بين ثقافتين… «لقد كنّا نتكلّم لغتين»!

نصّار إبراهيم

كي لا نواصل الدوران حول ذاتنا كـ«حمار الساقية»…! ثمّة فرق شاسع وحيويّ بين العمق والنقد الحاسم والوضوح، وبين المجاملات و«الميوعة» الثقافية. مشكلتنا أننا تشرّبنا ثقافة المجاملة حتى أصبحت جزءاً عضوياً من الوعي العام والسلوك. ففي حين يكون الإنسان في جلساته الخاصة أو بينه وبين نفسه ناقداً شرساً للواقع ويطلق النار في كل اتجاه، إلا أنه حين يقف أمام الحشد، ينسى ويتقمّص خطاباً مختلفاً تماماً، ومتناقضاً تماماً. فيصبح واعظاً من الطراز الأول، عقلانياً ومدّاحاً ومغتبطاً بالواقع.

قد يكون ذلك مقبولاً عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الاجتماعية، لكن ذلك سيكون بمثابة الكارثة عندما يمتد الأمر ليشمل حقل الثقافة والمثقفين. فالثقافة أصلاً قوة نقد، عملية هدم وبناء لا تتوقف ولا تجامل. إذ لا يمكن التأسيس للبديل الاجتماعي الثقافي السياسي من دون زلزلة الواقع القائم من أركانه، ولو استدعى الأمر تحطيم «الأصنام» القائمة والصدام الحاسم مع الوعي السائد، وغير ذلك هو تكريس للركود الذهني وغيبوبة الوعي الجمعي والرضى المحزن عن الذات. ما يحوّل الفعل الثقافي إلى خطاب وظيفته تبرير الواقع ومجاملته وتجميله.

يبدو أن ذلك أسلم للرأس طبعاً، عدا عن غواية الاستسلام للثناء من منظومة الإخضاع والطاعة المباشرة وغير المباشرة، إلا أن استيطان هذه الممارسة في ذات المثقف، تطيح رأس الثقافة النقدية الحاسمة من أجل حفنة من الخرز الملوّن. إنها تطيح ثقافة البديل المشاكس صعب المراس، المتعب والخطير والمتحدّي. والاكتفاء بمغازلة الواقع القائم وإشاعة حالة من الرضى عن الواقع والذات فتغذيها بخطاب يبدو رومنسياً لكنه في جوهره عام، سطحيّ وساذج. خطاب رخو يهتز ويسقط ويتلاشى لدى مجابهة تناقضات الواقع التي لا تجامل أشباه الثقافة. هذا السلوك هو بالضبط ما عناه أبو القاسم الشابي بقوله: ومن لا يحب صعود الجبال

يعش أبد الدهر بين الحفر ولتوضيح الفكرة، تذكرت ذلك الحوار العميق الذي ساقه فلاديمير إيليتتش أوليانوف لينين في كتابه «خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء»: «لا أستطيع الامتناع عن التذكير في هذا الصدد بالحديث الذي حصل في المؤتمر مع مندوب من الوسط. قال لي شاكياً: أي جوّ ثقيل يسود في مؤتمرنا! هذا الصراع الضاري، هذه الدعاية التي يقوم بها بعضهم ضد بعضهم الآخر، هذه المناظر العنيفة، هذا الانعدام للرفاقية. فأجبته: ما أروع مؤتمرنا! صراع سافر وحرّ، الآراء برزت، التلاوين ارتسمت. الفِرَق توضّحت. الأيدي ارتفعت. القرار اتُّخِذ. ها هي ذي مرحلة مقطوعة. إلى الأمام! هذا أفهمه! هذه هي الحياة. هذا أمر يختلف كلّياً عن المجادلات المملة اللامتناهية التي يمتاز بها المثقفون، والتي تتوقف، لا لأن المسألة قد حُلَّت، بل بكل بساطة لأن المتجادلين قد تعبوا من الكلام… وكان الرفيق من الوسط ينظر إليَّ مدهوشاً، ويهزّ كتفيه. فقد كنّا نتكلم لغتين» فلاديمير إيليتش لينين خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء 1904 . الجدال أعلاه يوضح ما قصده غرامشي بقوله: «إن كل جماعة اجتماعية تظهر إلى حيّز الوجود في عالم الإنتاج الاقتصادي، إذ تؤدي وظيفتها الجوهرية، تخلق معها عضوياً شريحة أو أكثر Strata من المثقفين، تمنحها التجانس والوعي بوظيفتها، لا في الميدان الاقتصادي وحده، بل في الميدانين الاجتماعي والسياسي أيضاً. فالمنظم الرأسمالي يخلق إلى جانبه الفني في الصناعة، والمتخصص في الاقتصاد السياسي، ومؤسسو الثقافة الجديدة، ومبدعو النظام القانوني الجديد، الخ». غرامشي، 1978 . بهذا المعنى، لا يعود التعريف العام للمفهوم كاف، الأمر الذي يثير تلقائياً السؤال حول أيّ ثقافة نقصد في كل مرحلة؟ وتلقائياً السؤال حول دور الثقافة والمثقف: وهل يتحدد دورهما في الدفاع عن الواقع القائم، أم تعزيز الثقافة البديلة؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى