محور المقاومة من تثبيت الوجود إلى رسم الفضاء الاستراتيجي
العميد د. أمين محمد حطيط
عندما انطلقت المقاومة في لبنان لتحرير الأرض التي احتلتها «إسرائيل» عام 1982 وقبله، استخف البعض بها وقال البعض الآخر فيها ما لم يقله مالك في الخمر، وقلة في البداية انطلقت عاقدة العزم على المواجهة وبذل التضحيات من أجل تحقيق المهمة الوطنية السامية: «التحرير». في حين اتجه النظام الرسمي اللبناني كما هو حال النظام الرسمي العربي بمعظمه، نحو الاستسلام لـ«إسرائيل» وقبولها ضمناً أو صراحة وعقد اتفاقيات السلم والإذعان لها.
انطلقت المقاومة الشعبية في لبنان متعددة في عقائدها متوحدة في أهدافها، لا تبتغي لنفسها مصلحة أو سلطة أو مكسب، وجل ما تريد هو أن تحرر الأرض وتثبت السيادة الوطنية عليها. وبعد 18 عاماً من العمل الجاد الذي تقلب كراً وفراً، تمكنت المقاومة التي وجدت في سورية ظهيرها وفي إيران عمقها الاستراتيجي تمكنت من إنجاز معظم المهمة. وفي مثل هذا اليوم منذ 15 عاماً حصدت المقاومة ما زرعت في أرض الجنوب تحريراً وسيادة من غير ارتهان أو تنازل، وسجلت في ذاك العام 2000 أول هزيمة تامة لـ«إسرائيل»، والأخطر من الهزيمة ذاتها بالنسبة للعدو كان إرساء «نظرية المقاومة التي تنتصر»، والشعب القادر على الانتصار. وتفاقم هول الكارثة على «إسرائيل» ومن يحتضنها نظراً لحصوله في حقبة من الزمن كانت أميركا قد انفردت على المسرح الدولي كقوة عظمى وحيدة تصوغ للعالم نظاماً كونياً يحكمه قائماً على الأحادية القطبية.
لقد كان نصر العام 2000 أبعد من حدث محلي أو إقليمي، ولامس لا بل شكل تحولاً استراتيجياً في معرض مواجهة المشروع الغربي الاستعماري، خصوصاً أن العالم كله تقريباً استسلم لأميركا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانقضاء الحرب الباردة وسقوط معادلة «التوازن الدولي والردع المتبادل». وهنا وجد صاحب المشروع الصهيوأميركي نفسه أمام خيارين، إما تقبل الخسارة وإعطاء المحور الممانع للهيمنة الاستعمارية والمحتضن للمقاومة المنتصرة حقه من حرية وسيادة، أو سحق هذا المحور وإفراغ انتصاره من مضمونه وتأديبه بما يردع غيره من تكرار التجربة وتحدي الاستعمار.
وبعنجهيتها وتكبرها اختارت أميركا الحل الثاني، وقررت فرض نظامها الأحادي بالقوة، وترجمت القرار حروباً متتالية من الخليج إلى أفغانستان إلى العراق إلى لبنان ثم غزة. ولكن تلك الحروب لم تحقق أهدافها، حيث أن مكونات محور المقاومة من دول وتنظيمات استمرت ثابتة على مبادئها متمسكة بقوتها الميدانية تعمل على تطويرها باضطراد. وكان الحريق العربي بالنسبة لأميركا هو آخر العلاج، فشنت حرباً كونية على الحلقة الوسطى من محور المقاومة سورية ، واعتبرت أن تدميرها يعني «تفكيك» المحور في مرحلة أولى ثم «سحق» الحلقات المفككة تباعاً كل بطريقة ووسيلة تناسب طبيعتها، مع تعدد الخيارات والوسائل بما في ذلك المحاكم الدولية والقضاء الجزائي الدولي ولهذا أنشأت محكمة الحريري .
وكما ثبتت المقاومة واستمرت على رغم التشكيك وحققت التحرير، فإن محور المقاومة من إيران إلى سورية وحزب الله في لبنان ثبت أيضاً خلال الأعوام الـ 15 الماضية، وأكد قدرته على الاستمرار على رغم كل أنواع الحصار والعقوبات والعدوان العسكري والحروب البديلة وفنون الحرب باستراتيجية القوة الناعمة والإرهاب. وبات من المؤكد لدى أميركا قبل غيرها أن النظام العالمي الأحادي القطبية نظام غير قابل للولادة والحياة، وأن العالم لن يسوده ألا نظام تعددي قائم على «المجموعات الاستراتيجية» المتعددة الصيغ والأساليب بدءاً من الأحلاف أو المحاور العميقة الارتباط، إلى منظمات التنسيق والتعاون، أو مجموعات التفاهم وتبادل المصالح.
هنا وفي ظل القناعة الأميركية والإقرار الدولي العام بعجز أحد عن إلغاء محور المقاومة وتفكيكه أو تهميشه، بدأ التحول الدولي في التعاطي العام مع مكونات المحور، بدءاً بالقرار الغربي بإيجاد مخرج سياسي للملف النووي الإيراني، ثم التصريح العلني بأن أزمة سورية لا تحل عسكرياً ولا بد من حل سياسي لها، والتسليم في لبنان بموقع ومرجعية حزب الله في المعادلة السياسية الداخلية وأهمية عمله العسكري دفاعاً عن لبنان باعتباره مكوناً رئيسياً ترسى عليه الاستراتيجية الدفاعية اللبنانية في شكل واقعي لا يمكن أحداً أن يتخطاه.
مع هذه الحقائق نتج واقع إقليمي جديد تكرس فيه وجود محور المقاومة باعتباره إحدى المجموعات أو المحاور أو المكونات الاستراتيجية التي حجزت لها موقعاً في المعادلات الدولية في ظل نظام عالمي جديد قيد التكون. ومع هذه الحقيقة بات يبدو صغيراً ما قد يحدث في الميدان من مناورة تفرض تقدماً معيناً هنا أو تراجعاً محدوداً هناك، لأن هناك ثابتة باتت نهائية قاطعة بالنسبة لخصوم محور المقاومة وأعدائه، ثابتة مفادها أن هذا المحور يملك من القدرات العسكرية ما يجعل وجوده نهائياً دائماً وكل كلام آخر يكون مضيعة للوقت.
أما محور المقاومة الذي اطمأن إلى هذه النتيجة أي «تثبيت الوجود»، كما عبر مؤخراً الرئيس بشار الأسد معتبراً أن المحور بات حقيقة قائمة لا يمكن تجاوزها في السياسة الدولية أو الإقليمية، أن المحور كما يبدو لم يكتف بهذا الإنجاز الاستراتيجي الضخم، بل انه ومستفيداً من قدراته وإنجازاته الميدانية وغير الميدانية، وعملاً بالمبادئ التي قام عليها المحور والمقاومة بذاتها أي التحرير وتعاضد المظلومين، لكل ذلك انطلق المحور بعد تثبيت الوجود إلى مواجهة من نوع آخر، هي معركة رسم فضائه الاستراتيجي الحيوي بما يحفظ المحور في مبادئه وأهدافه ويؤمن للمنضمين إلى هذا الفضاء فرص الحرية والسيادة والاستقلال الحقيقي التي تتمتع بها الدول المكونة للمحور.
وبهذا المنطق تحدث مسؤولون إيرانيون وذكروا بيروت وصنعاء وبغداد باعتبارها عواصم لدول تنشد الاستقلال الحقيقي وترفض التبعية وتقاوم الهيمنة، حديث فهمه أو حرفه أعداء المقاومة أو دعاة التبعية الاستعمارية وفسروه في غير مقاصده. ففي محور المقاومة لا يوجد تابع ومتبوع ولا يوجد سيد وعبد كما هي الحال في التكتلات الاستعمارية وما تهيمن عليه، بل في محور المقاومة سادة أحرار متساوين في التمتع بقرارهم المستقل بما يحفظ السيادة الذاتية، ويفعل القدرات بتراكمها وتعاونها، بالتالي يكون بناء الفضاء الاستراتيجي الحيوي للمحور كله لهذا الغرض خلافاً لما يروج له أشخاص السوء من تسميات من قبيل إمبراطورية فلان أو مملكة غيره.
وعليه فإن محور المقاومة المطمئن إلى نجاحه في تثبيت وجوده المعترف به كمجموعة استراتيجية دولية في نظام متعدد المجموعات الاستراتيجية بات اليوم في مواجهة مرحلة جديدة هي مرحلة بناء الفضاء الاستراتيجي الحيوي الذي يفعل الوجود ويمد دول أخرى بالقوة والطاقة التي تمكنها من الحرية والاستقلال وتؤهلها للانضمام الطوعي لمحور المقاومة من غير أن يكون هناك ارتهان أو تبعية على غرار النمط الاستعماري الاستبدادي.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية