السريالية في كاريكاتور الشهيد ناجي العلي

عبد الحليم حمّود

بعد رحلة طويلة لفنّ الكاريكاتور مع الكلاسيكية كقالب، والالتزام بقواعد الأبعاد والإضاءة والتركيز على الحرفة والصوغ، والمعالجة المبسّطة للمواضيع والأحداث، التحق الكاريكاتور مع باقي المدارس التشكيلية للخروج من عباءة الأكاديميا نحو فضاء أرحب. وكان ذلك على خلفية اختراع آلة التصوير الفوتوغرافي، التي أخذت تقوم بدور الرسّام وبدقة النسخ، وهو الدور الذي كان ينتهجه الفنّانون في لوحاتهم.

هذا الوضع حرّر الريشة من دورها التاريخي في التسجيل والتأريخ، ما دفع بعدّة أسماء بارزة إلى كسر الصنمية في الشكل نحو جديدٍ سُمّي بـ«التأثيرية». ومن هؤلاء نذكر: مونيه، ورينوار، وديغا، وبيسارو وسيزان، والأخير انحاز إلى التوليف الهندسيّ في تركيب عناصر اللوحة وتوازناتها اللونية والخطّية، وتركيزه على البناء وهدوء التعبير.

يعتبر سيزان الضابط الأول الذي قاد حركة تشكيل ما سُمّي بـ«الفنّ الحديث» في ما بعد، وهناك أسماء أخرى لا تقل شأناً مثل: فان غوخ، وغوغان، ولوتريك، على رغم التناقض الظاهري في مسيرة كلٍّ منهم وأسلوبه.

أنجبت هذه الأسماء عشرات الفنانين المجددين. لكن الأكثر تغييراً وتأثيراً كان مايتس، ثم بيكاسو وبراك، ثمّ فُتحت البوابة وعبرت التيارات والمدارس والرؤى المتنوعة والتي تداخل فيها ما هو فكريّ بما هو تقنيّ، لتصبح بعض المدارس الفنية تيارات سياسية أو فلسفية.

من أبرز هذه المدارس كانت السريالية. وهي مدرسة ولدت من رحم الدادائية، واعتمدت على نظريات فرويد في التحليل النفسي وعناوينه: الوعي، اللاوعي، الحلم، الهذيان… إلخ.

دعت السريالية إلى الآلية في الكتابة والرسم لاستخراج مكبوتات النفس مع الاعتماد على القوالب المدهشة وأحياناً الساخرة. واستعار فنّ الكاريكاتور من السريالية خاصيّة كسر كل المحرّمات بعدما كان الكاريكاتور قد أعار الفنّ التشكيليّ رشاقة الحركة والمبالغة في التعبير وترجمة الأفكار.

من هنا، يمكننا القول إن فنّ الكاريكاتور قد أثّر بالسريالية بقدر ما أثّرت السريالية فيه.

أما عند ناجي العلي، فلم يكن الأمر يتعلق لا بسريالية ولا بغيرها، بل هو التمرّد الفطريّ الذي يملكه في أصل تركيبته الشخصية. فكانت أعماله بمثابة احتجاج على صنمية الكاريكاتور وصمته فكراً وخطّاً. حتى في تلك الرسوم التي صنّفت متمرّدة على الإيقاع الرتيب والأفكار المستنسَخة.

حملت أولى رسوم ناجي العلي شيئاً من الانفصام في الشخصية، فهي تأرجحت بين أجواء الكاريكاتور اللبناني، بفعل تأثير المخزون البصري والمتابعة اليومية لرواد هذا الفن من خلال الصحف اللبنانية ورسّاميها بيار صادق، جان مشعلاني، ملحم عماد، نيازي جلول، محمود كحيل… ، ما أرسى لهذا الأسلوب مكانة في «لا وعي» ناجي العلي الذي كان، ومن خلال «وعيه» ـ هذه المرة ـ يسعى إلى الاطّلاع على رسوم روّاد التجديد في مصر، الذين هم أقرب إلى طبيعته المتمرّدة المشاكِسة، المعترِضة على الطواطم الثابتة والقوالب الجامدة. علماً أن الشكلين لم يحضرا مباشرة في رسومه، بل من خلال بعض العناصر البنيوية العامة.

في ما بعد، ظهر انفصام آخر في أفكار ناجي الكاريكاتورية، وهو أكثر حِدّة من سابقه. فقد طرح العلي رسوماً ذهنية تأمّلية ذات منحى فلسفيّ غرافيكي سوداوي، وبنَفَس راقٍ وطليعيّ يتناغم إلى حدّ بعيد مع أجواء السريالية.

ومن جهة أخرى، اعتمد ناجي التبسيط ـ الزائد أحياناً ـ لمخاطبة شريحة أوسع، وقد نجح في ذلك من دون شك على قاعدة السهل الممتنع. لكنه من وقت إلى آخر، كان يجنح نحو مرادفات الملصق البوستر . وفي أحيان أخرى نحو الخطابة المباشرة على وزن «يا راكعين لأميركا أنا بريء منكم». لكنّ رسوم ناجي العلي بالمجمل استطاعت المشي على الخطّين من دون وقوع يذكر.

بالعودة إلى بصمات السريالية على رسوم ناجي العلي، نسجّل التقاء كاريكاتوره مع سريالية الفنان البلجيكي رينيه ماغريت لناحية الهدوء في مناخ الخطوط والصخب في الدهشة التي تفجّرها هذه البساطة. والأمثلة عند ناجي كثيرة: الورد الذي ينبت في نعش، سكة الفلاحة التي تحرث الأرض من خلال حبل موصول بينها وبين صاروخ، السنبلة التي تنبت من الأسلاك الشائكة، القبضة التي تعصر الحجر، حبل السرّة الذي يتحوّل إلى مشنقة، العين التي تتحوّل إلى سمكة، ضفيرة الطفلة التي أصبحت شريطاً شائكاً، تحوّل الشعر إلى علامات استفهام، النبتة التي تخرج من اليد، سكة القطار التي أصبحت صليباً، المعكرونة التي صارت مشنقة، الرقعة التي تغلق العين، بزّة الفقير الفدائيّ المرقّطة بالباذنجان والملفوف والفجل والكوسى، الكرسيّ بأقدام آدمية، أصابع القدم التي تتحول إلى نبتة صبّار، تحوّل النعش إلى طاولة زهر، تحوّل النعش إلى منفضة سجائر، الجرس الملفوف بضمّادات، النظّارة ذات الزجاجة الواحدة، القبعة الغربية التي تقع وتنكسر على الأرض، العكّاز على شكل مفتاح معّلبات، تحوّل دوّاسات السيارة إلى وجوه، أصابع اليد على شكل نار مستعرة، الأنف على شكل حذاء، الخوذة والرأس تتحوّلان إلى سلحفاة، العينان على شكل عود ثقاب، ولادة الطفل بالجلد المرقّط، البركان الذي يتفجّر وروداً، الفم على شكل سكة قطار… إلخ.

وكنموذج عمليّ يصوّر نقطة التقاء السريالية مع كاريكاتور ناجي العلي، نستعرض لوحة ماغريت المسمّاة «الموديل الأحمر» والمرسومة عام 1937. تمثل هذه اللوحة قدمين آدميتين على شكل حذاء، وإلى جانب الحذاء قصاصة صحيفة حوّلها في ما بعد إلى منحوتة ، وقد قام ناجي باقتباس هذا الرسم ـ وهي حالة نادرة ـ وقدّمه حرفياً وعلى الصحيفة عبارة قرارات القمة Sold .

إذا استثنينا هذا المثل، نستطيع القول إن السريالية عند ناجي العلي تحمل خصائصها وشخصية ناجي وقضيته ورموزه من دون أي استلاب أمام أحد، غربياً كان أم شرقياً. وهذه الخصوصية هي التي حافظت على هذه الاستمرارية لرسومه، علماً أن ناجي العلي وقبل فترة من اغتياله، عبّر أمام عدّة أصدقاء عن تمنّيه لو يصعد الناس إلى رسومه لا أن تنزل هي إليهم.

فنان تشكيليّ وشاعر ومؤسّس جمعية «حواس»

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى