نزار قبّاني السبّاق إلى الرؤيا: إنّ زماننا العربيّ مختصّ بذبح الياسمين وبقتل كلّ الأنبياء

دفع نزار ثمناً غالياً لمعاركه الأدبية، فكان عرضه لمعاداة الحكام والوزراء وأولي الشأن منا، ومنعت أعماله من التداول، ومنع من تخطي الحدود بين الدول العربية، ثم كان هؤلاء الحكام والوزراء يتراجعون ويستقبلون بالود شاعر الشام، عدا دولة واحدة لم تسمح لنزار وأعماله أن يجتازا حدودها، بل أكثر من ذلك فقد اعتبرت نزاراً كافراً ملحداً وهدرت دمه منذ نطق بأول بيت شعر حتى الآن، فوقعت الواقعة بين نزار وتلك الدولة. هم يصدرون فتاوى التكفير والقتل في حقه وهو يفتح نار قصائده على جهلهم وتخلفهم وبحثهم عن ملذاتهم على حساب الوطن، حتى بعد رحيل الشاعر ما زالوا في صراع معه، صراع بين الحق والباطل.

ابتدأ نزار بكتابة الشعر طفلاً متمرداً على الجهل والجاهلين، وأعلن العصيان على التقاليد والأعراف كلّها ووقف في وجه الرياح العاتية وقال «القصيدة عندي هجمة انتحارية على القبح والانحطاط والظلام والتلوث السياسي والقومي» لذا كان مطلوباً لكل مخافر الدرك العربية «الانكشارية»، ولم تستطع السنون أن تنزله عن صهوة حصانه الجامح.

معارك أدبية وشعرية كثيرة خاضها نزار مع أنداده، وحكومات عربية عديدة رفعت «الكرت الأحمر» في وجه نزار: مخافر ودرك وجنود عرب ومرتزقة طاردوا نزاراً في المدارس والإذاعات والصحف والمجلات ووضعوا اسمه على الحدود. ونزار كان شامخاً مثل قاسيون في وجه الرياح، يحمل بين ثنايا قلبه حباً لله والوطن والإنسان، فكان يخرج من كل معركة أطول قامة وأكثر قوة.

«قالت لي السمراء» كان بداية الفتح للشاعر الدمشقي نزار قباني، والسيف الذي شهره في كل غزواته وانتصر.

أعد نزار ديوانه الأول «قالت لي السمراء» للطباعة وذهب إلى أم المعتز وقال لها لدي ديوان شعر وأريد مبلغ 300 ليرة سورية لطباعته فخلعت أسورتي الذهب من يدها وأعطتهما له ليطبع كتابة. وبعدما نشر ديوان شعره وظهرت أصداؤه في الحارة جاء وجهاؤها إلى أبي المعتز يشكون ابنه نزار على هذا الديوان ويسجلون اعتراضهم عليه وضرورة إتلافه ومنع نزار من التعاطي مع هذه الأشياء الشعر . انتظر الوالد توفيق قباني ابنه نزاراً إلى حين عودته إلى البيت، فسأله: هل صحيح أنك كاتب كتاب شعر عن المرأة والناس في الحارة قايمين عليك؟ فقال له: بلى، وطلب أبو المعتز الديوان ليطلع عليه ثم يقرر ماذا سيفعل، وبعد أيام استدعى ابنه نزاراً وقال له: لا يهمك ما يقولونه في الحارة واستمر وأنا أتدبر الأمر مع أهل الحارة. واستمر صراعه بدمشق مع «الذقون المحشوة بغبار التاريخ»، بحسب قوله.

لم تهدأ معركته هذه فصرخ بأعلى صوته متألماً من «الذقون المحشوة بغبار التاريخ»: «ضربتني دمشق بالحجارة، والبندورة، والبيض الفاسد. العمائم نفسها التي طالبت بشتق أبي خليل طالبت بشنقي، والذقون المحشوّة بغبار التاريخ التي طلبت رأسه طلبت رأسي».

من أشرس المعارك التي خاضها نزار مع الحاقدين والمتطفلين كانت في القاهرة، وكانت كما يقول نزار مع بعض «مرتزقة الكلمة والمتاجرين بها»، حسب قوله. ففي أعقاب نكسة الخامس من حزيران كتب نزار قصيدة عنوانها «هوامش على دفتر النكسة» أودعها خلاصة ألمه وتمزقه، وكشف فيها عن مناطق الوجع في جسد الأمة العربية، لاقتناعه بأن ما انتهينا إليه لا يعالج بالتواري والهرب، وإنما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا. هذه الرؤية لم تعجب بعضهم في القاهرة وفي مقدمهم وزير الإعلام المصري آنذاك، واعتبرها موجهة إلى مصر. فأصدر قراراً بمنع نزار من دخول مصر، ومنع كتبه وأغانيه من تلفزيون مصر وإذاعتها، سطر نزار بتاريخ 30 تشرين الأول عام 1967 رسالة للرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر يشكوه فيها منع قصائده في مصر! ومما جاء في الرسالة: «أوجعني يا سيادة الرئيس أن تمنع قصيدتي من دخول مصر، وأن يفرض حصار رسمي على اسمي وشعري في إذاعة الجمهورية العربية المتحدة وصحافتها. والقضية ليست قضية مصادرة قصيدة أو مصادرة شاعر. لكن القضية أعمق وأبعد. القضية هي أن نحدد موقفنا من الفكر العربي. كيف نريده؟ حراً أم نصف حر؟ شجاعاً أم جباناً؟ نبياً أم مهرجاً؟

القضية هي أن يسقط أي شاعر تحت حوافر الفكر الغوغائي لأنه تفوه بالحقيقة. سيادة الرئيس: إنني أشكو لك الموقف العدائي الذي تقفه مني السلطات الرسمية في مصر، متأثرة بأقوال بعض مرتزقة الكلمة والمتاجرين بها. وأنا لا أطلب شيئاً أكثر من سماع صوتي. فمن أبسط قواعد العدالة أن يسمح للكاتب أن يفسر ما كتبه، وللمصلوب أن يسأل عن سبب صلبه. لا أطالب يا سيادة الرئيس إلا بحرية الحوار، فأنا أشتم في مصر، ولا أحد يعرف لماذا أشتم، وأنا أطعن بوطنيتي وكرامتي لأني كتبت قصيدة، ولا أحد قرأ حرفاً من هذه القصيدة. سيدي الرئيس، لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه، والمجروح على جراحه، ويسمح باضطهاد شاعر عربي أراد أن يكون شريفاً وشجاعاً في مواجهة نفسه وأمته، فدفع ثمن صدقه وشجاعته».

وصلت الرسالة إلى الرئيس عبد الناصر، فكتب عليها فوراً، يسمح للشاعر بدخول مصر متى شاء ويرفع الحظر عن أعماله. وفي عام 1990 صدر قرار من وزارة التعليم المصرية بحذف قصيدته «عند الجدار» من مناهج الدراسة بالصف الأول الإعدادي لما تتضمنه من معان غير لائقة! بحسب زعمهم، وأثار القرار ضجة حينذاك واعترض عليه كثير من الشعراء في مصر في مقدمهم محمد إبراهيم أبو سنة.

عام 1990 أيضاً أقام نزار دعوى قضائية ضد إحدى دور النشر الكبرى في مصر، إذ أصدرت الدار كتاب « فتافيت شاعر» متضمناً هجوماً حاداً على نزار على لسان اللبناني جهاد فاضل، وطالب نزار بـ100 ألف جنيه كتعويض وتم الصلح بعد محاولات مستميتة. وحين أقام نزار قباني فترة من الزمن في القاهرة تعرض لهجوم من بعض شعرائها وصحافييها، فها هو الكاتب الصحافي موسى صبري رئيس تحرير صحيفة «الأخبار» المصرية يوجه مجموعة من الشتائم إلى الشاعر ضمنها جملته المشهورة التي قال فيها: «عليك اللعنة يا نزار… يا قباني» وجعلها عنوان مقالته وختامها.

حين تغنى نزار قباني بدمشق وقال فيها: «السكنى في الجنة.. والسكنى في دمشق.. شيء واحد. الأولى تجري من تحتها الأنهار.. والثانية تجري من تحتها القصائد والأشعار». قالوا عنه: «زعيم الشياطين والأبالسة نزار قباني».

لذا منع نزار من دخول الأراضي السعودية، ومنعت جميع كتبه الشعرية والنثرية من دخولها، وكان القارئ السعودي يتناول هذه الكتب في الخفاء وبأسعار مرتفعة جداً، والسعودية هي البلد العربي الوحيد الذي لم يزره نزار طوال حياته!؟ ولم تدخل كتبه بشكل طبيعي إلى أسواقها! وبعد وفاة نزار قباني تطاول صالح الشايجي، الصحافي في جريدة «الأنباء» الكويتية، على قامة نزار، ونشر زاويته «بلا قناع» في 3/5/1998 وقد ملأها بالحقد والكراهية على نزار، لكنّ نزاراً كان رحل إلى جوار ربه فلم يستطع أن يرد ذاك إلى حتفه.

لم تهدأ نار حقدهم على نزار قباني، فحين رحل الشاعر إلى جوار ربه، أثير العديد من الروايات التي تناقلتها الصحف والمجلات حول منع الصلاة على جثمان الشاعر في جامع المركز الثقافي الإسلامي في لندن، وقيل يومذاك: «إن الإسلاميين المتطرفين في المسجد المركزي في لندن قد منعوا الجثمان من دخول الجامع للصلاة عليه لأنهم صنفوه على أنه كافر ولما قيل لهم: هل شققتم على قلبه؟ قالوا: لو رأيناه حياً أمامنا لشققنا قلبه وشققنا كتبه الآثمة». وقالت الصحافة يومذاك إن هذه رواية شاهد عيان حضر الصلاة وصلى على الجثمان خارج الجامع بعدما عجز المصلون عن إقناع الإسلاميين المتطرفين بالسماح بالصلاة عليه داخل الجامع». ابنة نزار قباني هدباء قالت لمدير المركز: «لو كان أبي حياً لهجاكم أيها المتشددون».

وفي المحصلة نستطيع القول إن هذا ليس جديداً على نزار قباني، فهو حين دخل مملكة الشعر دخلها فاتحاً وغازياً، وأعلن العصيان على سائر التقاليد والأعراف البالية وأضرم النار في كل العقول المتحجرة.

لم يعترف نزار قباني بقوانين المخافر الانكشارية العربية، ورقابة رقيبهم، فأعلن العصيان على التخلف والفساد والرشوة والتسلط ووقف في وجه كل المنحرفين، لعله كان الأشجع والأجرأ والأقوى في فضح هؤلاء الخبثاء وتعريتهم، فكتب القصائد الكثيرة التي تفضح ممارساتهم.

نزار قباني العروبي حمل في دمه وشرايينه الوطن بآماله وآلامه في حله وترحاله لم يستطع أن يكون شاهد زور على مآسينا فكان رده منسجماً مع رؤاه السياسية وقد أثبتت الوقائع صدق ما ذهب إليه نزار قباني وما حذر منه: «أميركا تريد أن يبقى العرب جنيناً متخلفاً عقلياً حضارياً وتقنياً وقومياً، بحيث لا يستطيعون على المدى المنظور أن يشكلوا خطراً على إستراتيجيتها النفطية ونفوذها الاقتصادي والسياسي في هذه المنطقة التي تجلس على نصف موارد الطاقة في العالم… تصورنا أن النفط سيشفع لنا لديها… ولكنها امتصت نفطنا كالعلقة واستمرت تضربنا تصورنا أن الأرصدة الضخمة التي أودعناها لديها لتشارك في دعم اقتصادها سوف تثير في نفسها مشاعر الحنان والمجاملة ولكنها احتفظت بأرصدتنا ولم تتوقف عن ضربنا…».

حكاية نزار قباني مع الذئاب حكاية طويلة، حكاية نفط وفساد، فهو رأى أن أموال النفط أتاحت لهم تفريخ وسائل إعلام ومحطات فضائية تدعم طغيانهم وطغيان عتاة الإرهابيين ومنظماتهم وتسوق أفكارهم وفتاواهم بالقتل والتخريب من دون أي مسوّغ أو وازع ديني أو أخلاقي. يقولون، لو أن العرب استخدموا النفط في مساره الصحيح لسيطروا على العالم ولكن ماذا في إمكاننا فعله، إذا كان من يسيطر عليه متخلفاً متحجراً بالكاد يستطيع أن يكون جملة مفيدة واحدة:

«من كلِّ صوبٍ.. يهجم الجرادْ.. ويأكل الشعر الذي نكتبه..

ويشرب المدادْ.. من كل صوبٍ.. يهجم الإيدْزُ على تاريخِنَا.. ويحصُدُ الأرواحَ، والأجسادْ».

ترى هل استطاع النفط وأمواله أن ينقل هؤلاء من البداوة إلى الحضارة؟ وهل أخرجتنا أموال النفط الهائلة من عقلية القطيع إلى التحضر؟ يستبعد نزار قباني أن يكون النفط بأيدي هؤلاء للحضارة، بل هو فخ وقعوا فيه وأفسدوا في الأرض وكانوا القطط السمان التي نهبت البلاد والعباد، فكان النفط لهم للملذات:

«تمرغ.. يا أمير النفط فوق وحول لذاتك

كممسحة.. تمرغ في ضلالاتك

لك البترول.. فاعصره

على قدمي خليلاتك

كهوف الليل في باريس.. قد قتلت مروءاتك

على أقدام مومسة هناك

دفنت ثاراتك..

فبعت القدس.. بعت الله.. بعت رماد أمواتك

كأن حراب إسرائيل لم تجهض شقيقاتك

ولم تهدم منازلنا»

«أيا متشقّقَ القدمينِ.. يا عبدَ انفعالاتكْ، ويا مَن صارتِ الزوجاتُ بعضاً من هواياتكْ، ويا مَن تخجلُ الصحراءُ حتّى من مناداتكْ، متى تفهمْ؟ كهوفُ الليلِ في باريسَ.. تغوصُ القدسُ في دمها، وأنتَ صريعُ شهواتكْ»

لقد أيقن نزار قباني الشاعر الدمشقي بحسه الشعري أن أمثال هؤلاء كان من الأجدر بهم أن يبقوا كما كانوا، يلهثون وراء البعير، وجل مبتغاهم الحصول على تمرة أو قطعة خبز كما كانوا قبل وقت قريب:

«يا بلدي الطيب.. يا بلدي لو تنشف آبار البترول

ويبقى الماء

لو تلغى أجهزة التكييف من الغرف الحمراء

لو أعطى السلطة في وطني

جرّدت قياصرة الصحراء

من الأثواب الحضاريّة

ونزعت جميع خواتمهم

ومحوت طلاء أظافرهم

وسحقت الأحذية اللّماعة

والساعات الذهبيّة

وأعدت حليب النّوق لهم

وأعدت سروج الخيل لهم

وأعدت لهم حتى الأسماء العربيّة»

من وجهه نظر نزار فإن النفط العربي كان وبالاً علينا وكان في أيدي حفنة من الأشخاص والعشائر والقبائل التي استغلته للملذات والتوحش، والتخلف، والبشاعة، والوضاعة: «هجم النفط مثل ذئبٍ علينا، فارتمينا قتلى على نعليه، وقطعنا صلاتنا.. واقتنعنا، أن مجد الغني في خصيتيه، أراهم أمامي وهم يجلسون على بحر، النفط.. بلاداً تستعذب القمع.. حتى صار عقل الإنسان في قدميه… إن اللص أصبح يرتدي ثوب المقاتل، ندخل مرةً أخرى لعصر الجاهلية، ها نحن ندخل في التوحش، والتخلف.. والبشاعة.. والوضاعة».

اختصر نزار منذ عشرات السنين واقعنا وتحدث منذ ذلك الوقت عن حالنا اليوم: «إن زماننا العربيّ مختصٌ بذبح الياسمين، وبقتل كل الأنبياء.. وقتل كلِّ المرسلين.. ها نحن ندخل في التوحش.. والتخلف.. والبشاعة.. والوضاعة.. ندخل مرة أخرى.. عصور البربرية.. إن اللص أصبح يرتدي ثوب المقاتل.. ندخل مرةً أخرى لعصر الجاهلية.. ها نحن ندخل في التوحش.. والتخلف.. والبشاعة.. والوضاعة.. ندخل مرةً أخرى.. عصور البربرية».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى