الفنانة التشكيلية مهدية تونسي… حركة اللون بين الذاتيّ والموضوعيّ
نصّار إبراهيم
«أعيش في عمّان وأحمل الجنسيتين العربيتين التونسية والأردنية… جاء جدّي من تونس إلى بلاد الشام أيّام الحرب التركية، وسكن في حارة المغاربة في القدس منذ كان عمره 17 سنة، وحتى ناهز الـ98 سنة، وكان يتنقل ما بين القدس والكرامة، ويملك جدّي في القدس بيتاً وأرضاً زراعية، وهو مدفون هناك في مقبرة باب الأسباط في القدس… أمّا والدي فقد ترك التدريس في وكالة الغوث وسافر إلى تونس حيث استقر فيها من عام 1964 حتى 1973، عدنا بعد ذلك إلى الأردن حيث نعيش فيها حتى الآن»… قالت مهدية تونسي.
تبدو الفنانة العربية الأردنية التونسية مهدية تونسي في أعمالها التشكيلية وكأنها تذهب بذاتها إلى حيث اللون وفضاءاته وحركته. فهي لا تقيّده ضمن قوالب محددة، بل تدعه ينطلق بحرّية كاملة وتمضي معه وهو يتحرك ويتشكل ويغطي المساحات كما يشاء. تلاحق مهدية الحركة الطبيعية لرحلة الألوان والحدود والتداخلات وترصدها. وأحياناً توجّهها نحو حلم محدد أو نحو أمل محدد وأحياناً تدفعها إلى الانفجار كالبركان. أو تراقصها على إيقاعات صوفية. وأحياناً تبدو وكأنها تُفاجَأ بما وصلت إليه. لتعود وتمضي منسابة نحو عوالم وتشكيلات مدهشة أو تدور في دوامة عاصفة.
التشكيلية مهدية تونسي تدرك بأنها لا تملك مقاليد الحياة، فهذا ليس بيدها. كما أنها تعي صرامة الواقع الموضوعي سواء في الطبيعة أو في المجتمع. فالحركة بقدر ما تبدو مطلقة إلا أنها تمارس رحلتها وكأنها محكومة بقوانين غير مرئية لا تستطيع تجاوزها.
ضمن محدّدات هذه المعادلة، يتكثف حضور الفنانة مهدية في أعمالها. فتبدو الفرشاة مستقلة وهي تتحرك مع الألوان ومساحاتها الموضوعية. فهي تدرك محدودية التدخل والدور الفردي في واقع الحياة والطبيعة، لكنها في الوقت ذاته لا تنسى نسبيته. ولهذا حاولت أن تحافظ على التوازن بين الذاتيّ والموضوعيّ، بحيث يبقى حضورها متناغماً مع الحركة الموضوعية للألوان والفكرة التي تحاول إيصالها. ويتجلى فعل هذه المعادلة الواعية أو العفوية من خلال تمازج الألوان وحركتها التي هي أقرب إلى التشكيلات الصخرية الطبيعية أو المجرّات الكونية، بما يعكس حالة نفسية ومعرفية لما يدور في الأعماق من تناقضات وإرهاصات، من صعوبات وتعقيدات وآمال، وأيضاً من انتقالات في واقع الحياة. وكل ذلك ارتباطاً بسياقات كبرى تتحرّك في كثير من الأحيان بعيداً أو رغماً عن إرادتنا.
ومع ذلك، يبقى الذاتيّ حاضراً وفاعلاً في السياق العام. ومن خلال تتبع العلاقة بين العام والخاص، نكتشف أو نلتقط المعادلة المضمرة في الأعمال الفنية. فأعمال مهدية تونسي تسرد رواية مترابطة لها بعدها الفلسفي الذي يعود إلى صيرورة التكوين وماهيته وتناقضاته. هذه المعادلة تفرض مقاربة الأعمال بتكاملها وتفاعلها وتواصلها معاً، ونلاحظها جليّة في العناوين التي أعطتها مهدية لبعض لوحاتها: تكوين، الكون، دوّامة، بركان، فوضى خلاقة، رقص الحلاج، قوى الظلام، السقوط إلى الهاوية، دمار، فسحة أمل، انتظار يمامة.
فالتأثير البصري الناتج عن التفاعل الهادئ والصبور والعميق مع أعمال مهدية تونسي يفسح المجال للوعي والمخيال كي يتحرّكا مع حركة الألوان التلقائية في عملية تشكيل سلسة تعكسها عملية انتشار اللون وتداخلاته بصورة عفوية وأحياناً بصورة متكررة بما يدخل المشاهد في حالة من الغياب بما يشبه الاندماج والاستسلام لحركة الطبيعة الغامضة، وكأننا نسافر في المجرات أو الصحراء أو البحار. حيث تغمرنا الدهشة والخوف والغموض وفي الوقت ذاته الفرح والأمل. وفي سياق هذا التفاعل، نكتشف أننا ذاتنا قد أصبحنا جزءاً عضوياً حيوياً من عملية التكوين الجارية من حولنا وفي أعماقنا.