2/1
جورج كعدي
السجال الذي أثارته وتثيره حتّى الساعة زيارة البطريرك المارونيّ بشارة بطرس الراعي إلى القدس المحتلّة، ينبغي إرجاعه، بمعزل عن تضارب الآراء والمواقف بين معارض ومؤيّد، إلى الموقف الفاتيكانيّ من «إسرائيل»، وربط مشاركة البطريرك في الوفد الزائر بهذا الموقف للكرسيّ الرسوليّ وتطوّره التاريخيّ رفضاً للكيان اليهوديّ الصهيونيّ، ثم قبولاً وانفتاحاً وتبادلاً! ويجب أن نعرف ولعلّ الكنيسة المارونيّة تعرف أنّ الموارنة ومؤسّستهم الكنسيّة فقدوا الحرّية واستقلاليّة القرار مذ انضووا تحت السلطة الفاتيكانيّة وسلّموا شؤونهم كطائفة مشرقيّة أنطاكيّة إلى الكنيسة الكاثوليكيّة الغربيّة التي تختلف مواقفها وحساباتها ومصالحها الكنسيّة والدنيويّة، السياسيّة والثقافيّة وحتى الليتورجيّة والعقيديّة، ككنيسة غربيّة، أوروبيّة التأثّر والتأثير بشكل خاص، عن كنيسة مشرقيّة ذات فرادة وخصوصيّة ثقافة وحضارة وانتماء وتقاليد، وحتّى سياسةً والتزاماً، كونها في صلب الصراع الوجوديّ مع الصهيونيّة اليهوديّة التي اغتصبت مهد المسيح والمسيحيّة، من الناصرة إلى بيت لحم، فالقدس الغالية للمسيحيين والمسلمين على السواء.
الإشكاليّة الراهنة حول مشاركة البطريرك الراعي في زيارة الأرض المحتلّة، تستدعي منّا التذكير بالتطوّر التاريخيّ لطبيعة العلاقة التي تربط الفاتيكان بكيان «إسرائيل» المغتصب والمحتلّ والمدنّس لأرض الرسل والأنبياء. ونظراً إلى ارتباط الفاتيكان بالأراضي المقدّسة والأماكن الدينيّة فيها، توجّس بعض أحباره خيفة من وعد بلفور المشؤوم ونتائجه، وكان أصدر الفاتيكان بياناً في الأوّل من أيّار عام 1897، قبل انعقاد المؤتمر الصهيونيّ في بازل 29 ـ 31 آب 1897 الذي حدّد أهداف الحركة الصهيونية بـ«إقامة وطن لليهود في فلسطين معترف به وفقاً للقانون الدوليّ»، واستمرّ الموقف الفاتيكانيّ الرافض إعادة إحياء الدولة اليهوديّة مع البابا بيّوس العاشر بين 1903 و 1914 الذي ردّ في 24 كانون الثاني 1904 على رسالة كان بعثها إليه مؤسّس الحركة الصهيونيّة الإرهابيّة ثيودور هرتزل طالباً فيها إلى بابا روما دعمه لإقامة وطن لليهود في فلسطين، وممّا ورد في ردّ البابا بيّوس العاشر: «لا نستطيع البتّة أن نتعاطف مع هذه الحركة الصهيونيّة فنحن لا نستطيع أن نمنع اليهود من التوجّه إلى القدس، ولكننا لا يمكن أبداً أن نقرّه. إنني بصفتي قيّماً على الكنيسة لا أستطيع أن أجيبك في شكل آخر. لم يعترف اليهود بسيّدنا، ولذلك لا نستطيع أن نعترف بالشعب اليهوديّ. وبالتالي، إذا جئتم إلى فلسطين وأقام شعبكم هناك فإننا سنكون مستعدّين كنائس ورهباناً لتعميدكم جميعاً». واتخذ البابا بيّوس العاشر موقفاً آخر مباشراً لدى استقباله هرتزل في العام نفسه إذ أبلغه رفضه «إقامة وطن يهوديّ في فلسطين لأنّه يتناقض مع المعتقد الدينيّ المسيحيّ».
خلَف البابا بيوس العاشر البابا بندكتوس الخامس عشر على رأس الكنيسة بين 1914 و1922 فاستأنف توجّه أسلافه المناهض للوطن اليهوديّ حين رفع شعاره التاريخي «لا لسيادة اليهود على الأرض المقدّسة»، إذ كان البابا بندكتوس قلقاً من أن يُنشئ وعد بلفورحالة من التفوّق والتمايز لليهود على حساب المسيحيّين، وأن يوكَلَ أمرُ الأماكن الدينيّة إلى السلطات اليهوديّة، قحذّر في 13/3/1919 من تلك التطوّرات قائلاً: «سيؤلمنا كثيراً، كما سيؤلم جميع أبنائنا المسيحيّين، أن يصبح لغير المسيحيّين وضع مميّز في فلسطين، بل أكثر من ذلك، أن يُعهد بأمر تلك المعابد المقدّسة العائدة للمسيحيّين إلى سواهم».
بعدما أصبحت هواجس الكرسي الرسوليّ حقائق يمكن مشاهدتها، وجّه الفاتيكان رسميّاً مذكّرة إلى عصبة الأمم في 15 أيار 1922 تحمل توقيع الكاردينال غاسباري وفيها عدم موافقة على «أن يُمنح اليهود وضعاً مميّزاً ومتفوّقاً بالنسبة إلى القوميّات والطوائف الأخرى». وأمام هذه الحيثيّات يتّضح أنّ الالتزام الدينيّ كان وراء وقوف الفاتيكان والبابوات في وجه المشروع الصهيونيّ القاضي بإنشاء وطن لليهود في فلسطين، وعلى هذا الأساس «كانت تبريرات الكنيسة الكاثوليكيّة لهذه المواقف تشير دوماً إلى التزامها بموقف البابا وتعاليمه، والقائمة على أسس دينيّة وإنسانيّة»، بحسب الباحث يوسف الحسن في كتابه «البعد الدينيّ في السياسة الأميركيّة تجاه الصراع العربيّ ـ الصهيونيّ».
من ناحية أخرى، تمثّلت الترجمة العمليّة لمعارضة الفاتيكان «الوعد» باستقبال البابا بندكتوس الخامس عشر البعثة العربيّة الفلسطينيّة عام 1921 وكانت ذات تأثير كبير في تحريك الشارع الفلسطينيّ ضدّ المشروع الصهيونيّ. واندرج استقبال البابا لتلك البعثة في إطار دعم أيّ جهد، خاصة عربيّ، لمواجهة المدّ الصهيونيّ المتعاظم، فضلاً عن دعم مشاركة المسيحيّين العرب في النضال الوطنيّ ضدّ الحركة الصهيونيّة.
غير أنّ هذه المواقف الفاتيكانيّة لم تدم طويلاً، ويا للأسف، إذ بدأت تتراجع مع بدء الاعتراف بـ«الحقوق المدنيّة لليهود في فلسطين»، واستكملت بقبول القرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين دولتين، فلسطينيّة و«إسرائيليّة»، والداعي كذلك إلى تدويل القدس!
يُعزى التراجع في موقف الفاتيكان إلى أسباب متعدّدة، بينها:
1 ـ نفوذ الولايات المتحدة الأميركيّة وضغطها السياسيّ والاقتصاديّ على الدول الكاثوليكيّة التي كانت توفّر للفاتيكان عناصر الحماية والمناعة وتدافع عن مواقفه في المحافل الدوليّة إيطاليا وإسبانيا والبرتغال تحديداً، فضلاً عن بعض دول أميركا اللاتينيّة .
2 ـ الخوف على الوجود المسيحيّ الكاثوليكيّ في فلسطين بعدما تعرّض لحملات التهجير والطرد القسريّ. إذ بدا للفاتيكان أنّ الأوضاع تتجه باستمرار نحو مزيد من التأزّم، وتتفاقم الضغوط «الإسرائيليّة» على المسيحيين نفسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً وحتى سياسيّاً، فـ«إسرائيل» لم توفّر أحداً من الفلسطينيّين، إن مسلمين أو مسيحيين، وبما أن المسيحيين قلّة في فلسطين فإنّ ذلك يُسهّل، في ظلّ الظروف الصعبة التي تحيط بفلسطين، خروج المسيحيين إلى أماكن وبلدان أكثر أمناً. ومن هنا كان خوف الفاتيكان على الوجود المسيحيّ من حملات تهجير وطرد وترحيل تحصل تحت وطأة الأوضاع في فلسطين. لذا «اضطرّ» الفاتيكان ! إلى مخالفة توجّهاته الدينيّة في شأن إقامة وطن لليهود في فلسطين، وتعامل مع الواقع بـ«براغماتيّة» بغية تحديد وضع المصالح الكاثوليكيّة في فلسطين!
أليست «براغماتيّة» الفاتيكان هذه أصل الخطأ والخطيئة في حقّ أرض وشعب وتغطية لظلم تاريخيّ لا مثيل له في العصور القديمة والحديثة؟!
… للبحث وإشكاليّاته المتعدّدة صلة.