قصاصات هنري ماتيس الورقية معرضاً استعاديّاً في لندن
كتب ـ عدنان حسين أحمد: ينظم متحف الـ»تيت مودرن» في لندن معرضاً استعاديا للفنان الفرنسي هنري ماتيس 1869 ـ 1954 يستمرّ 7 أيلول 2014 ويضمّ 130 عملاً من نوع الكولاج منفذاً بتقنية القصاصات الورقية التي برع ماتيس في إنجازها بين عامي 1937 و1954.
أقعد مرض التهاب المفاصل ماتيس وظل يتنقل على كرسي متحرّك طوال سنواته المتبقية، لكنه بقي متفائلاً ومبتهجاً ومحتفياً بالحياة، رغم بعض المنغصات التي كانت تؤرقه بين أوان وآخر. ولشدة ولعه بما أنجزه من أعمال فنية مميزة تتألف كلها من قصاصات ورقية وانتظمت لاحقاً في أعمال فنية شديدة الإبهار، حتى أنه سمّى السنوات السبع عشرة بـ«الحياة الثانية» المليئة بالعطاءات المتفردة والإنجازات المتميزة التي جعلته يعيش بيننا ويعاصرنا وربما تمتدّ هذه المعاصرة إلى المستقبل البعيد.
لم تنبثق هذه الأعمال المذهلة من فراغ، فهو رسّام وطبّاع ونحّات ويعتبره النُقّاد، مع بابلو بيكاسو ومارسيل دو شامب، من أول الذين حدّدوا التطورات الجذرية للفنون التشكيلية في العقود الأولى من القرن العشرين.
تضيف «الوحشية» Fauvisme التي طبعت أعمال ماتيس في مراحله الأولى تفيدنا في تسليط الضوء كامل تجربته الفنية التي أفضت إلى مرحلة «الكولاج»، التي سادت فيها تقنية «القصاصات الورقية» التي أغرت جمهور الفن التشكيلي البريطاني وجعلتهم يتزاحمون أمام بوابة «تيت مودرن» على نحو غير مسبوق. وتميّزت هذه «الوحشية» التشكيلية باستعمال ألوان غريبة وصارخة، بل متناقضة في أغلب الأحيان، كما أن تحريف الأشكال وتغيير النسب، والتلاعب بالأحجام، هي السمات الأساسية لهذه المدرسة الفنية التي استمرّت عشر سنوات فحسب، لكنها قوية بحضورها الموارب، بطريقة أو بأخرى، لدى الفنانين المؤسسين لها تحديداً مثل ماتيس وموريس دي فلامنك وأندريه ديران وجورج براك وغيرهم من الذين عُرفوا بعنف الفرشاة والألوان الحادة الصارخة والمواضيع التي تميل إلى التبسيط والتجريد.
لا بدّ من الإشارة إلى تأثر ماتيس بالمدرسة الانطباعية أيضاً، كي نلمّح إلى وفائه وإخلاصه للفنانين الذين مدّوا إليه يد العون والمساعدة وفتحوا له آفاقاً كانت مسدودة قبلاً.
عام 1896 زار ماتيس الرسام الأسترالي جون بيتر راسل في جزيرة «بيل آيل» فلفت هذا الأخير عنايته إلى المدرسة الانطباعية، كما عرّفه بأعمال صديقه الفنان فان غوغ، الذي لم يكن معروفا آنذاك، فتغيّر أسلوب ماتيس تماما واعترف لاحقا، على دأبه دائما، إذ قال: «راسل معلّمي، وهو الذي شرح لي نظرية اللون». كان ماتيس مولعا بالألون البرّاقة والمعبّرة وعثر عليها في غالبية أعمال فان غوغ فوجدت طريقها إلى أعماله السابقة وقصاصاته الورقية لاحقاً.
لا يقتصر تأثر ماتيس بفان غوغ فحسب، إنما يمتدّ إلى التأثر بالأعمال البدائية في الفن الأفريقي، إذ سافر ماتيس إلى الجزائر عام 1906، ليدرس الفن الأفريقي ويطلع عليه عن كثب. كما تعرّف إلى جانب من الفن الإسلامي، المغربي تحديداً، فتغيرت أعماله الفنية مرة أخرى، إذ استعمل الأسود لوناً فتعززت منذ ذلك الحين شجاعته في استعمال الألوان إلى درجة المغامرة التي لا يقدم عليها إلا المبدعون من طراز رفيع.
تؤكد الناقدة والمؤرخة الفنية جاكي كلين أن هناك ثلاثة أمور يجب أن نعرفها عن ماتيس، كي نتوغل في أعماله الفنية ونحللها بطريقة معقولة، هي أقرب إلى الواقع منها إلى الخيال.
أعمال ماتيس»كولاج» للحياة المتفائلة رغم عسر المرض
تلك الأمور جذوره المهنية، فهو من أسرة تمتهن النسيج، ولا غرابة أن يمتلك خبرة طويلة في هذا الجانب، بحيث بات ينسج لوحاته الفنية نسجاً. كما أن ولعه بقصّ الأقمشة أو الورق يمتدّ إلى طفولته، غير أن التدريب المتواصل جعله يبدو أكثر مهارة من أي خيّاط في استعمال المقصّ. والأمر الثاني يتعلق بأحجية الصورة المقطّعة التي تحتاج إلى من يجمع أجزاءها المبعثرة فتجد طريقها إلى الاكتمال مجدداً. تعتقد الناقدة كلين أن ماتيس هو من اخترع الفن التركيبي «الإنستيلشن»، خاصة حين بدأ العمل على لوحات غطت جداراً كاملاً أو عدة جدران من منزله. الأمر الثالث التي أشرنا إليه سابقاً فهو «الحياة الجديدة» التي شعر بها ماتيس بعد انغماسه فن الكولاج وقصاصاته الورقية التي عوّضته عن أشياء كثيرة جعلته يستغني عن مغادرة المنزل ليتصل بالعالم المحيط به، إذ جلب عبر القصاصات الورقية الحدائق إلى منزله وكان سعيداً وقانعاً بما أنجز.
لا يمكن الوقوف عند 130 عملاً فنياً لماتيس وجدت طريقها إلى «التيت مودرن»، إذ شغلت 14 صالة بأحجام مختلفة، ومواضيع متنوعة شديدة الثراء.