دولة غزة: الممكن والمستحيل!

د. ناجي شراب

منذ أن سيطرت حماس على غزة 2007 والتساؤل المطروح بدون إجابة حتى الآن لماذا ذهبت حماس للسيطرة على غزة؟ وما هي أهدافها الاستراتيجية والتكتيكية؟ والتساؤل الأهمّ هل تستطيع أن تنفصل بغزة وتعلن كينونة مستقلة تحت اي مسمّى؟ بداية في أدبيات نشأة الدول لا يشترط مساحة معينة ولا عدد سكان معيّن لقيام الدولة، لكن يشترط حكومة محددة مقبولة ولها شرعيتها الداخلية والإقليمية والدولية. ومعنى ذلك نعم يمكن قيام دولة مستقلة في غزة بكلّ معطياتها الجغرافية والسكانية، لكن تنقصها الحكومة المعترف بها، وهذه المعضلة التي واجهت وتواجه حركة حماس، وهي معضلة الحكم الخارجة عن حدود وأهداف حركة حماس، والمعضلة الرئيسية التي تواجه حماس أنه لا يمكن قيام أي شكل للدولة في غزة والاحتلال قائم، وهو ما يعني الانتظار حتى ينتهي الاحتلال لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، والسؤال هل ننتظر حتى أن ينتهي الاحتلال الإسرائيلي؟ يفترض أن الاحتلال الإسرائيلي قد انتهى من غزة، واستبدل إما بعلاقة الحرب، وإما بإطار هدنة شبه دائم…

الخيار الثاني هو الأقرب إلى أهداف وتصورات الحركة السياسية، فخيار الحرب لا يمكن ان يحقق هدف الاستقلال، وله تداعيات خطيرة على مقومات بقاء حركة حماس في غزة، وهذا قد يتعارض مع الهدف الاستراتيجي للحركة، وهو إقامة كينونة سياسية مستقلة في غزة تمهيداً للدولة الفلسطينية ومنها لمفهوم «الدولة الإسلامية» الكاملة في إطار الهدف العام لحركة «الإخوان المسلمين»، وهو قيام دولة خلافة إسلامية وهذه أهداف استراتيجية بعيدة المدى وأبعد عن الواقع القائم، لذلك لا بدّ من التعامل مع ما هو قائم، إلا أنّ هذا الهدف مرتبط بمدى نجاح الإخوان في إقامة حكمهم في دولة مركزية كمصر، هذا الهدف بدأت ملامحه بحكم «الإخوان» في مصر لمدة عام، ومن ثم تمّ التأجيل، في هذا السياق قد يفهم كيفية التعامل مع غزة، من منظور أنها الكينونة الأقوى للإخوان المتبقية، ومنها يمكن الانطلاق من جديد نحو إحياء هذا الهدف، وهذا هو الهدف من تقوية حماس وبقائها في غزة، والحيلولة دون حرب قد تكون مكلفة سياسياً، فحركة حماس هي الفرع الأقوى لحركة الإخوان، وخصوصاً من المنظور العسكري، فحماس هي الوحيدة التي تملك ذراعاً عسكرياً أقرب إلى تنظيم الجيوش، وهو القادر على الحفاظ على هذه الكينونة الإسلامية، وبالتالي البديل لهذا الخيار، وتحقيقاً لهذا الهدف قد يأتي خيار الهدنة، لكن هذا الخيار يصطدم بالواقع السياسي الفلسطيني العام، وبحالة الانقسام واستمرار الاحتلال.

من هذا المنظور، لا تستطيع حركة حماس أن تذهب بعيداً بغزة، ولا تملك إلا التعامل مع هذا الواقع من خلال التمسك بالوحدة الفلسطينية، وبالتعامل مع الكلّ الفلسطيني، ولكن بما لا يتعارض مع أهداف الحركة الاستراتيجية، وهي الاحتفاظ بغزة ككينونة انطلاق ووثوب لما هو أكبر منها. وحيث أنّ القضية الفلسطينية وخياراتها مرتبطة بالبيئة العربية والإقليمية والدولية، وخصوصاً حالة غزة التي يحكم خياراتها المحدّد الجغرافي وطبيعة العلاقة مع مصر و«إسرائيل» وهما محدّدان رئيسان في تحديد خيارات من يحكم غزة، إلى جانب المحدّد الفلسطيني ذاته.

هنا تقف حماس امام هذا الخيار الثالوثي، وهو على النحو التالي: سيناريو العلاقات العدائية، بمعنى خيار الحرب مع «إسرائيل»، واستمرار الحالة العدائية والمتوترة مع مصر، واستمرار حالة الانقسام الفلسطيني، والتفكير في خيارات الإدارة المستقلة، او الإعلان المستقلّ لغزة تحت اي مسمّى، هذه الاحتمالات الثلاث في هذه العلاقة المركبة تتعارض وأهداف الحركة الاستراتيجية، وقد تفقدها الكثير من عناصر قوتها، لأنه قد تترتب عليها نتائج سلبية على الواقع المعاشي في غزة، مما قد يقود إلى حالة من الانفجار الداخلي في غزة، أخذاً في الاعتبار البيئة الخاصة التي تتميّز بها غزة… أذكر منها الحالة السكانية المزدحمة على مساحة صغيرة قابلة للتقلص بسبب حالة البناء المتزايدة لمواجهة احتياجات السكان، والحالة التجارية التي تعتاش عليها غزة، وتنامي الشريحة الشبابية المعطلة أبواب العمل أمامها.

هذه البيئة لا تساعد على الذهاب للخيارات السابقة، بالتالي البديل لهذا الخيار الثالوثي الإيجابي، وأقصد به الحفاظ على علاقات هادئة بعيدة عن العدائية مع مصر، والحيلولة دون استمرار خيار الحرب مع «إسرائيل» بالتفكير في خيار الهدنة مقابل السماح ببناء كينونة مستقلة مثل الميناء والمطار وفتح المعابر، والتعامل مع السلطة الفلسطينية على أنها حالة ملك للجميع والتعامل مع المصالحة من منظور المصالحة الوظيفية التي تضمن إيجاد حلول للمشاكل الوظيفية والمعابر، وملفات الخدمات التي تشكل عبئاً على الحركة في غزة، مع الاحتفاظ ببنيويتها الأمنية والسياسية والإقتصادية والتعليمية والإعلامية والبحثية، التي نجحت حركة حماس بلا شك في ترسيخها. ومما قد يؤثر على خيارات حماس وقدرتها في قيام دولة مستقلة من عدمه في غزة أنّ حركة حماس لم تعد مجرّد تنظيم أو حركة عادية، بل تحوّلت إلى فاعل من غير ذوات الدول له تأثيره وحضوره العربي والإقليمي والدولي، وهذه الفاعلية للحركة تفرض عليها ضرورة التعامل مع كلّ التحوّلات الإقليمية والدولية، وكلّ المحاور والتحالفات التي تشهدها المنطقة بقدر كبير من الحذر، فهي تحاول انتهاج سياسات متوازنة، لكن يبدو انّ هذه التحولات وبروز مخاطر جديدة وتحالفات متعارضة كالتحالف الشيعي الذي تقوده إيران، والسني الذي تقوده السعودية أن يضع حماس أمام تحديات كبيرة قد لا تفرض عليها الذهاب بعيداً بغزة في اتجاه الانفصال. والبديل لذلك الحفاظ على غزة في إطار الكلّ الفلسطيني مع الاحتفاظ ببنيتها المستقلة انتظاراً لما قد تفرزه التحوّلات والتحالفات والمحاور التي تخطط للمنطقة، وانتظاراً لما قد تحمله الحالة الفلسطينية من مفاجآت سياسية قد تتيح للحركة دوراً أكبر، في هذا التصور يمكن أن يتمّ التعامل مع خيار غزة، وتكييفه مع خيارات الحركة. والموضوع يحتاج إلى مزيد من النقاش.

بروفيسور العلوم السياسية في جامعة الأزهر

drnagish gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى