ومن هنا فليسمع العالم كله، دماؤنا نحن المشرقيين ليست أرخص من دماء أحد. وقطرة دم إنسان بريء يقتل تزن براميل النفط وأسواق المصالح. لم تخلق ديارنا لتكون مرتع إيديولوجيات متطرفة. هذه الأرض خلقت لتكون مرتعاً النور. وكونوا متأكدين أنّ نور السماء من نور الأرض وأنّ جنة السماء تستذاق من ههنا بالتأكيد على قدسية الحياة على الأرض. ومن هنا ننطلق لنؤكد على ضرورة تعميد الخطاب الديني، مسيحياً كان أم مسلماً، في جرن الخطاب الوطني والمرجعية للوطن وفي بوتقة العيش الواحد بين سائر الأطياف».
وأشار يازجي إلى «أنّ الشهيد هو شاهد على شيء عشقه ومات في سبيله. والمسيحية المشرقية هي الشاهدة بامتياز للرب المخلص والقائم. هذه المسيحية معلقة على صليب هذا المشرق وسالكة درب جلجلة ولكنها وهي ابنة العشرين قرناً باقية ترنو إلى نور القيامة وهي تثق أنّ سيد القيامة قائم في وسطها رغم الشدة. هذه المسيحية ضاربة الجذور في عمق التاريخ وشراعها يمخر الزمن الحاضر برجاء كبير وبشهادة مثلى. هذه المسيحية سليلة إيمان وأمانة الرسل. هي شاهدة على صلب المسيح. نعم، وشاهدة على شهادة الرسل له ولكنها شاهدة، أيضاً، لا بل دامغة بميرون الروح وختمه قيامة الفادي المجيدة وقيامة الإنسان الذي أحب. هي مزروعة وباقية في أرضها بقاء دمشق في ظلّ قاسيون وبقاء الثلج في ذرى لبنان. قد يدمي وجهها كفي الزمن الحاضر، لكنها تعي تماماً أنها ربيبة يسوع، أنها ابنة المكلل بالشوك والهاجع في القبر. وتدرك أيما إدراك أنّ هجعة القبر نسفها رب المجد القائم الذي حطم أمخال الجحيم وخلع على الكلّ نور القيامة».