الآثار صناعة وتجارة…
د. عصام نعمان
الآثار شهادة مادية وفنية على عظمة الأمم والحضارات. الأمم العظيمة في التاريخ صنعت أمجادها بعمرانها وإنجازاتها الحضارية كما بفتوحاتها وما تركته من آثار تدلّ عليها. لذلك فهي تغيب ولا تموت إذ تترك وراءها من الماضي التليد ما يذّكر بها في الحاضر المجيد.
الأمم الحية حريصة، غالباً، على إثبات عراقتها بالمحافظة على تراثها وكشف كنوزه وتظهير ما خفي من آثاره. بذلك يمتدّ ماضيها في حاضرها ويؤشر إلى أرجحية استمراره في مستقبلها.
عالم العرب يغصّ بآثار أمم غابرة وأخرى غائبة إنما حاضرة بما يدل على عظمتها. آثارها الباقية شهادة على عظمتها واستمرار حضورها الناعم والمؤثر في عالمنا المعاصر. العراق ينوء بآثار حضارة آشور وبابل، ولا سيما الكلدان المسيحيين. سورية متخمة بآثار الإغريق والرومان. مصر، حيث أقدم الحضارات، غنية بآثار الفراعنة. ليبيا وتونس تزدهيان بثروة من الآثار والدوارس الرومانية. غير أنّ كلّ الأمصار والأقطار في قارة العرب يضج بآثار حضارة الإسلام وتراثه الثري في مختلف ميادين الحياة.
الآثار، إذاً، شواهد على صناعة العمران في مختلف العصور والأزمان. غير أنها تحوّلت بفعل أطماع بعض الدول والجماعات إلى تجارة رابحة، متعدّدة الجنسية، عابرة للحدود السياسية والثقافية. ذلك أن الدول الأوروبية الكبرى التي فاضت باستعمارها عالم العرب والمسلمين منذ مطالع القرن التاسع عشر، حرص قادتها العظام كما لصوصها الكبار على سرقة آثار وكنوز حضارية لا تقدّر بثمن لإيداعها متاحف بلدانهم، أو تثبيتها في ساحاتها العامة، أو حتى عرضها في قصورهم الزاهية. إن جولة واحدة مدققة في المتحف البريطاني أو متحف اللوفر الفرنسي كافية لإعطاء السائح المدقق فكرة واضحة عن هذا الموضوع.
في القرن الحادي والعشرين، أضحت سرقة الآثار والإتجار بها استثماراً عالي الربحية يضاهي عمليات «تبييض الأموال». أذكر أنني قرأت مقالاً في «غارديان» البريطانية على ما أظن يوضح بالتواريخ والأسماء تفاصيل تأليف جماعة من لصوصٍ محترفين ومدربين وخبراء آثار أكفاء، جرى نشرهم مع الجيوش الأميركية التي اجتاحت العراق عام 2003 للسطو على المتاحف ومواقع الآثار في العراق ونقل موجوداتها الثمينة إلى أوروبا وأميركا للإتجار بها.
اليوم يتكرّر غزو الآثار في كلّ من العراق وسورية إنما في سياق مغاير. ذلك أنّ تنظيمات إسلاموية سلفية متطرفة تقوم، سنداً لمعتقدات دينية مزعومة، بتدمير مختلف مظاهر الآثار من معابد وتماثيل وأصنام ومنحوتات وتظهير فعلتها إعلامياً على أنها برهان ساطع على التزامها تحطيم كلّ وثنية وصنمية منافية للإسلام الحنيف.
غير أنّ فعل التدمير الديني كان مصحوباً دائماً بفعل سطو «علماني» من لصوص محترفين عاملين في خدمة تلك التنظيمات، وربما غيرها من المؤسسات المعنية بتجارة الآثار. بعبارة أخرى، إن وضع اليد على المواقع الغنية بثروات من الآثار المهيبة، إنما كان لدوافع اقتصادية بالدرجة الأولى تجرى تغطيته بادعاءات دينية. فقد بات واضحاً أن التنظيمات الإسلاموية المتطرفة الناشطة في العراق تتموّل وتتسلح بثلاث طرق: بيع مسروقات الآثار في مختلف أسواق العالم بمبالغ خيالية، وبيع منتجات آبار النفط والغاز التي يجري وضع اليد عليها واستثمارها، والاستيلاء على أسلحة ومخازن السلاح العائدة لفرق الجيش العراقي التي تهزم أو تستسلم أمام قوات التنظيمات الإسلاموية المتطرفة. أليس هذا ما حدث في الموصل وأخيراً في الرمادي؟
الأمر نفسه يتكرر اليوم في مدينة تدمر السورية الغنية بالآثار كما بآبار النفظ والغاز القريبة منها. فقد تمكّنت القوات الإسلاموية المهاجمة من وضع يدها على مواقع النفط والغاز كما على مواقع الآثار بعد سيطرتها على المدينة.
المدير العام للآثار والمتاحف في سورية وجّه نداء إلى العالم، ولا سيما إلى منظمة الأونيسكو لإنقاذ آثار تدمر من التدمير. النداء جيد ومطلوب من الناحيتين الإعلامية والثقافية، لكن لا مردود عملانياً له لأن لا وجود عسكرياً للأونيسكو على الأرض. ولا أعتقد أن أي مسؤول سوري يتوقع، أو يريد أصلاً، تشكيل قوة دولية لنشرها في مواقع الآثار السورية للذود عنها.
هذا مع العلم أن فعل السرقة تجرى تغطيته بتدمير بعض التماثيل والنُصُب والمنحوتات، وتمويه الجرم بحرق بعض المكتبات والمخطوطات الإسلامية بدعوى تعارضها مع قيم الإسلام الحنيف… أي مع مفاهيم تنظيمات العنف الأعمى القائمة بأعمال الاستيلاء والتدمير.
إذا كانت الآثار شواهد على عظمة أمم وحضارات غابرة أو غائبة، فإن آثار التدمير التي تخلّفها تنظيمات العنف الأعمى وراءها شواهد ساطعة على «عظمتها» هي في القرن الحادي والعشرين.
وزير سابق