من يصنع التطرّف الدينيّ في المغرب؟

عبد الفتاح نعوم

في بعض الأحيان يضطر الباحث في العلوم الاجتماعية إلى إخفاء هويته الأكاديمية استدراراً للمعلومات المتعلقة بمجتمع معيّن تمّ تحديده للدراسة، لذلك لا ضير في أن يلاحظ الباحث بانتظام عيّنة الدراسة من دون أن يعلم الأشخاص المنتمون إليها ذلك، وقد تجري خلال تلك الملاحظة مقابلات عفوية لا يدرك المعنيون بها الأسباب الحقيقة التي تدفع الباحث إليها، بل إنّ ظروفها قد تكون متروكة أحياناً مصادفة، والسبب أنّ الناس يخفون بعض المعلومات إذا علموا أنهم موضوع دراسة معينة، أو قد يتصنّعون ردود أفعالهم إذا علموا.

هذه اللمحة ضرورية لفهم طبيعة النتائج الأولية التي استقيتها من خلال ملاحظاتي ومقابلاتي «العفوية» مع عدد من المنتمين السابقين إلى حركات دينية متشددة، خاصة أولئك الذين تعرّضوا لعمليات ضبط قضائي وتحقيقات أمنية مشدّدة بعد حوادث 16 أيار، ومعظمهم كنت أقابلهم إما بالمصادفة أو عن سابق معرفة بهم، وتحديداً ممن كانوا هدفاً لتلك الحملات من دون أن تكون لهم أي ارتباطات فكرية أو تنظيمية مع أي حركة، والذين أطلق سراحهم بعد انتهاء مسطرة التحقيق.

كان بنيامين فرانلكين يقول: «من يقايض الحرية بالأمن لا يستحق أياً منهما». لكن ليس منطقياً التناول الأخلاقي والعاطفي لمثل هذه المواضيع، فالجهاز الأمني في الدول حينما يُستنفر للردّ على خلل في الأمن يقوم بإجراءات كثيرة من شأنها المسّ على نحو أساسي بالحرية، ولعلّ نماذج تعاطي أعتى الدول الديمقراطية في العالم مع الاهتزازات الأمنية توضح أنه حينما يُستنفر العقل الأمني في الدولة يتمّ المسّ بالحرية بشكل جوهري مثلما حدث في الولايات المتحدة عشية حوادث 11 سبتمبر.

لذلك كان منطقياً أن تتعامل الأجهزة الأمنية المغربية بأسلوب غاية في الفظاظة مع من تتوافر معلومات حول نشاطاته تقتضي التحقيق معه، فكان الهدف مزدوجاً، الضرب على أيدي من اعتقدوا أن الدولة أمر نافل وأن يدها مرتعشة أو واهنة، وخلق حالة في المجتمع تكبح أي جنوح ممكن في المجتمع يقلل من هيبة الدولة، كما يحدث هذه الأيام من خلال الاستنفار الأمني ضد الانفلات الناجم عن طيش المراهقين أو الإجرام اللامبالي بالعقوبة. ولعلّ علم الاجتماع الجنائي مختص إلى حد بعيد بدراسة هذه المواضيع سيما في ما يتعلق بالربط بين الجريمة والمجتمع وجهاز الدولة الوصي على تصنيع القوانين وتنزيلها فيأتي الردع العام كهدف أعلى للردع الخاص وكضرورة لحفظ التوازنات داخل المجتمع وكبح بؤر الصراعات التي تهدد مصالح من يمسك جهاز الدولة. دول العالم المعاصر كلها تتعامل بالمنطق نفسه.

لكن المشكلة تكمن في كون الدولة المغربية تتعامل بمنطق علاجي في القضايا الحساسة التي تحتاج تدخلاً أمنياً، وليس ثمّة ما يؤشر على أن هناك إرادة سياسية للتدخل الوقائي. فالعيّنة التي حاورتها جعلني استشف أن هناك حقداً دفيناً لدى هؤلاء وغيرهم على السلطة التي تحرمهم من حقهم في الالتزام بالدين وتكرههم على أن يعودوا إلى حياة البدع والتشبه بالغرب بعدما هداهم الله إلى سبيل الرشاد! معظمهم يعتقدون ذلك جازمين، لذا لم أعد أستغرب حينما أجد أحدهم تخلى عن لباسه وذقنه الطويلة لكنه لا يزال يحتفظ بمشاعر الإجلال والحب «للمجاهدين» وبكره أعمى للشيعة وللعلمانيين، وهي مشاعر يخفيها و يعلنها أغلبهم بحسب الضرورة أو يلطف صياغاتها على نحو يسمح له – بعد مروره من ماكينة الدولة الأمنية- بالاندماج في المجتمع، وتلقى آراؤه قدراً من القبول في المجتمع لأن المبرر موجود سلفاً وهو الفقر بجميع تمظهراته والفساد بمختلف أنواعه ومستوياته.

الجهاز الذكي في الدولة يعرف ذلك جيداً وليس من مهماته أن يغير أفكار الآخرين، لكن الاستراتيجية الموضوعة سلفاً لمواجهة مثل هذه الأفكار وأنماط السلوك التي تنجم عنها هي إستراتيجية غير سليمة، إلا إذا كانت مقصودة ! فالمعروف أن «عملية الضبط الخشن والميكانيكي» للأشخاص من خلال إعمال آليات القسر والعنف التي تحتكر الدولة استخدامها قد تأتي بالنتائج المرجوّة منها، لكن ليس في جميع الأحوال. مثلاً قد تنجح الأجهزة المختصة في «تتويب» هذا المتشدّد أو ذاك وجعله يصرّح بكلام مرغوب، لكن لا ينبغي نسيان الكم الهائل من الحقد الذي أصبح يملكه هذا الشخص حيال الدولة التي أجبرته بمختلف الوسائل على الإفصاح عن خطاب يشعر بأنه غريب عنه بكامل تمفصلاته ومستوياته، وهذا ما يؤكد له آراءه السابقة في هذه الدولة، كما يصبح كارها للمجتمع الذي يتواطأ معها.

بطبيعة الحال، تقوم أجهزة الدولة بالتحقيق بالدرجة الأولى في مسألة تورّط الأشخاص في أعمال عنف أو عدم تورّطهم، وتتعامل مع دوافع هذه الأشخاص بمنطق الحصول على المعلومات. لكن عمليات الضبط الخشنة تلك تشبه إلى حد كبير مثيلتها التي يتعرض لها الجنود في الجيوش المهنية، غير أن تأثيرها ينتهي مع أول اشتباك، وبالتالي عندما يحصل أي اهتزاز للأمن تجد جميع هؤلاء الذي لم يتعرضوا لاستراتيجية شاملة لتغيير رؤاهم وتصوراتهم خلايا نائمة ينضم إليها الذين تعلموا فنون استخدام السلاح في مختلف بؤر التوتر ولم يجدوا لدى عودتهم إلاّ سنوات في السجن زادتهم حقداً على الدولة والمجتمع وقابلية للانتقام. الجهات الأمنية في المغرب تتبنى ما يعرف في الدراسات الأمنية بـ»سياسة صفر تسامح»، وبدا ذلك واضحا بعد حوادث 16 أيار، ونراه اليوم في التصرّف الصارم مع العائدين من جبهات القتال بعدما تغيرت الاستراتيجية الدولية إزاء ما يجري في سورية تبعاً للخلل الذي أحدثته الاستراتيجية العسكرية السورية في موازين القوى على الأرض بين الجسم المسلح والجيش العربي السوري، لكن التحقيقات المكثفة والسجن لا تكفي إذا كان الهدف وضع تصوّر للأمن القومي المغربي يحميه من هذا الخطر المحتمل الذي تجعله كذلك مختلف المتغيرات المحيطة، فتنظيم «القاعدة» يتوسع في صيغة الجهاد المحلي، والاتجاهات الأكثر تطرفاً تتقوى خاصة بعد «البيعة الخراسانية».

لحماية النسيج الدولتي والاجتماعي المغربي من هذا الخطر ينبغي بشكل أساسي تخديم ترسانة العلماء وفقهاء القرويين، إنما ليس على النحو المعتمد منذ مدة، فالتسطيح والميكانيكية هما ميسمه، والهشاشة هي الوضع الذي يعانيه المحسوب عليه والقادر على التغلغل في أدق البنيات المجتمعية، وهو بذلك لا يستطيع مواجهة خطاب مختلف الحركات الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، وبات واضحاً أنها رغم الاختلافات بينها تراكم لبعضها، فهي تعتمد دغدغة المشاعر والوجدان والخيال، وتغذي مشروعها ذلك بحنق الناس وحقدهم على السلطة التي تتيح ذلك بالفعل من خلال الواقع غير النزيه الذي تتعيش عليه أدواتها، فالأفراد في هذا المشروع تُعلّب أدمغتهم بخطاب ذي صلاحية معينة ويحوّلون إلى حشود يجمع بينها رفضها الواقع وحلمها بالمستقبل وإيمانها بصدقية أدواتها.

لا أعتقد أن الدولة غير قادرة إذا أرادت على صناعة خطاب منبثق من الرؤية المقاصدية للإسلام والمتناغمة مع العقيدة الأشعرية والفقه المالكي وطريقة الجنيد في التصوف، ووضعها في وجه الخطاب الذي يرى كل ذلك بدعاً منكرة وفساداً في العقيدة ويجمع إليه تكفير ما تبقى من ملل في الفكر والسياسة مثلما طلع علينا حديثاً المدعو «أبو النعيم». بطبيعة الحال، خطة من هذا النوع قد تأتي بنتائج عكسية إذا لم تكن مدروسة بما يكفي، فإذا أسيء استخدامها قد لا تعود سوى بتبريز الخطاب الآخر وتظهيره.

يتفهم المرء أن صناعة هذا الفكر والسماح به كان جزءاً من استراتيجية دولية في فترة الثمانينات، وأن الحاجة إليه قد تبزغ بين الفينة والأخرى مثلما حصل في الفترة الأخيرة، لكن ينبغي أيضاً فهم اللحظة فالعالم يتجه صوب تسويات جزء منها وثمرتها دحر هذا الفكر الذي ستصبح الخسائر الناجمة عنه أكبر من الأرباح، فهل يمكن للمغرب أن يتعامل مع اللحظة ولو بعقل برغماتي دولتي ويتجه إلى حماية بنية الحكم على الأقل؟ إذا فعل ذلك ستأتي مصلحة المجتمع وثقافته في الطريق، ليس مهماً الدافع إلى إحقاق تلك المصلحة. المهم أن تتحقق وأن يأمن المغربي على نفسه فوراً، فهو على الأقلّ من يدفع تكلفة جهاز الدولة من عرقه ومن ثروات أرضه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى