السياسة التربوية وبناء المواطن / 2

د. نسيب أبو ضرغم

السياسية التربوية وبناء المواطن، عنوان يستبطن إشكالية، هي واحدة من عدة إشكاليات تعيق تحوّل لبنان السلطة ولبنان الطوائف الى لبنان الدولة الحديثة ولبنان الشعب بالمعنى التاريخي والحضاري.

أين هي الاشكالية المشار اليها؟ هل هي في إمكانية خلق مواطن في لبنان! وهل من الممكن وضع سياسة تربوية لبنانية تستهدف خلق مثل هذا المواطن؟ وإذا ما وضعت مثل هذه السياسة، هل يمكن ان تطبق؟

اننا سوف نتبع المنهجية التالية، في بحث الإشكالية المطروحة.

أولاً: المواطنية… محتواها وصفاتها؟

ثانياً: المعوقات التي تحول دون قيام المواطنية في لبنان؟

ثالثاً: نتائج غياب المواطنية على مستوى وعي الفرد في لبنان كما على مستوى وعي الجماعة الطائفية ـ المذهبية ـ العشائرية…

رابعاً: انعكاس ذلك على السياسة التربوية.

خامساً: استخلاص الرؤية.

ثالثاً: المعوق المؤسساتي

من المنطقي جداً، أن لا ينتج النظام الطائفي المذهبي مؤسسات وطنية جامعة تتعلق بالتنشئة والتربية الوطنية، فالمؤسسات هي جزء من البنية الفوقية التي تتناغم وتتكامل مع الواقع السوسيولوجي الذي نوهنا إليه. ولذلك أتت من ذات الاتجاه، وتحمل ذات السمات وتلعب ذات الأدوار التي تهدف بالنتيجة إلى تكريس الثقافة الطائفية ـ المذهبية وخلق الفرد الطائفي ـ المذهبي فكراً وسلوكاً واستهدافاً.

لقد أنتج هذا النظام مؤسساته التربوية، فكانت المدارس الخاصة ذات المناهج المتصلة والمتجذرة بثقافة الطائفة أو المذهب. وكذلك الجامعات الخاصة التي تبنّت المناهج الأجنبية، وبالتالي الثقافة الأجنبية، إضافة إلى مؤسسة العائلة والمؤسسات الدينية، وكلها كانت تنتج نماذج من الأفراد مختلفين بنسبة اختلاف الثقافات الطائفية والمذهبية التي كانت وراء هذه المؤسسات. إن الناظر إلى خريطة المؤسسات التربوية في لبنان، يرى بوضوح ضعف المؤسسات الرسمية، من جامعية وثانوية ومتوسطة وابتدائية، مقابل تفوّق الجامعات والثانويات والمتوسطات الخاصة، وأحياناً كثيرة، بفعل رعاية الدولة.

هذه التشكيلات التربوية المتنافرة والمختلفة في المنهج والمادة التعليمية والاستهداف، شكلت عاملاً قاتلاً للمواطنة بإنتاجها أفراداً ذوي انتماءات مذهبية ـ طائفية، باتت لهم نظرة مجزوءة للتاريخ، ومحدودة الأفق، تاريخهم تاريخ طوائفهم، ومصالحهم مصالح طوائفهم وافقهم أفق طوائفهم، غاب الوطن، وغاب التاريخ الوطني عن فهمهم، وانقلبوا من مواطنين إلى رعايا طوائف.

من هنا يتأكد لنا، أن القصور في فعالية المؤسسات الوطنية التربوية الجامعة، كالجامعة اللبنانية والمجلس الوطني للبحوث والإنماء، هذا القصور أمام طغيان المؤسسات التربوية الخاصة، كان عاملاً حاسماً في فشل وجود المواطنة، لحساب الرعوية في الانتماء الطائفي ـ المذهبي.

رابعاً: المعوق السياسي

يأتي المعوق السياسي كنتيجة حتمية، وهو يرتكز إلى المعوقات الثلاثة التي أشرنا إليها أعلاه، فعندما يكون الواقع السوسيولوجي للمجتمع اللبناني، واقعاً مشوهاً بالتكوين الطوائفي ـ المذهبي، والذي يشكل البنية التحتية للنظام والمجتمع اللبنانيين، البنية التي تضخ النسغ الطائفي المذهبي في عروق الميثاق والدستور والقانون والمؤسسات، فتشوهها جميعاً. عندما يكون الأمر على هذا النحو، فسوف ينتج كل ذلك سياسة مشوهة، تتناغم وتنسجم مع تلك البنية التحتية، ومع ترجمتها في الدستور والقوانين والأعراف والمؤسسات. فليست السياسة والمؤسسات السياسية حالة مختلفة عن باقي جوانب الدولة والمجتمع في لبنان بل بالعكس، فالسياسة تلعب دوراً تفصيلياً في تكريس الواقع الطائفي، هي ليست منتوجاً طائفياً، نتيجته البنية الطائفية فحسب، بل هي استطراداً، قوة توجيه وترسيم وتخطيط ودفع وتبرير للواقع الطائفي ـ المذهبي في لبنان.

من المؤكد أن السياسة المجسدة بالدولة ومؤسساتها، تشكل ذروة البنية الفوقية سياسياً، إلا أن هذه السياسة تعود لتلعب الدور القيادي في إعادة إنتاج شروط الواقع الطائفي ـ المذهبي لتأمين استمراره.

وخطورة الأمر، في أن الحراك السياسي خططاً وأداء وغايات، هو ذو طبيعة يومية تفصيلية، تتداخل في حياة الفرد، لذلك، هي أكثر المعوقات تأثيراً وضغطاً عليه، وبالتالي، هي الاكثر دفعاً باتجاه إسقاط مفهوم المواطنة عنده. لأن هذه السياسية، يكون موضوعها الطائفة والمذهب، وتستهدف جعل الطائفة أو المذهب معبراً إلزامياً باتجاه حقوق الأفراد في الدولة، وبالتالي إعطائهم مضامين طائفية ومذهبية جمعية، في الخيارات، والرؤية، والوعي. وهذا هو إسقاط المواطنة بعينه.

خامساً: تعذّر وجود سلطة سياسية لها مصلحة في الخروج من هذا المأزق الطائفي ـ المذهبي العائلي…

هذا المعوق المتمثل بتعذر وجود سلطة سياسية تسعى للخروج من المأزق الطائفي ـ المذهبي، هو نتيجة استطرادية للمعوق السياسي العام، الذي جرى بحثه أعلاه، وبالتالي فإن الثقافة الطائفية في لبنان، تدور في حلقة مفرغة، على أربعة قواعد، هي أولاً، المعطى السوسيولوجي، وثانياً المعطى الميثاقي ـ الدستوري ـ القانوني، وثالثاً المعطى المؤسساتي، ورابعاً المعطى السياسي. وتلعب السلطة السياسية دور المنشط animateur في تفعيل عملية التأثر والتأثير القائمة بين المعطيات الأربعة.

ومن حيث أن السلطة السياسية هي منتوجة بشروط ومحتوى وظروف المؤسسات والمنظومة الميثاقية ـ الدستورية ـ القانونية ـ العرفية، والتركيب السوسيولوجي كبنية تحتية، فهي بلا شك لن تخرج عن دور المنشط لكل هذه البنى structures، بل أكثر من ذلك، فهي تلعب دور الضامن لاستمرار هذه البنى، وفق محتواها ودورها. ومن هنا فإن الحلقة المقفلة التي تنمو خلالها الثقافة الطائفية، لن تنتج سلطة سياسية تقوم على كسرها لأنه ليس منطقياً أن توجد سلطة سياسة تلغي شروط وجودها. فالقضاء الطائفي قضاؤها، والثقافة الطائفية ثقافتها وسلاحها، والبنى المختلفة في الهيكلية الطائفية مبرر وجودها. وكل ذلك على حساب المواطنة، كانتماء فردي وشمولي ومباشر ومنفعل في السياق التاريخي العام.

ثالثاً: نتائج غياب المواطنة على مستوى الفرد ووعي الجماعة في لبنان:

تندرج النتائج المترتبة على غياب المواطنة تحت أربعة أشكال:

1 ـ تزييف الوعي

في غياب المواطنة، وحلول الانتماء المذهبي ـ الطائفي ـ العشائري، يترتب نمو ثقافة تتناغم مع هذا الانتماء، وتؤسس لحياة تستمد شروطها ومضمونها منه. ذلك أن الانتماء المشار إليه، يولد اعتقادات كسيحة ومشوهة للفكر، ولقد أشار أنطون سعاده إلى ذلك في محاضرته في مؤتمر المدرسين القوميين الاجتماعيين حين قال:

«الاعتقادات الكسيحة المشوهة للفكر، التي تُغرس في الناشئة بعناية فائقة، في مؤسسات تربوية وتدريسية، أنشئت لأغراض معاكسة للواعي القومي…» سعاده ـ الآثار الكاملة ـ عدد 15 ص 169 ـ 1948.

فالوعي الطائفي زيفه في أنه:

أ ـ محدود بحدود الطائفة أو المذهب، فهو قاصر عن أن يكون وعياً وطنياً.

ب ـ مضمونه في قضايا الطائفة أو المذهب أو العشيرة، وهو بالتالي قاصر عن الأخذ بمفهوم وقضايا المجتمع ككل.

ج ـ قضيته انتصار مصالح الطائفة والمذهب على حساب الطوائف والمذاهب الأخرى، فالآخر بالنسبة إليه غريم وخصم ومشكوك فيه.

د ـ الوعي الطائفي حاجز سميك غير قابل للاختراق باتجاه ما هو أبعد من الطائفة والمذهب لجهة الأخطار المحدقة وجودياً، سواء في الطائفة هذه، أو في بقية الطوائف.

هـ ـ وعي ينتج ثقافة كسيحة تحاكيه في محدوديته ومضمونه النزوي.

و ـ يشكل صراعاً معاكساً ومعادياً للنهوض، ولكل تكوين فكري ونفسي وفلسفي جديد، لحساب حدوده المغلقة والضيقة، ولقد قال سعاده أيضاً في هذا الإطار:

«قضية التربية والتثقيف، قضية الصراع المميت، بين تاريخ حديث وتواريخ دخيلة مستمرة، قضية الصراع الفاصل بين نفسيتين، فتية تنظر إلى الحياة والكون والفن نظرة جديدة، ونفسيات شائخة، اعتادت النظر إلى شؤون الحياة والكون ضمن الحدود المغلقة التي تكونت فيها». سعاده ـ الآثار الكاملة ـ 1948 ـ عدد 15 ص 196.

إن الوعي من الوجهة المبدئية، بحدوده وبمضمونه وبنتيجته، يحدد موقع الفرد في هذا الوجود، وبالتالي دوره ومضمونه، إذ أنه بحدود وعيه يرى، وبمضمون هذا الوعي يفهم، وبنتيجته يقرر.

فالوعي الطائفي وعي منقوص، لذلك تتولد عنه رؤية منقوصة، ليست خارج إطار الطائفة أو المذهب. وبالتالي أيضاً، فإن مضمون هذا الوعي الطائفي، هو مضمون نزوي، لذلك ينتج عنه فهم ملتبس غير عقلاني، وأيضاً تكون نتيجة هذا الوعي قراراً خاطئاً تتلبسه الخطيئة بالمعنى الوطني والقومي والإنساني.

2 ـ الخيارات اللاوطنية القاتلة

لا مكان للوطن في وعي الطوائف، إذ ليس للطوائف وطن، للطوائف موطن. وبالتالي فلا يحتمل الوعي الطائفي أبعاد الوجود الوطني، وهو في الأصل، أي الوطن، ليس هماً معيوشاً في حركة وعي الطوائف. فالطائفة مكوّن بشري يعيش عقدة التفوق تجاه بقية الطوائف، كما تتملكه عقدة الريبة والشك بالآخرين، ويعيش أيضاً حالة تحفز دائمة لقضم حقوقهم، تشكل مفاهيمه وعيه الطاقة الدافعة به في هذيان دائري لا ينتهي. أما قادته فقد أتقنوا عملية توظيف هذه النزوة الطائفية في البعدين الاقتصادي والسياسي، بحيث شكلت لهم رافعة سياسية على مدى قرون مضت، ومن يدري إلى متى ستستمر، بعيداً عن المصالح العليا للوطن والمجتمع، وما الحرب الأهلية الأخيرة 1975 ـ 1989، إلا دليل على أن الطوائف بوعيها المنقوص، وبمضمون هذا الوعي البعيد والغريب عن المصالح العليا المادية والنفسية للمجتمع القومي، لم تجد ضيراً في تحالفها مع «إسرائيل»، سياسة وتدريباً وتمويلاً وتنفيذاً، وهي اليوم لا ترى بـ»إسرائيل» خطراً على المجتمع اللبناني، فترفع عقيرتها صباح مساء ضد سلاح المقاومة، لأن أفقها لا يخرج عن دائرة وجودها كطائفة، وتعتبر أن السلاح في يد طائفة أخرى، أياً، تكن يصبح بالنسبة لها مصدر خطر على وجودها. فلو أن المواطنة تأخذ دورها، لما كان مثل هذا المنحى موجوداً، وتعذر بالأساس وجوده.

إن الطائفة بفكر الطائفية تشكل وصاية ثقيلة وأسرة، لم يحدث أن فككت وانحلت على مدى عمر الدولة والمجتمع، كما حدث في اليونان، منذ ما قبل الميلاد حيث:

«إن المدينة، بتفكيكها للمجتمع القبلي، كانت هي التي حررتهم الإغريق من الوصاية الثقيلة للعشيرة العائلية genos وجعلت منهم كائنات فردية مستقلة نسبياً».

جان جاك شوفالييه ـ تاريخ الفكر السياسي ـ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ـ الطبعة الرابعة ـ 1998 ـ ص 15.

أين هي الكائنات الفردية المواطنة لدينا، حتى يتحرر المجتمع من وصاية الطوائف واستبدادها. نقول خيارات لا وطنية قاتلة، لأنه في سياق المواجهة مع العدو الصهيوني، تشكل وحدتنا الاجتماعية، أحد أهم الأسلحة لدينا، كما يشكل انقسامنا الاجتماعي الطائفي ـ المذهبي ـ العشائري ـ المناطقي… السلاح الفتاك بيد الصهاينة. إن هذا الانقسام، هو تحالف موضوعي مع العدو الصهيوني، وبالتالي، تآمر على الذات، ذلك أن أية طاقة في جسم ما، سرّ قوتها هو في بقاء تدفقها، وفق نظام موحد لكافة جوانب الجسم، يضمن لها التناغم والتكامل. وهذا ما يتعارض مع الواقع اللبناني المبتلي بوباء الطائفية وأخواتها.

عندما تصبح خلايا الجسم منفصلة ومستقلة ومتمايزة، على حد قول الدكتور إدمون رباط، نصبح إزاء تجمع أجسام غير قابلة للالتحام على قاعدة استمرار الفلسفة الطائفية السائدة، وبالتالي ينعكس ذلك على ضعف الدولة، لأنها تصبح رمزاً لسلطات زعماء الطوائف، ويضعف تطبيق القانون، وتضيع العدالة، وتتعرض جغرافية الوطن إلى الأخطار الاحتلالية منها والتقسيمية، ويتشرذم الاقتصاد، وتضيع التنمية، وتتعهر السياسة وتوغل الثقافة في وبائها.

المواطنة فعل عصمة، عصمة بوجه كل ذلك، والطائفية وأخواتها فعل خطيئة مع كل ذلك.

3 ـ التأسيس لحروب أهلية مفتوحة

عندما يصل المجتمع إلى الحالة التي هو عليها المجتمع اللبناني، طوائف ومذاهب آخذة بالتمايز والاختلاف، وباتت وجودات قائمة بذاتها، أصبحت صاحبة مشاريع سياسية، لها امتداداتها حيناً، وأحياناً كثيرة، تكون هي موضوع هذه المشاريع الأجنبية وأداتها ووقودها. إذذاك تكون إمكانية وقوع الحروب الأهلية، إمكانية دائمة، تنتظر الظرف والمحرض، وما فترات الهدوء، سوى هدنات واقعة بين حرب وحرب، تخوضها الطوائف على حساب مصالح أفرادها، الذين هم في الأساس في حالة كوما وطنية، وعلى حساب الوطن الرازح تحت عبء نزوات أبنائه.

رابعاً: انعكاس الواقع الطائفي ـ المذهبي على السياسة التربوية

لا بدّ من الإشارة إلى أننا سنقارب موضوع السياسة التربوية الهادفة، لبناء المواطن من خلال مستويين:

الأول: الوجهة المبدئية السياسية التربوية.

الثاني: واقع السياسة التربوية في لبنان.

ـ في الوجهة المبدئية:

إذا لم تكن السياسة التربوية في أية دولة، وليدة فلسفة تربوية، تعتنقها المؤسسات ذات الصلة، الفلسفة المنتوجة من منظومة المفاهيم والأفكار والمبادئ، التي تشكل الخلفية العقائدية للدولة. إذا لم تكن كذلك، فهي سياسة عمياء، تخرب أكثر مما تبني، وتشوه أكثر مما تحسن، لأنها فعل منفصل عن السياق العام، وهذا ما يدفعنا إلى التأكيد، أنه لا فلسفة وسياسة تربوية خارج إطار ومضمون فلسفة وسياسة النظام السائد.

إن أية سياسة تربوية لا تستهدف الخروج من الفوضى إلى النظام، ومن الانحطاط الى النهوض، ومن الانقسام الى التوحيد، هي سياسة عقيمة. ذلك أن السياسة التربوية الناجحة، هي تلك التي تتضمن المقاصد النبيلة، والمناهج النابعة من الظروف الوطنية، وذات الأهداف الوطنية. هي السياسة التي تتكفل بإعطاء المضمون الاجتماعي للإنسان الفرد، المضمون الاجتماعي المتمثل في خلق الانسان الجديد، ذي الأبعاد الإنسانية ـ الاجتماعية. ولقد قال عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركايم في محاضرة افتتاحية له في جامعة السوربون عام 1902 ما يلي:

«إن وظيفة التربية، هي أن تخلق في الانسان كائناً جديداً، هو الكائن الاجتماعي، لأن الانسان الذي تود التربية ان تحققه فينا، ليس هو الانسان كما خلقته الطبيعة، نحن نقول كما خلقه الله ، انما هو الانسان كما يريد المجتمع أن يكون».

وكذلك يقول سعاده: «إن قضية التربية والتثقيف، قضية الصراع المميت، بين تاريخ حديث، وتواريخ دخيلة مستمرة، قضية الصراع الفاصل، بين نفسية فتية تنظر إلى الحياة والكون والفن، نظرة جديدة، ونفسيات شائخة، اعتادت النظر إلى شؤون الحياة والكون ضمن الحدود المغلقة التي تكونت فيها».

يبدو واضحاً الدور المطلوب من السياسة التربوية أن تقوم به، هو من وجهة التوصيف دور تأسيسي، بنائي، تطويري، وضامن لصيرورة النمو المجتمعي.

وهو من وجهة الفعل والدور والمهمة، العملية التثقيفية التعليمية الترشيدية، الهادفة لنقل وتحويل الكائن الانساني، من حالته الطبيعية المحض كما خلقه الله الى الانسان الاجتماعي، المندمج في قضايا مجتمعه، العامل على تطويره، المكتسب شخصيته فيه، المستمد حقائقه وقيمه منه، المولد لديه ايمانه في انه ذو بعد اجتماعي، قيمته في هذا البعد، حقيقته في هذا البعد، استمراره في هذا البعد.

لا بدّ من التأكيد، بأنّ يتوقف على هذا الدور ارتفاع الانسان في حالته الطبيعية الى رقي الانسان الاجتماعي، او انحداره التقهقري باتجاه انسان النزوة المشوه الوعي والشعور والفكر.

ان الحياة تقدم لنا المادة البشرية النظيفة والسليمة الطوية، والمتضمنة كل امكانات الرقي والابداع، ونحن في سياستنا التربوية، إما أن ندفع بهذه المادة الى تحقيق شخصيتها ووعيها المواطنة ، وإما ان نذوبها في كيانات هجينة ومريضة عاجزة، معطلة القدرة على انتاج الانسان الراقي الطوائف . فيترجم ذلك: إما بالمواطنة، بمحتواها كما ذكرنا آنفاً، أو بالفرد الرعوي المسلوب الشخصية والمعنى والرؤية، لمصلحة الكتلة المريضة التي شاءت الاقدار أن ينتمي اليها بالولادة.

ثانياً : في واقع السياسة التربوية في لبنان:

بداية، يمكن القول بأنه لا سياسة تربوية رسمية في لبنان. فالسياسة التربوية الرسمية قاصرة عن تطبيق استراتيجية تربوية تستهدف بناء المواطن، وذلك يعود لكون السياسة التربوية الرسمية، تحمل مضامين وسمات الوضع اللبناني العام، الممزق بتناقضات مشاريع الطوائف السياسية، هذه المشاريع، التي تنعكس ارباكاً وتشتتاً على مستوى المواد التعليمية الجامعة. في لبنان نوعان من التعليم والتربية كغيره من بقية البلدان.

ـ التعليم الرسمي.

ـ التعليم الخاص.

الا ان لبنان يختلف عن سائر بلدان العالم، في انه عاجز عن ضبط ايقاع المناهج من جهة، وعن كون القطاع الخاص يفوق قطاع التعليم الرسمي في المستوى التعليمي. اضافة الى ان التعليم الخاص في قسم كبير منه، تقوم به مدراس دينية.

هذا التنوع في المؤسسات التربوية، وسط غياب وحدة المناهج التوجيهية، ووسط غياب التوافق العام على الاتجاهات الكبرى للدولة اللبنانية، ادى الى خلق عدة نماذج من اللبنانيين، في وقت كان ينبغي أن تنتج السياسة التربوية نموذجاً لبنانياً واحداً.

فلنتصور بلداً نال استقلاله عام 1943 وهو حتى الساعة، لم يستطع ان يتوافق مواطنوه على تاريخه، فتاريخ البلد موزع بين عدة وجهات نظر، كل واحدة منها مرتبطة برؤية طائفية معينة، حتى وصلنا اليوم، بعد 72 عاماً من الاستقلال، لا نملك كتاب تاريخ للبنان، لأن الانقسام والاختلاف حول احداث التاريخ في لبنان انشطارية في العمق. فالمسؤول الوطني هنا، هو عينه خائن هناك، والعمل الجهادي النضالي الكفاحي هنا، هو عبث وغير مقبول هناك. والاشتراك بمذبحة هنا، هو دفاع عن الوطن هناك. والتعامل مع «اسرائيل» هنا ضرورة اقتضتها حماية الطائفة ومبررة، وهو بالطبع خيانة هناك.

ان العلة الأساسية التي تعطل كل سياسة تربوية هي الطائفية ومشاريعها. اذ انه حتى يتم خلق المواطنة، فلا بد من سياسة تربوية تستند الى فلسفة تربوية هادفة لرفع المواطن الى سوية الانسان الاجتماعي، ذي الوجدان الوطني والقومي، ما الذي يعطل هذه السياسة؟ هي الطائفية، فالعلة أقوى من الدواء، الدواء الذي هو التربية والتثقيف، هو يتيم في لبنان، لا أب له، ولا نصير.

لقد وضع المركز التربوي للبحوث والانماء مناهج تربوية جديدة في عام 1995 هدفت الى:

اولاً: تنمية شخصية اللبناني كفرد، وهذا حقه الطبيعي لجهة الكشف عن امكاناته ومواهبه وتنميتها عقلاً وجسداً وعاطفة.

ثانياً: تنمية شخصية اللبناني كعضو صالح ومنتج في المجتمع، ملتزم بقوانينه، متلاحم مع غيره من ابناء وطنه، في ظل مناخ من الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.

واعتبر المجلس انه لتنفيذ ذلك لا بد ان يلتزم اللبناني بـ:

1 ـ سيادة القانون.

2 ـ التعامل الاخلاقي مع الاخر.

3 ـ نبذ كل اشكال الغش والسرقة والكذب والرياء والخداع والاحتيال.

4 ـ الاهتمام بقضايا المجتمع الاساسية اقتصادية ـ معيشية ـ سكانية ـ صحية ـ بيئية .

5 ـ ممارسة النشاطات على انواعها المختلفة والمشاركة الوجدانية والاجتماعية. واعتبر المجلس، أنه لا يمكن لهذه الاهداف التربوية أن تتحقق، إلا من خلال استراتيجية تربوية وطنية محكمة، قوامها:

ـ تأمين التوازن والتفاعل بين المحتوى النظري للمواد التعليمية وبين التطبيقات العملية، ما يساعد في ربط المعارف والمهارات المهنية بحاجات التنمية الاقتصادية.

يقول الدكتور رضا سعادة بعد عرضه لمناهج مركز البحوث والانماء: «إن هذه الطروحات عبثية في الظروف الراهنة، فمشكلتنا أننا لا نجد من يبادر ولا نجد من يقرر، واذا وجد من يقرر فلا نجد من ينفذ، واذا وجد من ينفذ فلا نجد من يستجيب ويتعاون، واذا وجدنا كل هؤلاء، وأبقينا على الادارة مربوطة بالسياسة وعلى السياسة مربوطة بالطائفية، فلا أمل لنا في اصلاح. وسنسمتر في تبرير تخلفنا وتغطية مساوئنا وانحرافاتنا بذريعة الظروف الراهنة».

بلى، سيبقى في لبنان الظرف الراهن عينه، عاملاً مانعاً بشكل دائم، لتحقيق اية سياسة تربوية تستهدف خلق المواطنة، أو أي تحرك اصلاحي تغييري مخالف للطوائف. ما هو حاصل اليوم من معارضة لإلغاء الطائفية السياسية، بحجة أن الظرف الراهن لا يسمح وهو سيبقى لا يسمح، لأنه ظرف الطوائف المتوقف عند لحظة ما من تاريخ البلد.

لقد وضع كما ذكرنا، المجلس الوطني للبحوث والانماء سياسة تربوية تكاد تكون استراتيجية، تهدف الى خلق المواطنة لدى اللبناني، والمجلس المذكور مؤسسة رسمية، السؤال: لماذا لم يؤخذ بالخطة الموضوعة من قبل وزارة التربية والتعليم العالي، التي هي المرجع في هذا الشان؟

بل ثمة سؤال اكبر، هل تستطيع وزارة التربية تطبيق خطة المجلس التربوي للبحوث والانماء؟ أم ان الطوائف بالمرصاد؟

خامساً : في استخلاص الرؤية

لم يبلغ شعب من الشعوب مبلغ المرض والفساد الذي بلغناه نحن، وكان سبب ذلك، خلو المجتمع من المؤسسات الوطنية والقومية، التي تربي الناشئة على الفضائل والقيم الوطنية والمقاصد النبيلة، وتحررها من المناهج الرجعية او الاجنبية التي تعلمها عكس حقيقتها، أي على قاعدة «تعلم كيف تجهل».

قليلة هي الشعوب التي لامست خطر الفناء كما نحن، الخطر الذي يمكننا الانتصار عليه بتربية الناشئة على التمسك بالقيم الوطنية والاستعداد للتضحية في سبيل الوطن والامة، وجعل ثقافة المقاومة مركزاً في منظومة مفاهيمنا وقيمنا. اذ انه لا فصل بين ثقافة المواطنة والثقافة المقاومة في بلد مثل لبنان، تهدده الصهيونية بتقسيم جغرافيته ومجتمعه وتهجين انسانه. في بلد مثل لبنان ليس لديه الا المقاومة، كرد وحيد وناجع ضد المخاطر المشار اليها اعلاه. فهي موحدة للجغرافيا والمجتمع، وهي البانية للانسان المنتمي الى نفسه في وجوده المجتمعي العام.

ان مهمة بناء المواطنة في بلد مثل لبنان، عملية ثورية تغييرية، تمثّل بحال تحققها الانتصار الاساس، لذلك لا بد من استكمال المعركة ضد العوامل المعطلة، وفي مقدمتها الطائفية، سياسية وغير سياسية. لا وطن من دون مواطنة، ولا مواطنة دون ثورة ثقافية تحملها المناهج والفلسفات التربوية، والسؤال يبقى، من سيتنكب هذه المسؤولية؟ هل الطبقة السياسية القائمة، والتي تدين بوجودها للطائفية وقوانينها وثقافتها؟ أم الذين ادخلتهم الطائفية غيبوبة عميقة؟ ليس غير تلك النخبة الرسولية التي اكتنزت الوعي الوطني والقومي والانساني، وقررت قتال التنين، كما في المقاومة كذلك في التربية وبناء المواطن.

بلى، السياسة التربوية هي الاداة الوحيدة لخلق المواطنة، لكن من يضعها ومن ينفذها، ومن يحميها؟ يبقى السؤال قائماً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى