التقارب الروسي الأميركي… سورية عقدة النجار!

د. تركي صقر

لأول مرة منذ افتراقهما قبل سنتين بسبب الأزمة الأوكرانية، تعود واشنطن لخطب ودّ موسكو، ويطير وزير خارجيتها جون كيري إلى سوتشي الروسية للقاء سيد الكرملين الرئيس بوتين ووزير خارجيته لافروف، في خطوة عُدّت بداية تقارب روسي ـ أميركي بعد أن أدركت إدارة أوباما عدم قدرتها على حل أي نزاع دولي أو قضية في العالم بصورة منفردة ومن دون موسكو تحديداً. وبرز واضحاً أن الأزمتين السورية والأوكرانية تشكلان الاختبار الأصعب لهذا التقارب الجديد. وفي ضوء التفاهم حول هاتين الأزمتين، يمكن الحكم على ثبات التقارب وصموده أو ذهابه إلى افتراق لا تُعرف نهايته ولا تبعاته ولا انعكاساته على باقي القضايا الدولية.

ونتيجة التعقيد الشديد في الأزمتين، اتُفق على عقد اجتماع تشاوري ثنائي روسي ـ أميركي لكل منهما في موسكو، واللافت أن محادثات سوتشي أظهرت تعنتاً أميركياً أكثر حول الأزمة السورية من الأزمة الأوكرانية، إذ بقيت المواقف متباعدة كما كانت قبل سنتين على الأقل. فكيري اعتبر أنّ حلّ الأزمة السورية يجب أن يكون سياسياً ولكن من خلال «انتقال سلمي للسلطة» ولافروف أكد «أنّ الطرفين اتفقا على تفعيل الجهود من أجل اتفاق جنيف»، وأضاف: «إنّ على اللاعبين الخارجيين أن يدفعوا طرفي النزاع في سورية إلى تطبيق اتفاق جنيف».

لكن تصريحات لافروف وكيري أظهرت أيضاً فهماً متبايناً لتفاهمات جنيف، كيري أعاد أسطوانة المعارضة المشروخة عن «انتقال سلمي للسلطة»، ولافروف أعاد الموقف الروسي المعروف عن «تطبيق اتفاق جنيف». وللعلم أنه منذ اللحظة الأولى على إعلان تفاهمات جنيف1، كانت هناك نظرتان مختلفتان، النظرة الأميركية تؤكد «انتقال السلطة» أيّ الحصول سياسياً على ما عجزت عن تحقيقه عسكرياً، ونظرة روسية ثابتة لم تتبدل وهي أنّ هذه المسألة يقرّرها السوريون وحدهم من خلال الحوار السوري ـ السوري، بعيداً من أيّ تدخل خارجي أو إملاء شروط مسبقة.

والسؤال: هل يمكن أن ينجح اجتماع موسكو التشاوري بين ديفيد روبنستاين، المبعوث الخاص للولايات المتحدة الأميركية إلى سورية والمسؤولين الروس فيما أخفقت محادثات سوتشي بين وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري والرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف في تحقيق أية مقاربة حول الأزمة السورية؟ ويبدو أن الموقف الأميركي لا يزال يراهن على تبديل موازين القوى على الأرض لمصلحة المجموعات الإرهابية، وقد يكون تشدده في لقاء سوتشي ناجماً عن بعض الخسارات التي مني بها الجيش العربي السوري إثر العدوان التركي المباشر على محافظة إدلب وتقوية جبهة النصرة وتمكينها من السيطرة على المدينة وجسر الشغور بالتعاون مع ما يسمى جيش الفتح، حيث تأمل واشنطن تكرار تجربة جيش الفتح في محافظات سورية أخرى.

لا يُستبعد أن تقوم إدارة أوباما بلعبة المسارين السوري والأوكراني، بحيث تدفع مساراً وتؤخر آخرـ وقد تساوم على المسار السوري بدعوة روسيا للتخلي عن حليفها الرئيس بشار الأسد لقاء إنجاح الحل في أوكرانيا، وقد ألمحت إلى مقدمات توحي بذلك، عندما عرضت التخلي عن بناء منظومة الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية على حدود روسيا، الذي يكلف حوالى مئة مليار دولار، ما يؤشر إلى أن الملف السوري يحظى بأهمية أكبر من الملف الأوكراني، لأن التشدد فيه من قبل واشنطن يحقق رضا حلفائها في السعودية وأنظمة الخليج وتركيا عموماً و إسرائيل على وجه الخصوص، والتخلي عنه أو التهاون فيه يغضب هؤلاء جميعاً، وهم قد استماتوا طيلة أكثر من أربع سنوات لإسقاط النظام والرئيس وإركاع الدولة السورية، وحينما لم يستطيعوا انتقلوا إلى تدميرها بوحوش داعش و النصرة واستقدام المرتزفة والسجناء المجرمين من كل أنحاء العالم لهذه الغاية.

حقيقة الأمر أن التقارب الروسي ـ الأميركي أمام المعضلة السورية التي تشبه تماماً عقدة النجار، فلا إدارة أوباما تظهر ميلاً أو جرأة لتغيير مواقفها تجاهها، هذا ظاهرياً على الأقل، ولا موسكو مستعدة للتراجع عن دعمها لسورية وقيادتها بعد أن أمضت أربع سنوات لا تكلّ ولا تملّ عن نصرتها، واستخدام الفيتو مرات عديدة للحيلولة دون تكرار السيناريو الليبي، ولا يعني هذا أنها لم تستفد من الصمود السوري ومقاومته لقوى الإرهاب وداعميه، إذ تقدمت روسيا على المسرح العالمي كقوة حطمت أسطورة القطب الأميركي الأوحد، وعززت قدرتها على الاستقطاب الدولي وبناء منظومة تحالفات تقض مضاجع الولايات المتحدة وتهزها هزاً عميقاً من خلال منظمة شنغهاي ومجموعة دول البريكس. ومن هنا يبدو مستحيلاً أن ترتكب القيادة الروسية مثل ها الخطأ الاستراتيجي القاتل بالتخلي عن سورية.

لا يمكن الركون إلى صدقية موقف مسؤولي البيت الأبيض فهم يصرحون مساء عكس ما يصرحون به صباحاً، فبالأمس قال أوباما إن المعارضة السورية ليست أكثر من فنتازيا، ومن الوهم الرهان عليها في إسقاط النظام، وعاد ليدعم تدريب ما يسمى المعارضة المعتدلة، ووزير خارجيته صرح أن لا بد في نهاية المطاف من التفاوض مع الأسد وعاد ليلحس كلامه ويقول لا حلّ في سورية إلا برحيل الأسد. وهذه المراوغة الأميركية مستمرة حتى أن أوباما قال قبل يومين إنه لا يتوقع حلاً للأزمة السورية قبل انتهاء ولايته عام 2017، وإذا كان كلام أوباما صادقاً، فلماذا يرسل إلى اجتماع موسكو مبعوثه الخاص إلى سورية ديفيد روبنستاين، لوضع النقاط على الحروف لحل الأزمة السورية مع الجانب الروسي؟ وفي كل الأحوال، ضاقت خيارات المناورة أمام أوباما في ظل اقتراب موعد التوقيع على الاتفاق النووي الإيراني وفشل حروبه الإرهابية التكفيرية حتى في اليمن وبروز داعش كخطر عالمي كاسح لا يستثني أحداً لا في الشرق ولا في الغرب، ولا بد أن ينصاع أوباما في نهاية المطاف للمنطق الروسي في حل الموضوع السوري لأنه الوحيد القابل للنجاح والوحيد القابل للحياة.

tu.saqr gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى