الدولة والجغرافيا

نسيب أبو ضرغم

قال سعاده:«متى كانت المسألة مسألة العالم العربي فنحن هم سيف العالم العربي وترسه…».

فهل أن سورية فعلاً هي سيف العالم وترسه؟

إن ما أشار إليه سعاده كان في حدود الإمكانية التي تنطوي عليها الأمة السورية، وكذلك الوطن السوري الجغرافيا . إذ كانت في التعبير الفلسفي قوة بالقوة…

لمقاربة المسألة بموضوعية، لا بد من التوقف عند المسار التاريخي التي تدرجت به الدولة السورية منذ الاستقلال.

منذ منتصف الأربعينات من القرن الفائت، قامت الدولة السورية المستقلة عن الانتداب الفرنسي، إلاّ أن سادة العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ونعني التحالف الصهيو ـ أميركي، وجدوا أنفسهم أمام واقع سياسي جديد يتمثل في قيام دولة مستقلة في سورية تسبق سنوات قليلة ما كان يخطط له من قيام«إسرائيل»، وبالتالي فإن الحاجة في نظر هؤلاء باتت ملحة لوضع سيناريو يكبل سورية ويمنع قيام دولة حقيقية فيها.

لم يمضِ على قيام الدولة الوطنية أكثر من ثلاث سنوات، حتى رتبت الاستخبارات الأميركية CIA انقلاباً بقيادة حسني الزعيم، كانت الأهداف الأساسية للتحالف الصهيو ـ أميركي منه توقيع معاهدة«سلام» مع«إسرائيل»، وفتح الأرض السورية أمام شركات البترول الأميركية أرامكو وسواها لجر النفط من الجزيرة العربية والعراق إلى شواطئ المتوسط، وكان انقلاب حسني الزعيم في آذار 1949 فاتحة انقلابات في سورية ارتاح الغرب إليها، لسبب أساسي هو أنها خلقت في تعددها جواً من اللااستقرار السياسي وبالتالي إرباكاً اقتصادياً أضعف قيام الدولة القادرة.

يدرك الغرب الأهمية الفائقة للجيوبوليتيك السوري، فإذا كان تقسيم الأرض غير متاح في تلك الفترة، فإن الإرباك السياسي والاقتصادي أتيح عبر تكرار الانقلابات بمعدل قياسي، ما عمّق الهوة ما بين الجغرافيا وما تمثل من أبعاد وإمكانات، والدولة المربكة وغير المستقرة، بحيث وصلت السيرورة السياسية في الشام حتى عام 1970 أيام حركة التصحيح التي قادها الرئيس حافظ الأسد إلى إفشال الإمكانات في الجغرافيا عبر الضعف البالغ في إمكانات الدولة، ما أدى إلى اللاتوازن بين الجيوويين البوليتيك والحركة التصحيحية التي قادها الرئيس حافظ الأسد، وأثبتت النتائج أن أحد أهم منجزاتها التساوي بين الجيوالبوليتيك، عبر قيام دولة حقيقية أثبتت أنها فعلاً دولة حقيقية من خلال هذه الحرب الكونية عليها.

إن عظمة قيام دولة حقيقية في الشام لا تقف عند حدود تأسيس دولة على قياس عظمة جغرافيتها، بل في نقل الوضع الذي كان قائماً قبل قيام هذه الدولة من واقع الانفعال إلى واقع المشاركة في الفعل.

منذ الحرب العالمية الأولى وسورية الطبيعية تتلقى مخططات الغرب، من دون أن يكون لديها من القوة ما يكفي لإسقاط هذه المخططات، فكانت تعترض لكنها ترضخ في النهاية لها سايكس ـ بيكو، وعد بلفور… .

الحالة المشار إليها تتمثل في كوننا معْطى جيو ـ استراتيجياً منفعلاً لا حول له ولا قوة. هكذا كنا خلال الحرب العالمية الأولى، وهكذا كنا كذلك خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها.

يشهد العالم صراعاً دموياً على مستوى الكرة الأرضية بين محاور، سواء في الحرب الأولى أو في الثانية، ولم تكن البتة رقماً في أي محور من الاثنين، إذ لم يكن لدينا دولة حقيقية. كنا تحت الاستعمار العثماني والفرنسي ـ الإنكليزي. كانت هذه المعادلة تمثل بؤساً وشللاً وطنياً وقومياً على مستوى النتائج، فسواء ربح الحلفاء أو ربحت ألمانيا في الحرب الأولى أو ربح المحور أو الحلفاء في الحرب الثانية، فإننا في الحالات كلها خارج اللعبة، خارج الفعل، بل موضوعاً لنكبة لم تعرفها الأمة منذ قرون، هي نكبة جنوب سورية ـ فلسطين. أما اليوم، وبعد ثلاث سنوات من الحرب الكونية على سورية، فإننا نرى أن المشهد تغير نوعياً.

أولاً: لدينا دولة حقيقية أثبتت فاعليتها ودورها في هزيمة المشروع الصهيو ـ أميركي على سورية.

ثانياً: استطاعت هذه الدولة السورية، بما هي عليه، أن تمتلك الشروط الأساسية الكافية لانتقال السياسة السورية من الانفعال إلى الفعل، أي في معنى أوضح، أن تكون رقماً في معادلة الصراع القائم في العالم العربي عامة وعلى مدى سورية الطبيعية خاصة، واستطراداً على مدى كتلة دولية ناهضة البريكس .

ثالثاً: انخراط الدولة السورية في المعادلة الدولية، وبالتالي حصول الإمكانية الحقيقية التي تؤهلها لأن نكون شركاء في بناء النظام الدولي الجديد، وكذلك في النصر الذي أخذ يلوح بوضوح أمامنا.

حصل في التاريخ الحديث أن حاولت مصر عبد الناصر أن تلعب الدور ذاته ، إلا أن انقسام العالم آنذاك بين ثلاث كتل، غربية وشرقية، ولا منحازة، أضعف الدور المرتجى الذي كان يطمح الرئيس عبد الناصر إلى أن يلعبه.

اليوم، ينشطر العالم إلى كتلتين عملاقتين:

الأولى: التحالف الصهيو ـ أميركي وحلفاؤه من أوروبيين وأتراك ومعظم العرب.

الثانية: دول البريكس إضافة إلى إيران، ومجموعة دول أميركا اللاتينية، إضافة إلى المقاومة في فلسطين ولبنان.

هاتان الكتلتان تخوضان صراعاً مريراً في سياق تأسيس نظام دولي جديد، وتطمح كل منهما إلى أن يكون هذا النظام الجديد خادماً لمصالحها.

للمرة الأولى في تاريخنا الوسيط والحديث، نجد الجغرافيا والدولة السوريتين رقماً في معادلة كونية، سوف تترتب عليها نتائج جيو ـ استراتيجية عميقة، ليس على مستوى الإقليم فحسب بل على مستوى العالم.

المهم في الأمر، أن ذلك كلّه يجري والرقم السوري إن على مستوى الجغرافيا أو على مستوى الدولة حاضر وقوي ومقرر.

نحن جزء فاعل في هذا الصراع الروحي، وأهمية ذلك أنّنا أصبحنا في مرحلة الفعل. هل كان يعقل أن تولد«إسرائيل» لو أننا كنا آنذاك في المرحلة ذاتها. كلا بالطبع، ولأجل ذلك، ولأن«إسرائيل» تدرك الواقع، حصل ما حصل في أواخر الأربعينات وللسبب عينه. حوصرت سورية بعد قيام الحركة التصحيحية، ولأجل ذلك وضعت مخططات تقسيم سورية في عبثية هذا«الربيع العربي».

نحن اليوم أمام دولة تستأهل جغرافيتها. نحن في مرحلة سوف تفضي إلى انتصارات ليس على مستوى الداخل فحسب بل على المستوى القومي برمته، والجغرافيا القومية برمتها.

لقد فعل الجيو ـ بوليتيك السوري فعله، جغرافيا ودولة، وأثمر انتصاراً على المؤامرة في الداخل، وتغيير جيوـ سياسياً في الخارج لن تكون القرم وشرق وجنوب أوكرانيا سوى بداية له.

هل كان سعاده مخطئاً حينما قال:«متى تكون المسألة مسألة العالم العربي فنحن هم سيف العالم العربي وترسه».

بالطبع… كلا، بل كان الصواب بعينه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى