المرسوم 19… هل هو بداية لذهنية جديدة؟
لمياء عاصي
تصريحات متكرّرة لبعض المسؤولين عن المالية العامة للدولة، تؤكد حدوث انخفاض شديد في الإيرادات العامة للدولة كنتيجة مباشرة للأزمة السورية التي دخلت عامها الخامس، وهذا متوقع أن يحدث في أيّ دولة تعاني ويلات الحرب، وخصوصا أنّ ميزانية الدولة كانت تعتمد على الإيرادات من النفط بشكل كبير، والتي انخفضت بعد أن سيطرت المجموعات الإرهابية على المناطق التي تحتوي على حقول النفط من جهة، ومن جهة أخرى حصل انخفاض شديد في الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية منها والخدمية مما أحدث انخفاضاً كبيراً في إيرادات الدولة.
في مثل هذه الظروف، ألا يتوجب على الحكومات أن تبحث عن منافذ وطرق جديدة لتحقيق موارد إضافية للموازنة العامة؟ هل جرّب المعنيون… التفكير بطرق مختلفة من خارج الصندوق ، لإيجاد مصادر أخرى للدخل وتحسين موارد الدولة؟ من حيث المبدأ المفروض أن يتمّ تأمين إيرادات الموازنة العامة للدولة بطرق مختلفة ومتنوّعة، أولها الضرائب والرسوم الجمركية وغيرها، وصولاً إلى العائدات المتحققة من الاستثمارات الحكومية لممتلكاتها، وليس الاعتماد على النفط، لأنه ببساطة ملك البلد لأجيال قادمة وليس ملكنا وحدنا، لذلك يجب استثماره وتنميته وتحويله إلى مصادر دخل مستدامة بدلاً من الاعتماد عليه واستنزافه باعتباره ثروة مجانية.
في إطار تنمية وتطوير واستثمار الملكيات الخاصة بالدولة، لا بدّ من العودة إلى المرسوم الجمهوري رقم 19 لعام 2015، والذي سمح للوحدات الإدارية والتي هي من المكوّنات التنظيمية للإدارة المحلية، أن تشكل شركات قابضة لإدارة ممتلكاتها بالشكل الاقتصادي الأمثل، فهو ليس مجرّد مرسوم رئاسي يُضاف إلى الحزمة التشريعية في البلاد، إنه نقلة حقيقية باتجاه تغيير الذهنيات في العمل الحكومي، ولا سيما المتعلق بإدارة أملاك الدولة، التي بقيت ولفترات طويلة تدار بأساليب إدارية تفتقد للكفاءة ويغلب عليها طابع البيروقراطية والإجراءات النمطية البطيئة، وبالتالي كان مردودها زهيداً، مغموراً بالفساد والمحسوبيات، والدولة دائماً الخاسر الأكبر في هذه العملية.
يمكن تلمّس جوهر الاختلاف بالنسبة إلى المرسوم 19، من خلال التغيير الجذري الذي أحدثه المرسوم في البنية التنظيمية التي تتكئ عليها الوحدات الإدارية في عملية تنمية واستثمار ممتلكاتها لتمكينها من القيام بالدور المناط بها في عملية التنمية الاقتصادية بالإضافة لمهامها الأساسية المتعلقة بالتنظيم وتأمين الخدمات حسب قانون الإدارة المحلية الجديد ، حيث أنّ عمليات التطوير والاستثمار، هي عمليات معقّدة تحتاج إلى بنية تنظيمية محكمة، يتمّ من خلالها مراعاة قواعد أساسية تراعى عادة في إدارة المال العام، فالاستثمار يتطلب كفاءة عالية وسرعة كبيرة في الاستجابة، بالإضافة إلى الالتزام بالقواعد المحاسبية وما يتعلق بالمساءلة والشفافية والحوكمة الرشيدة، وكلّ ذلك سينعكس مباشرة على المردود الذي ستحققه الوحدات الإدارية كمالك للأصول الغير منقولة من أراض وعقارات، والسؤال الهامّ الذي يطرح نفسه، لماذا صدر هذا المرسوم محدداً بالوحدات الإدارية؟ ماذا عن أملاك الدولة الأخرى… وكيف تدار اليوم؟ في استعراض سريع لأهمّ الجهات التي لديها أصول تابتة وموجودات مختلفة، نجد أنّ معظم الجهات الحكومية لديها أملاك، وهذا يذكر بإحدى الوزارات التي امتنعت عن استثمار أرض في وسط العاصمة تصلح لإقامة فندق كبير، لأنّ بعض الموظفين يستخدمون الأرض كموقف لسياراتهم، أرض أخرى يقام عليها فرن صغير تشكل مساحته تقريبا 1/100 من مساحة الأرض الكاملة… والباقي متروك بدون أيّ إشغال… قصص كثيرة تشير إلى مستوى الهدر غيرالمسبوق، وتأتي وزارة المالية في المقدمة، ثم وزارة الزراعة، والصناعة، والإسكان، وغيرها من وزارات الدولة، ولعلّ وزارة الأوقاف لديها من الملكيات العقارية الكثير، لا أحد يعرف كيف تتمّ إدارتها وما هو مردودها الاقتصادي وكيف تصرف مواردها، هنا لا بدّ من التوقف عند المساهمات في القضايا المجتمعية وخصوصاً في حالة الحرب… فهل كانت الأوقاف حاضرة في هذه المساهمات…؟ قد يقول أحد العاملين في الأوقاف إنّ مواردها محدودة ولها جهات صرف شرعية، ربما هذا صحيح، ولكن ماذا عن الشفافية وكشف المعلومات المتعلقة بها؟ ماذا عن محاولة رفع كفاءة الاستثمار لأملاكها؟!
لدى وزارة المالية، ممتلكات مختلفة وكبيرة جداً معظمها عبارة عن عقارات وأراض ومحلات وشركات… فكيف تتمّ إدارتها؟ إنها تدار من قبل مديرية في وزارة المالية سُمّيت بـ«مديرية الأموال المصادرة والمستولى عليها» وجاء في نص إحداثها، «تتولى مديرية إدارة الأموال المصادرة أو المستولى عليها بموجب النصوص التشريعية والأحكام القضائية والقرارات التنفيذية والتفسيرية المتعلقة بها»، وهذا يعني أنها تدار من قبل موظفي الوزارة ومن خلال لجان خاصة لكلّ عقار أو مجموعة عقارات تعود لنفس المالك الأصلي، وهذا يذكر بالكثير من القصص في وزارة المالية عن عقارات وأراض تستثمر منذ عشرات السنوات من قبل أناس تعدّوا عليها ولا أحد يعلم شيئاً عنها، نفس المشكلة موجودة في الكثير من الوزارات والمؤسسات الحكومية، ويمكن تلخيص القصة بأنها أملاك تستثمر بشكل بدائي وبطريقة تفتقر لأبسط مقومات عمليات استثمار المال العام.
من نافل القول، إنّ وجود مؤسسة أو شركة أو أكثر، لإدارة واستثمار أموال وممتلكات الدولة بما فيها الأملاك التي تديرها الوزارات المختلفة، وفق معايير الشفافية والحوكمة الرشيدة التي تساير المعايير العالمية، بات أمراً ضرورياً جداً، الأمر الذي يساعد على تطوير تلك الأملاك ويولد فرص عمل… كما ستحقق إيرادات ودخول ترفد موازنة الدولة من خلال استثمارها بشكل كفوء، باستعراض تجارب الدول الأخرى في عملية إدارة ممتلكات الدولة، نلمح الاتجاهات الأساسية التالية:
ـ الاتجاه الأول: انّ الدولة تقرّر مشاركة المواطنين في بعض أملاكها، فتطرح أسهماً في ملكية بعض الأصول من أراض وعقارات أو مشاريع ليتمّ تملكها من قبل مواطني الدولة، وتقوم لاحقاً بضخّ الأموال التي حصلت عليها لتطوير وتنمية واستثمار هذه الممتلكات، وخير مثال عن هذا الاتجاه، ماليزيا، وسنغافورة ودول أخرى في جنوب شرق آسيا، كما بدأت دول أوروبية أيضاً بالسير في نفس الطريق، حيث تلعب مؤسسة استثمار وتطوير الأصول الوطنية دوراً كبيراً في الاقتصاد الوطني، من خلال تعبئة المدّخرات الصغيرة ووضعها في قنوات استثمارية تعمل لصالح البلد.
ـ الاتجاه الثاني: انّ الملكية تبقى للدولة بالكامل، ولكن طرق الإدارة تكون حسب المنهجيات الحديثة في الإدارة، والتي ستنعكس على تطوير الملكيات الوطنية من جهة ورفد الموازنة العامة بالمردود المجدي لهذه الملكيات.
في كلّ الأحوال، وسواء اتجهت الإدارة الحكومية إلى الاحتفاظ بالملكية العامة كاملة أو تنازلت عن قسم منها للمواطنين… بشكل يضمن بقاء الإدارة بيد الدولة، سيبقى العامل الحاسم في هذا الإطار هو رفع كفاءة استثمار هذه الأصول بشكل كبير.
لا بدّ من الإشارة إلى بعض الثغرات في المرسوم 19 لعام 2015 ، وأهمّها ما يتعلق بتشكيل الهيئة العامة للشركات القابضة حيث يتكوّن من أعضاء الوحدات الإدارية، والكثيرون يعرفون السلطات الكبيرة التي تتمتع بها الهيئة العامة، وكما هو واضح، أنّ التركيبة بهذا الشكل ضعيفة لا تضمن الحوكمة الفعّالة والرشيدة التي تتطلبها إدارة الأموال العامة، من البديهي، أن تكون الهيئة العامة لتلك الشركات القابضة ممثلة للمالك والذي هو الدولة، على أن يتمّ تصميم إدارة الشركة وبنيتها التنظيمية بشكل يضمن الابتعاد عن احتكار السلطة من قبل بعض المتنفّذين في البلديات والوحدات الإارية، فلا يمكن أن يكونوا مثلا… «فيك الخصام وأنت الخصم والحكم»، لا بدّ من مراعاة تقاطع المصالح، لذلك لا بدّ أن يجري بعض التعديلات على حوكمة هذه الشركات بما يضمن استمرارها وحسن أدائها في المستقبل.
أخيراً، يعتبر موضوع إدارة واستثمار وتطوير الملكيات التابعة للدولة، من أهمّ االملفات التي تستحق جهداً كبيراً، والتي يمكن أن تشكل نافذة هامة لرفد الإيرادات العامة وتمكين الدولة من تعزيز الإنفاق العام الذي يعتبر أهمّ محرك لاقتصاد البلد، ولعلّ البدء بالوحدات الإدارية، ما هو إلا كجزء من التحضيرات والترتيبات لانطلاق عمليات إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي المبكر.