فصول من رواية

تواظب «البناء» أسبوعياً، بدءاً من اليوم، على إدراج زاوية روائية، على أن تُنشَر فيها فصول من روايات جديدة، وأخرى بأقلام شابة، ويمكن أن تضمّ أيضاً قصصاً قصيرة. وذلك في سبيل إشباع ذوق القرّاء الذين يستهوون الأدب بكلّ فروعه، من الشعر بأشكاله كافة، إلى القصّة والحكاية، فالرواية.

«عشق تحت الرصاص»

جيهان عصمت علي جان

أكتبكَ، عند الساعة الثانية والربع بعد منتصف الليل.

غابت عن ليالي مدينتنا ملامح السكون والهدوء، «السكينة عذرية الليل»، كم سنة والليل يغتصب سكونه. كم ليلٍ هتك أزيز الطائرات ودوي القصف عرضه. كم ليلٍ اشتاقت أزقته للسكارى وبائعات الهوى. كم ليل تمنّى أن يسبَّح الله من عيون السهارى والعشّاق.

مدينتنا ممزّقة برصاصات أبنائها وشظايا حقدهم. مدينتنا قضي عليها بطاعون الطائفيّة. مدينتنا ليست مدينتنا!

«حين يكون الكلام رصاصاً والحرّية قنبلةً… يغدو الحوار مع الآخر انتحاراً محتوماً».

تلك هي مدينتنا.

ما أن تطأ قدما إرهابيّ أجنبيّ ترابها، حتى تسمع دويّ عويل هائل يتردّد صداه من سويداء قلبها الضارب جذوره في باطن باطن التاريخ والزمن، وحتى أرجاء الفضاء والكون… عويل لا يمكن أن يسمعه إلا الأصمّ.

تلك هي مدينتنا.

كم هي بحاجة إلى قدمَي شمس التبريزي! كم مدينتنا بحاجة إلى قواعد شمس الأربعين للعشق! شمس، أين أنت يا شمس؟! شمس، أين أنت يا شمس؟!

ستسأل عنه؟ من هو؟

شمس التبريزي… هو شمس الذي ببحث عن الله خارج المساجد…

هو شمس الذي وحّد الله عندما فرقه أتباع موسى وعيسى ومحمد.

شمس، أين أنت يا شمس؟!

أتعلم!

لولاك يا سيدي لما تعرّفت إلى شمس الذي بهرني بقدر ما «هبلتني» أنت. أشعر كأنما صرت «مهبولةً» فيك ومبهورة فيه.

«مهبولتك»! ومبهورته!

تياراتك تأخذني منه وتياراته تغرقني فيه.

في ذلك اليوم الذي رميتني فيه بكلمات كانت كسكاكين قطعت شريان الاتصال بين جسدي وروحه. مشيت في شوارع مدينتنا الثكلى. مخمورة وما أنا كما تعلم بشاربة خمر. أتخبط كقشة يابسة في زوبعة الجمل المهينة التي قذفتني بها. استطعت في خضمّ الزوبعة أن أرفع يدي عالياً في السماء وأسجّل على هامشها. إهانة جديدة. ثم دوّنت التاريخ وسلّمت نفسي للزوبعة أن تلقي بي على أيّ رصيف شاءت. فكان رصيف شارع الروضة، جلست على حافته لألملم نفسي وأخرج الحصى التي تجمّعت على مجرى الدمع في عيني. كل دمعة في عيني بسببك هي حجرة سأقذفك بها. أكرهك بقدر حبّي لك. أؤمن بك أيها النبي بقدر كفري بك. ليتني أتوب منك… لأعتنقك من جديد.

ـ تعالي… خذيني… أنا لك.. أرجوك لا تتركيني… لا تدعي غيرك يأخذني!

مسحتُ دموعي، التفتّ يميناً ويساراً، من أين هذا الصوت؟

ـ أنا هنا… وراء زجاج المكتبة.

ما إن التفتّ، حتى وقعت عيناي على رواية «A k n 40 kural » لإليف شفاق ـ «قواعد العشق الأربعون» عن جلال الدين الرومي.

شيءٌ يشبه كما لو أنك مددت يدك إليّ ورفعتني لتأخذني بين أحضانك. ما إن اشتريت الرواية حتى أحسست أن شيئاً منك صار ملكي… ملكي أنا وحدي… شيء خاصّ لا أحد سيشاركني فيه.

كلّما قرأت في الكتاب أكثر، تشبثّ حبك في قلبي أكثر.

«قبلني يا حبيبي، انزعني من نفسي حتى الصميم… قشّرني عن ذاتي… فإن حبك يقضمني من الجذور حتى الأطراف».

هناكَ قُبَلٌ تموتُ حينها… وقُبَلٌ نموتُ حينها…

تلك هي القبلة التي منحتني إياها الآلهة الغيورة على جمالك بغاية تعذيبي ورجمي وسلخي… لا بل ذبحي بكل ساطور وجد على سطح الأرض.

كتبت هذه الكلمات على صفحة بيضاء في رواية «قواعد العشق الأربعون» ثم سلّمت نفسي للأحلام.

رأيت شيئاً جميلاً… للمرة الثانية… بكيت من فرط جماله… بكيت وبكيت وبكيت في ليل تمزّق سكونه القذائف والطائرات… في ليل كنت فيه أنت قرب زوجتك، أما أنا فأحتضن حبّاً ظالماً يمزّقني كلما احتضنته في قلبي. حبك أشبه بقذيفة «هاون» ستمزق جسدي إلى أشلاء… ستتطاير منها جمل وعبارات… الذين مثلي حين يبكون، يبكون حروفاً. حين ينزفون، ينزفون كلمات. الذين مثلي إذا ما ماتوا بقذيفة، سيتبعثرون قصائد وروايات.

من شدة غبائي، في اليوم التالي رويت لك الحلم.

كم سهماً صوّبت نحو قلبي؟ كم جَلدة حكمت كلماتك على ذاتي بعدما اعتبرت أن وضع رأسي على كتفك الأيسر في الحلم «قلّة أدب»! في حين أنني أحسست بطهارته ورقيّه عن عالم البشر.

كنت كتمثال داود لمايكل آنجلو، وكنت أنا كمشردة اتكأت عليك لتحتمي في ظلك. كنت غاية في الجمال كوسام شرف على صدر «آريس» إله الحرب… وكنت أنا كبائعة الكبريت.

سخرت منّي عندما أخبرتك، أنني أشعر بأنني أطهر أنثى على وجه الأرض… نعم أنا القدّيسة والعاهرة… كما يقول «باولو كويلو».

اعتبرني ما تشاء… أنثى لا تستطيع التنفس إلا بتعذيب نفسها، صلاتها آهات، فتصلّي تارةً بإبرة خياطة تغرزها في قلبها، وطوراً بسكين يرسم بها تضاريس جسدها، وبأعواد الكبريت تطفئها على شفتيها. لأننا كلما تألمنا أكثر… ازددنا قرباً من الله.

اعتبرني ما تشاء، أنثى منتهية الصلاحية، جسداً أنثوياً منحوتاً من الشمع. لا رجولة على سطح الأرض قادرة على نفخ الروح فيها.

اعتبرني ما تشاء.. وكفاك إهانة لأنوثتي.. أنا أحبك لوجه الحب.. نعم، كأنني العنصر الخامس… الفراغ… الخواء… اللاشيء.

فقدت إحساسي بالأشياء حولي، فقدت إحساسي بذاتي.

نعم، كأنني أصبت بداء «آلكسي ثابميا»، إذ يكون المريض عاجزاً عن إبداء أيّ نوع من المشاعر. حقاً لا أستطيع أن أجزم إن كنت مصابة أو أتخيل! لمَ لا؟

هل أنا موجودة؟ هل أنا أشغل حيّزاً من الفراغ؟ أم أنا الفراغ بعينه؟ كلما وقعت في هذه المصيدة تقفز رواية «جورج أورويل 1984» إلى الذاكرة وتفتح صفحاتها على النص التالي:

«أعتقد أنني موجود. أنني أعي ذاتي، لقد ولدت وسأموت، ولي ذراعان وساقان وأشغل حيّزاً في الفضاء، ولا يستطيع جسم آخر أن يشغل الحيّز نفسه في الوقت نفسه».

وأنا واقفة أمامك تذكرت موقفاً مهيناً لمبادئي. حولتني إلى كتلة من لحم عفنة. وذلك عندما كنت مستلقية على طاولة العمل من شدة الإرهاق والمرض. لا أشعر بالعالم القذر من حولي. فاقترب أحد الزملاء المذيعين وأيقظني بصوته الخشن قائلاً بغرض إلحاق تهمة ساخرة وحقيرة بي:

طبعاً من يسهر طوال الليل على مواقع التواصل الاجتماعي يتواصل مع الشباب، سينام على طاولة العمل.

إلى كم قطعة مُزقت لا أحد يعلم! تهمة ساخرة رأيتها إهانة حُفرت في باطن قدمي. ما إن أدوس خطوة حتى أشعر بصعقة ألم تنفجر حتى قمة رأسي.

يمضي كلّ شيء على عجل، فيختفي الأشخاص والأشياء في زوبعة الأزمة. في حين أن كل واحد منّا بحدّ ذاته زوبعة، تيار صغير ينجرف إلى التيار الأعظم. التيار الذي هو الله في معتقداتهم. وهو الفراغ، اللاشيء في معتقدي!

كل شيء يختفي إلا أنت وحبك. كلما هدأ حبّك فيَّ، ألهبتهُ وعنّفتهُ، حتى ليأبى أن يسكن تجاوزاً للعقاب.

صار حبّك لعنةً أصابتني في كل أرواحي. بقاؤهُ جنة ممنوعة وغيابهُ جحيم محتوم.

أنت يا سيدي.

أتيتَ كما الماء المالحة للظمآن، كما اللحن الجميل في أذن صماء.

أقسمَ قبلي شعراء كثيرون. واليوم ميعاد قَسَمي.

أقسمُ ألا رجلاً أتقن إغوائي كما أتقنت. أقسمُ ألا رجلاً جرّدني من مبادئي كما فعلت!

قالت لي الأخرى: إنه رجلُ الكلمات. رجل كل النساء.

قلتُ: أعلم.

قالت: أنتِ كالمحكوم بالإعدام. على المقصلة تجلب له أصناف من الطعام.

فما حاجة المحكوم إلى الطعام، إن كان خبزاً عفناً أو كان نبيذاً معتّقاً.

قلتُ: يكفي شرف الموت شبعاً!

يتبع…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى