«البكاؤون على جداريات المدن العربية»

شبلي بدر

كثر البكَّاؤون على جداريات المدن العربية، ولدمشق حيّز كبير عندهم من «دموع التماسيح»، إذ يتذكرون المقاهي والشوارع ومعارض الكتب وخطابات التبجيل وطواويس المنابر، ينعون «المبادرات العربية» ويستبعدون «فصول الحسم» وينكرون على «الأسد ومن معه» القدرة على ذلك، ولا ينسون أن يطلقوا صفة «المعارضة المعتدلة» على مجموعات امتهنت القتل وتماهت مع الخيانة والرشى ودسّ الدسائس، على بلاد قدّستها الأديان السماوية وحماها الله منذ القدم، وأبقاها مبعثاً للنور والهداية ولم «يذوبوا في المنافي» كما يدَّعون أو كادوا يتمنّون ذلك.

يشتاقون إليها بحسب تعبيرهم، و»يسبلون أعينهم للبكاء ولا يجدون الدموع في مآقيهم»، ويتخيّلون «أنّ السماء انكسرت كالزجاج»، ويتساءلون: «لماذا هذا الوجع ومسيرة الجنازات غير المكتملة»؟!

سيطر اليأس على أولئك المتخاذلين أمام الصعاب، وأصبحت رؤاهم شتاتاً من المفاهيم المغلوطة وباتوا كالمتأرجحين على حبال الهواء إذ شككوا في محور المقاومة، ينتظرون رياح الخلاص من الدول الداعمة للإرهاب والتكفير، أو من مواكب العير التي تتخبّط في المتاهات الصحراوية، ولطالما كانوا أول الهاربين إلى الشواطئ الأوروبية عند أول انتكاسة أمنية في ما يُسمى بالحرب اللبنانية، التي لا تشابه نقطة صغيرة في بحر القتال الدائر في بلاد الشام، من حيث الضراوة والرعب والتدمير، ناهيك عن الذبح والنحر اللذين تمارسهما جحافل التتار والظلاميين المدفوعين بغرائز حيوانية، لم يعرف التاريخ القديم والحديث أبشع منها.

تظهر المعارك الدائرة كلّ يوم بين محور المقاومة وأهل التكفير والإجرام ومن وراءهم، أنّ منطق الانهزام يتحكم بمدَّعي الحرص والغيرة على دمشق، على رغم بكائياتهم على جداريتها، المملوءة سماً ممزوجاً بدسم التعابير المزيفة عن «بردى وقصائد الماء» واستذكار ما قاله سعيد عقل عن «الترابات من الطيب والطرب»، ويغمزون من خلال تعابيرهم البليدة ويتساءلون: «ألم تبق لهذه البلاد سوى عكازات النهايات»؟ عبارات تضجّ بالشعارات الزائفة وأكاذيب المنهزمين في ساحات الصراع نصاً وروحاً ويصوّرون أنّ الناس «أغلقوا أبواب التاريخ» و «صاروا أرقاماً تجوز عليهم الرحمة»! يأتي كلّ ذلك الهذر في سياق التساؤل المسموم، وتحت مسمّيات تدَّعي الغيرة والحسرة «على عز مضى» وأيام كانت مليئة بالمسرات والليالي الملاح.

أبداً أيها «الكتبة والفريسيون»، دمشق وبلاد الشام كلها ليست كما تدّعون أو تصوّرون، ولو كان الكلام المنمّق الذي يخفي في طياته نبالاً سامة تصوّبونها على نظامها وشعبها ومقاومتها من خلال التباكي على الأيام الخوالي، حتى وإن استيقظتم من صحوكم وتساءلتم أو تسللت إلى ذاكرتكم صورة أو استبدلتم «لغة الشعر والحياة وروائح المارة» بـ»الصليب الأحمر» أو «جمعيات الإغاثة» فربيعكم لم يكن «مرهفاً» ولم يكن «رحباً خفيف الوطْء»، ليستقبل بترحاب، ولم تكن البنادق التي تصدّت له إلا بنادق الثوار الأحرار ودماء المقاومين الذين يدافعون عن الحرية الحقيقية، لا عن التسلط والاستعباد وشراء الذمم والسكوت عن دولة اغتصبت الأرض وما زالت وراء كلّ النتوءات البشعة التي توالت بعدها وحاولت تهويد أقدس المدن ومهبط الديانات السماوية كلها.

ستبقى دمشق الشام أبداً مروحة نزار قباني وكنز أحلام الكثيرين، مقاومة لكلّ الغزاة والبرابرة، دمشق جول جمال وفارس الخوري ويوسف العظمة أرض الكرامة والعزة والإباء وسيندحر عنها تتار الزمن الحديث، مهما تكاثرت البكائيات على جداريتها، ولن يغلق باب التاريخ فيها، بل ستكتبه من جديد على واقع انتصار الحق وهزيمة الباطل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى