إيران بين العين والحجاب 1
نرغب من خلال صفحة الدراسات أن تتضمن كل مجالات الثقافة والأدب، ومنها أدب الرحلات، الأدب الذي ينقل إلى القارئ نبض حضارات من الممكن أن تكون قد غابت عن معارفه.
في هذه الدراسة، يفصل لنا د. منير مهنا، مشاهداته الحية عن الحضارة الفارسية، إلى جانب ميادين تفاعلها مع حضارتنا القومية، مبرزاً أعلاماً فكرية وفلسفية وفنية ساهمت في تفاعل الحضارتين.
د. منير سعيد مهنا
لكل مكان أفقه الذي يمتدّ ما بين الذاكرة وصيرورة التحوّلات عبر الزمن. كأنما التاريخ في بعض جوانبه استرجاع لذاكرة الأمكنة وما تحمله من فضاءات رمزية تبقى بعيدة من الحياة طالما لم نعطها الدلالة والتأويل من خلال تفاعلنا معها.
ولكل مكان نبضه الإنساني المتفاعل في أفضية الجغرافيا بصفتها حاضنة للمعيش من شبكات التفاعل والتواصل، ورافعة لبنية التكوين المعرفي الثقافي الذي تتكئ عليه ذاكرة الجماعة، حيث يجتمع فضاء المكان المتأنسن مع الزمان المتعاقب ليؤسّس لمعنى الهوية الجماعية.
كيف تتعرف الى روح المكان وتاريخه وتستكشف أفقه وصيرورة معناه؟ أحياناً لا مناص من السفر الى المكان عينه، وأحياناً قد تأتي الأجوبة من الاطلاع على معارف عامة مختزنة في الكتب والمراجع، ولكنها غالباً ما تستعصي على البوح فلا تكشف سرّها من دون معاينة واختبار.
قبل أن نطأ أرض الجمهورية الإسلامية الإيرانية، من ضمن برنامج سياحيّ ثقافيّ إلى إيران نظِّمه البروفسور فكتور الكِك أستاذ الدراسات الإيرانية في الجامعات اللبنانيّة، كانت ايران بالنسبة إلينا عالماً مغلقاً على التفسير إلاَّ من خلال جملة من الانطباعات الموروثة حول حقيقة تلك البلاد، وأحسب إن الوعي بالهوية الثقافية للجمهورية الاسلامية الايرانية قد تشكلّ عند العديد من المثقفين المشرقيين من خلال روافد ثلاثة على الأقل :
رافد تربوي/تاريخي، تبرزه مناهج التعليم الرسمي حول تاريخ العلاقة الحضارية ما بين المشرق العربي وبلاد الآريين ايران والجذر اللغوي منها ariya والتي تأتي بحسب اللغة الفارسية القديمة مماثلة لمعنى «السادة» ، وما تحمله تلك العلاقة من صراع حضاري بين الأمم، منذ الملك الفارسي الأخميني داريوس الكبير 522-486 ق.م ، مروراً بالغزو العربي لبلاد فارس في القرن السابع ميلادي 661 م ولاحقاً الغزو التيمورلنكي في القرن الرابع عشر.
رافد سياسي/ايديولوجي، يقع في أول مبتداه مع انتصار الثورة الإسلامية الإيرنية بقيادة الإمام الخميني 1979 م والحرب التي نشبت بين ايران والعراق على خلفية سياسية معادية للثورة الإسلامية، ما استثار حينها 1980-1988 م الشعور القومي العربي ضد الشعور القومي الفارسي، فالحرب كما أطلقت عليها السلطة العراقية اسم قادسية صدام بينما عرفت في إيران باسم الدفاع المقدس بالفارسية: دفاع مقدس ، وبمعنى ما كان الوعي بإحداث هذه الحرب يُبنى على صراعين متناقضين: الدولة المدنية الحديثة مقابل الدولة الدينية، ما وضع ايران في خانة الدول المعادية للحداثة بمعناها المعاصر ظاهرياً على الأقل.
رافد إعلامي/دعائي، كرّسته صورة نمطية تداولتها وسائط الإعلام المقروء والمسموع ولاحقاً المرئي حول المشهدية العسكرية للإنسان الإيراني في وجهه العسكري مع أنموذج الحرس الثوري، الذي يُعرف باللغة الفارسية باسم باسدران ، والقول إنه يقف وراء إنشاء حزب الله في لبنان خلال الثمانينات من القرن الماضي، أضافة الى الصورة الإعلامية التي تبثها القنوات التلفزيونية عن الواقع الإيراني والتي تقتصر على عرض مظاهر التديّن الصارم من خطابات ومناسبات دينية وعروض عسكرية. بينما تغيب الربورتاجات الإعلامية عن الحضارة الايرانية وحقيقتها الثقافية الضاربة في أعماق التاريخ. وتتكفل قناة المنار اللبنانية بتأكيد هذه الصورة الدينية عن ايران كحقيقة غير متنازع عليها.
هذه هي الصورة النمطية التي حملناها في أذهاننا عن إيران، وتوقعنا قبل المغادرة أننا سنراها في بلاد فارس. لكن الحقيقة بما تُكشف لا بما تُقال. والواقع أصدق بياناً من الظن وأجلى.
كانت غايتي من هذا الحجّ المعرفي أن أقرأ بما أكتسبتهُ من عين الملاحظ كباحث أنتربولوجي عن واقع الحياة الإيرانية ومسارها المُعاش باحثاً عن مرتكزات وإشارات لما يعيشه الشعب الإيراني في ظل الثورة الإسلامية والتحولات التي أرستها تلك الثورة في حياة الإيرانيين.
وفي الحجّ كنت أبحث عن ذات في ذات، وأنا من طائفة المسلمين الموحدين الدروز ، وفي بنية وعيي يصدح صوت إيمان سلمان الفارسي، وكل إرث المتشيعين لآل البيت، علّني أقف على صلة وصلاة.
والى جانب الرغبة بالاستكشاف كانت متعة السفر التي جمعتني بأصدقاء ومعارف من ضمن جمعية معاً نعيد البناء وعلى رأسهم الأب الجليل مارون عطا الله منسّق هذه الرحلة، وما يعنيه من ثقة بما خبرته معه في أسفار سابقة.
برنامج الزيارة أمتدَّ على تسعة أيام خلال شهر تشرين الثاني 2014. المهمات موزعة مسبقاً على المشاركين بين تدوين يوميات وأعمال تنظيمية لترتيب المصارفات المالية وحجز الغرف وإحياء عملية التفاعل بين المشاركين وتأمين التواصل والنقل وقطع التذاكر، أضافة الى ترتيب اللقاءات مع بعض الجهات الثقافية والدينية في إيران. ولكل مهماته كما عادة الأب مارون في رحلاته.
بداية السفر كانت متعثرة مع انتظار امتدَّ لساعات بسبب تأخر موعد الطائرة التي ستقلنا الى طهران، فوصلنا ليلاً الى فندق في وسط العاصمة التي بدت هادئة وعلى طراز أي مدينة حديثة، لا مظاهر توحي بأن الملالي يجثمون على صدر المشهد الحياتي للناس، ولولا إفراط محموم في توجيه التنبيه الى النساء اللواتي رافقننا لضرورة وضع الغطاء على الرأس واللبس المحتشم لكان أستقبالنا للمدينة أقلّ حذراً وأكثر انفتاحاً.
الوصول الى طهران
طقس تشرين الجميل يمسح الفضاء بنسيم بارد مع أول تساقط للثلوج على جبال «البرز» المحاذية للمدينة شمالاً حيث تطلّ قمّة « دماوند» الأعلى في إيران مع ارتفاع 5.610 أمتار ، والتي يمكن مشاهدتها عياناً من الطابق العاشر في الفندق ذي الخمس نجوم، لاحقاً سنتمنى لو أتيحت لنا فرصة الاستمتاع بالثلج في ثلاثة من أهم المواقع العالمية المخصصة للتزلج على تلك الجبال حيث لا يكمُن مشهد الطبيعة البكر فحسب، بل تنطق الأسطورة التي تقول إنّه من على هذه القمّة، وقف «آراش» ليطلق سهمه الناري ويرسم به حدود إيران. أو كما تروي أسطورة أخرى زرادشتيّة أنّ التنين «آجير دهاكه»، ذا الرؤوس الثلاثة، قُيّد إلى قمّة «دماوند» حتى نهاية العصور.
تراتيل سريانية في عاصمة الجمهورية الإسلامية
أستهلينا يومنا الثاني بزيارة خاطفة صبيحة الأحد للمشاركة في قداس صباحي للكنيسة البروتستانتية في العاصمة، وإذ بنا نسمع تراتيل سريانية وبلكنة إيرانية واضحة، وفي غمرة الإيمان لا تبحث النفوس الا عن صفائها، هكذا يتلاقى الإسلام في ايران مع المسيحية في احترام ورحابة صدر لأهل الكتاب معتقداً وتمثيلاً سياسياً، فحقوقهم محفوظة في الدستور الايراني حيث علمنا أن للمسيحيين الأرمن مقعدين في البرلمان الايراني المكون من 270 نائباً، ومثل ذلك الأمر سنلمسه في زيارتنا وحوارنا مع غبطة بطريرك الطائفة الأرمنية الأرثوذوكسية التي يصل تعداد رعيتها الى 40 ألف مواطن لهم الحرية في إنشاء مدارسهم وممارسة طقوسهم وقوانينهم الخاصة من جهة الإرث والزواج والطلاق وحق تولي وظائف الخدمة العامة والجندية، وإن لحدود ما، ومن دون السماح لهم بالتبشير.
وفي حرم مبنى البطريركية أيضاً سنشاهد متحفاً أثرياً يضم التراث الديني والفكري الأرمني وما ساهمت به مطابعهم منذ القرن السابع عشر.
اليوم يبدو الأرمن أقلية من ضمن أقليات أخرى، يعانون بصمت وطأة وضعهم الديموغرافي ضمن أكثرية، شأنهم شأن كل الاقليات القلقة على مستقبلها من الإنقراض نتيجة هجرة الشباب وعدم جاذبية فرص العمل المتاحة أمامهم في بلادهم.
ولا بدّ لمن يزور طهران العاصمة من أن يأخذه الذهول من نظافة شوارعها، فالمدينة بملايينها الثلاثة عشر تعتبر من أنظف المدن في العالم، لا أوساخ في الساحات أو الشوارع، وإن تسأل عن السبب يأتيك الجواب من عالمٍ بأحوال تلك البلاد التي عايشها لمدة خمسين عاماً ونيف الدكتور فيكتور الكك فيقول: «الايرانيون شعب يحترم الملكية العامة. عايشت معهم الثورة الاسلامية فلم يقدموا يوماً على حرق إطار مطاطي أو هدم معلم حضاري أو تكسير واجهة زجاجية أو قطع شجرة في ملك عام. إنهم يقدسون الملكية العامة ويحرصون عليه «.
يتنهد محدثنا بعمق: أين نحن في لبنان من ذلك؟… يجيبه آخر: الا يقطعون الطرقات العامة احتجاجاً عند كل مناسبة مطلبية ويقفلون الشوارع؟… وتتعالى ضحكات منغصّة، ويا للمفارقة.
الحدائق في إيران
في طهران كما في بقية المدن التي زرناها تلمس علاقة الإنسان بالطبيعة، الأشجار التي تظللّ الشوارع في فصل الصيف الحار والحدائق الممتدة على مساحات شاسعة كما في «بارك ساعي» أجمل حدائق طهران التي تبلغ مساحتها 120082 متراً مربعاً ويدخلها المتريضون من ستة مداخل، حيث يُسمحُ ـ في مثل تلك الأمكنة ـ للروح المتأملة أن تكون في ذروة أحلامها، وأن تفتكر في لعبة الظلال مع الضوء، فكل لون هو عطر من نسيم ونور.
الأيرانيون يحرصون على التريّض في الأمكنة العامة، وفي قصور الشاه تشعر بأن للحدائق فلسفة هندسية كما هي الحال في نموذج شاهدناه في مدينة يزد لتصميم حديقة عامة أعيد تجديدها كما كانت عليه قبل 2500 عام. وفي كل حديقة يتعانق ماء النوافير والبرك المائية مع الوان الزهور وأشجار الرمان، وتسمع من الدكتور فيكتور شرحاً يبدأ بالإشارة الى الترابط اللغوي والتداخل بين اللغتين الفارسية والعربية، فيقول:» عندنا نسمي زهر الرمان جلنار، وهي بالفارسية چـنار وتلفظ بنطق الجيم المصرية «… ويستطرد في درسٍ أول عن المقارنة بين حروف اللغتين لنكتشف أن الأبجدية الفارسية تزيد بأربعة حروف عن الأبجدية العربية ذات الثمانية والعشرين حرفاً پ، چ، ژ، گ ، وأن لهذه الحروف مخارج صوتية تغطي ما ينقص حروف العربية من أصوات فونية عند لفظ كلمات أجنبية وكتابتها.
التفاعل اللغوي العربي الفارسي
وإن كانت قصة الحروف أول الحوار فلا بدّ من استزادة يضيفها استاذ اللغة الفارسية في الجامعة اللبنانية، وتبدأ بسلسلة من التوضيحات عن الألفاظ المقتبسة من اللغة الفارسية والمتداولة في لغة أحاديثنا اليومية: مثال تلك الكلمات أرطه وتعني الجيش بالفارسية، قطرميز / الوعاء الزجاجي، ليوان/ صالون، روزنامه، همشري وتعني المواطن، بقجة/ صرة توضع فيها الملابس، بقلاوة/ نوع من الحلويات، بنج /مخدر، بوسة/ قبلة، تازة/ طازج واللائحة تطول.
وهذا التمازج اللغوي يمكن رده الى أن اللغة الفارسية بقيت لغة الدوواين الرسمية حتى مطلع الدولة الأموية قبل أن تحلّ مكانها اللغة العربية كلغة رسمية للدولة، وأيضاً لطبيعة التجاور الجغرافي بين الفرس والعرب وما حمله هذا التجاور من علاقات تجارية وسياسية، ناهيك عن انتشار الإسلام في ربوع إيران منذ العام 651 م وموقع اللغة العربية ومكانتها الدينية بصفتها لغة القرآن الكريم.
وعن اللغة يضيف د. فكتور في حوار لاحق ضمن جلسة في باحة فندق عباسي الرائع في طهران فيذكر أسماء فكرية لامعة من أصول فارسية وذات أثر في تكوين معرفتنا باللغة العربية وإغنائها فكراً وشعراً وفلسفةً وتصوفاً أمثال: سيبويه ونفطويه والكسائي والفارابي وابن سينا، وأبو بكر الرازي والفيلسوف أبو حامد الغزالي والسهروردي، وأبو حيان التوحيدي، وعمر الخيام، وحافظ الشيرازي وفريد الدين العطار ومولانا جلال الدين الرومي والشفائي، وأبو بكر الخوارزمي العلامة الرياضي منشئ علم الجبر واللوغارتميات.
سيل من الأسماء المبدعة ذات الأصول الفارسية ساهمت في بناء ثقافتنا العربية، وسيل من الدهشة يرتسم على وجوهنا ونحن نسمع صوت الذاكرة حين تعي أن تشاركية الابداع بين الفرس وبلاد المشرق وارض الجزيرة كان على هذا المستوى من الفعل والمساهمة.
أستوقفتني تلك المعلومات مطولاً، وفي ملاحظة عابرة انتبهت الى معنى سؤال شابين جامعيين يدرسان اللغة العربية في أحد المعاهد الايرانية، توجها نحوي خلال زيارتنا مسجد الإمام في أصفهان ليحادثانني باللغة العربية وكلهما توق ليسمعا كيف يكون نطق اللغة العربية الفصحى بلسان صحيح، كذلك كان موقف احد الشيوخ الايرانيين حين ظنني كما بدا له من ملامحي أنني إيراني الهوية، فتقدم ليسألني باللغة الفارسية عن موعد إقلاع الطائرة، وحسبت أن بحفظه القرآن قد أتمكن من الحوار معه باللغة العربية، فأجبته بهدوء ونطق صحيح أنني لبناني ولا أعرف أجابة لسؤاله / كانت ردود فعله مربكة، حاول أن يتكلم بالعربية لكنه تراجع وقال بلكنة إيرانية : تشكرا.
افترقنا ولكنّ سؤالاً ما زال يشغل بالي: كيف لمن يحفظ القرآن بلغته العربية أن لا يتقن الحوار والتواصل بها؟ ما المفارقة التي يمكن أن يشعر بها؟… من ناحية أخرى وصلت الى أنطباع أوليّ أن النطق باللغة العربية هو امتياز مهم وموضع تقّدير عند الايرانيين وهم المعايشون يومياً لهذه اللغة في صلواتهم الخمس، وبَانَ لي وكأنما شعور بغصة ما يعترى هذا الجانب من وجودهم.
التواصل مع الناس
التواصل مع الايرانيين كان حافلاً بالترحاب والتكريم لكوننا من لبنان المقاوم… فما أن تذكر انك من لبنان حتى ترى البشاشة والانشراح على وجه من يحدثك، وقد استفدنا من هذه المزيّة في تسوقنا لبعض المنتوجات الحرفية اليدوية وبأسعار أقلّ من المعتاد. ولا تقتصر الحفاوة على ذلك، الايرانيون تواقون الى التعارف مع الآخرين بعد سنوات من الحصار الدولي لبلدهم، وهذا ما انعكس على ما يبدو في قطاع السياحة في إيران، حيث لم نلتقِ خلال زيارتنا الكثير من المعالم الأثرية في المدن الايرانية الا مع وفدين سياحيين فقط: الأول كوري والثاني ألماني.
ويصعقك مشهد المطار الخالي من الطائرات عشية وصولنا الى شيراز آخر المحطات في زيارتنا. والرغبة بالتواصل تبدو جلية لدى الشباب في إيران، أذكر حين اجتمعت عشرات الفتيات في حلقة حول زميلة لنا خلال زيارتهن السياحية للمسجد وقد جذبهن شالها الزهري وهنَّ المرتديات الجلابيب السوداء، وكم كانت لافتة تلك الطريقة في التواصل معها لأناقة ملبسها، الحوار ابتسامات متبادلة، بضع كلمات عربية مع بضع جمل إنكليزية ثم تبادل عناوين حيث تكتشف أن الفرح لغة لا تعرف وطناً إلا الجمال.
الزرادشتيون ومعابد النار في يزد
انتقلنا جواً بعد زيارة طهران الى مدينة يزد، مدينة من عمق التاريخ الايراني الذي يمتد الى أكثر من ثلاثة آلاف عام. الى جنوبها توجهنا لنقف على أقدم معنى للديانات التوحيدية قبل الابراهيمية، رأينا ابراجاً دائرية الشكل على قمم التلال يسمونها «دخمه» أو ابراج الصمت، يصلها القاصد عبر طريق ترابي كانت الى ما قبل اربعين عاماً خلتْ مكاناً يضع فيها الزرادشتيون موتاهم تحت السماء ضمن ثلاث دوائر، الدائرة الكبرى لدفن الرجال والوسطى لدفن النساء والصغرى لدفن الأطفال. ويتوسط البرج تجويف واسع لرمي العظام المتبقية بعد أن يكون لحم الموتى طعاماً للطيور الكاسرة، فالزرادشتيون يؤمنون بأن الدورة الطبيعة للفناء تتغذى من بعضها البعض حسب معتقداتهم وأن ليس لجيفة الانسان الميت اي امتياز بعد أن تغادرها الروح.
لكن هذا الاسلوب بالدفن وشعائره تغيّر بعد قيام الثورة الاسلامية وتكيّف الزرادشتيون مع المجتمع الذي يعيشون فيه وقيمه الاسلامية فأصبح دفن موتاهم داخل قبور وليس في عراء الابراج.
معبد النار المقدسة
وفي يزد لا تكتمل الزيارة من دون الدخول الى معبد النار المقدسة، النار المشتعلة في هذا المعبد تعود الى العام 1515 م. ولم تنطفئ من حينها فما زالت مشتعلة حتى الآن. علاقة الزرادشتيين بالنار قد يفهمها البعض على أنها عبادة وثنية، لكنها في عمق طقوسهم الدينية رمزاً لحضور إله النور، والديانة الزرادشتية ترشد المؤمنين بها الى اعتماد حسن المعاملة مع الناس والحثّ على العمران والزراعة والرعي واستيطان المدن، واحترام الحيوانات لا سيما الكلب والبقرة، ومرتكز أصول تعاليمهم في ممارستهم لمعتقداتهم: القول الحسن، والعمل الصالح، والفكر الحسن.
أكثر ما شدّ أنتباهي في تلك الزيارة هو في ذلك القبول الذي تلقاه تلك المعتقدات في حاضنة التشييّع الاسلامي، فلا تكفير ولا نقمة بل حرية معتقد وإعتقاد، كما يظهر في احتفال الايرانيين بعيد السنة الفارسية الجديدة، «عيد النوروز» الذي يمتد تاريخه إلى آلاف السنين ويعني حرفياً عيد «اليوم الجديد». عندما يتغلّب ضوء النهار على ظلام الليل، وتتجدَّد الطبيعة وينسدل القديم المتعب، والموافق للإعتدال الربيعي في 21 آذار تاريخ بدء السنة الفارسية.
ولعيد النوروز طقوسه الاحتفالية التي تستمر طيلة ثلاثة عشر يوماً وتعّم الشعب كله، ويمكن اعتباره عيداً قومياً في ايران حيث يخرج الناس الى أحضان الطبيعة للاحتفال وتناول الطعام، وتلجأ ربات البيوت الى تلف الأشياء القديمة والتخلص منها أملاً بالفرح والتجدّد .
ثقافة عيد النوروز تعيد تشكيل الوعي الجمعّي للإيرانيين، وطقوسه توحّد الناس ضمن هوية ثقافية متساوية الامتداد في فضاء عالمهم. لذلك لم نستغرب كيف أن الإمام الخميني عندما طرح على الشعب مسألة إلغاء الاحتفالات بهذا العيد كان ردّهم برفض الاستفتاء والنزول الى الشوارع احتجاجاً. فالأمر في جوهره يمسّ عمق تاريخهم الحضاري، والثقافة الإسلامية في محاولتها لإحداث القيود لتوحيد الجماعة في مجموعة ثقافية واحدة تحت راية الإسلام ومعانيه لم تستطع فكَّ ارتباط الجماعة بالمتخّيل الذي يوحدهم رمزياً في فضاء ثقافي واحد. فهل يمكن للإكراه والتقاليد المخترعة أن تجففّ منابع الأساطير الراسخة في وعي الشعوب؟.
ربما تحدّ من حضورها ولكنها لا تستطيع ان تلغيها من تراثها. والنوروز مثال على هذا التراث الحيّ، ومن الأساطير التي تروى حول أصوله ما جاء في كتاب الملوك «الشاهنامه» الذي كتبه في القرن الحادي عشر الشاعر الفارسي الكبير، الفردوسي، وعرض فيه تاريخ إيران الأسطوري التاريخي القديم في أبيات من الشعر، وفيه يعيد أصل السنة الفارسية الجديدة إلى عهد الملك جمشيد، الذي يرد في مصادر زرادشتية أنَّه أنقذ البشرية من شتاء قاتل. وإضافة إلى ذلك بنى جمشيد عرشاً من الأحجار الكريمة وجعل الجنّ يصعدونه إلى السماء. وبحسب الأساطير الإيرانية فقد تجمعت جميع المخلوقات الدنيوية وأُعجبت بهذا «الصعود»، وأطلقت على هذا اليوم اسم «النوروز». وكان هذا في اليوم الأوَّل من شهر «فروردين» – الشهر الأوَّل من التقويم الفارسي.
نخرج من معبد النار الزرادشتي، وبينما نحن بانتظار الحافلة، نقف تحت ظلال أشجار الدلب Platanus بأوراقها ذات الشعب الخمس، وإذا بأحد ممن كان دليلنا يهمس في أذني قائلاً: «هذه الشجرة وشكل الاوراق التي تحملها لها دلالة دينية عند أهل التشيّع»، يشرح لي تأويله فيما يتحرك وفدنا المؤلف من أربعين شخصاً لزيارة أمكنة أخرى، نصعد الحافلة، ينقطع الحوار وفي البال تبقى حكاية عن باطنية تضفي على الظاهر تأويلها الخاص، كما في تلك القصص التي تابعتها مع محدثي لاحقاً عن رمزية إعداد الطعام في المأدبة الخاصة بالعائلة الفارسية وما تحتويه من أصناف وألوان تتوافق مع الحدث الديني والمناسبة. ولهذا مقام لا يتسّع له هذا المقال.
وتكفي الإشارة أن لدى الايرانيين من غنى مأدبتهم ما يجعل من طرق إعداد الخبز ما يصل الى 19 نوعاً مع ميل الى تنكيه الطعام بالبهارات اللاذعة احياناً، واللافت غياب عادة شرب القهوة وقلة تداولها بينهم ليكون الشاي بأصنافه مع أنواع السكاكر المقرمشة ضيف الجلسات وأوقات الاستراحة، وبالتأكيد فإن الزعفران لا يغيب عن أنواع طعامهم حتى ولو كان في إعداد البوظة.
الرغبة بالتعّرف يلجمها الوقت المحدود لزيارتنا، والتوسّع بالبحث يلزمه وقت لا نجده كافياً، فالأسرار تبقى في الحميم من تجارب المعيش وليس للعابرين مثلي سوى أن يتلمسوا.