فصول من رواية

زينب فياض

باغتها صديقها الجامعيّ: «كان التلصّص في صغركِ رحلة لتبحثي عن ذاتكِ؟». أجابته ببرودة بعدما أغلقت الكتاب الذي تحمله بين يديها: «كلا، رحلة لأفقد الأشياء».

نظر إليها مندهشاً: «أيّ أشياء؟».

تجيب: «مثل أن أفقد ذاكرتي عند كل زاوية، أهرق دماء الذاكرة حيث أقتلها عند كل منعطف، أعبث بجسد أفكاري فلا أعود أنا. أصبح أمراً آخر غير ذاتي الملعونة المسكونة بندوب عميقة مؤلمة، وأكون أرواح غيري. كيف نصبح غير ما نحن عليه! نتسكع بأروقة الذاكرة نغتال كل ما هو موجع، نصّفي الروح من دمائها الملوثة، وفي نهاية المطاف، ندفن آلامنا علّنا نصبح كائناً جديداً بلا زمن ولا مكان».

«تضحكني أفكارك المعجونة بالخرافة»، ينهي صديقها جملته بابتسامة ساخرة، فتنظر إلى عينيه علّها تجد آثار الضحك، فلا تبصر سوى هلع مخبّأ فيهما يتوارى خلف سياج ضحكته. فيتابع كلامه ويشيح بنظره عن عينيها: «حسناً، قبل أن تبدأي رحلة فقد الأشياء، كيف لهذه الأشياء أن استوطنتكِ؟».

أعادت فتح الكتاب الذي ما زال بين يديها وأردفت قائلة: «آثرت على نفسي أن آخذ دور الأبنة البارّة، أنظّف أثار موتهم اليومي المتكرر وبقاياه في الحمامات حيث يغسل كل منهم بصمات ذنوبه، في المطبخ حيث يعجن الجميع أحلامهم الميتة … أُجمّع بالخرق البالية كل ما يلقون به، ليس كل ما يرميه الآخرون سيئ. هناك ما يمكن أن نلملمه، يمكنني أيضاً التلصّص على بقاياهم الموؤدة».

أعطته الكتاب المفتوح وقالت له: «اقرأ»!

لم يفهم صديقها شيئاً مما قالته، ظهر ذلك على وجهه الباهت الشارد ولكنه تناول الكتاب وأخذ يبحث عمّا تريد رحيل أن يفهمه. حتى أقرب الناس لنا قد لا يفهمون ما في داخلنا على رغم أنني حينذاك لم أكن أملك من الأصدقاء سوى عارف هذا الصديق الذي لا يحمل من اسمه شيئاً سوى أنه يستطيع الاستماع لي بكل حواسه ويركز كثيراً لما أسرده بغية أن يفهمني.

حسناً، أنا نفسي لا أفهمني، هل يجب علينا أن نفهم الآخر وأنفسنا؟ سحقاً لمن اخترع علم النفس لماذا أتعب نفسه وأرهق الآخرين بهذه العلوم المقيتة، بل لماذا أرهق نفسي بدراسة علم النفس في الجامعة. أظن أننا لا ندرس من أجل هدف واضح وغاية مهمة، إنما ندرس لنخدع الآخرين بما نمتلك. حتى الجامعة ارتدتها لأخدع أهلي وأوّلهم أمي التي تعشق الجامعات والدراسة والشهادات العالية والمهمة والمراكز المرموقة. ربما يعود ذلك لأنها حُرِمت من أحلامها ومُنِعت من سبل تحصيل العلم من قبل أهلها وزوجها. نظرات والدتي إلى الكتب ولمسها أغلفتها وعناقها لها بلهفة، كل ذلك كان دافعي الوحيد لأكمل دراستي الجامعية كي أجعلها تستعيد حواسها المفقودة في أروقة الصفحات والكتب التي حُرِمت منها. لم يكن يعنيني أن أحقق أحلام الآخرين، ولم آبه يوماً لذلك. ولكن لوالدتي، كنت مستعدة أن أتسلق أعلى قمم التعب وأجوب شطآن الوجع، لا لأنها أمّ مضحية، بل لأنها الأم الضحية. وكنت المخلّص أو هكذا أرادت أمي وليكن لها ما تريد. حين أحدّث عارف عن أمي وهي حالات نادرة لأنني أحاول جاهدة أن أراعي مشاعره التعيسة التي يُبديها حين أحتفل فرحاً بذكر والدتي، يكفيه ما قد عاناه سابقاً. أجد نفسي أدور في حلقة مفرغة أعيد دوماً وأكرر الجمل نفسها أصارع اللاوعي لأخرج من هذه الدائرة، فتبدو لي دوامة تسحبني أكثر وأعمق. صرت على مرّ الوقت أضيف جملة من خيالاتي أو أحوّر في حديث كي أجذب انتباه عارف وكي لا يحس بالضجر.

علمت حينذاك أنني ذات خيالٍ خصب وحكواتية تعظّم الأمور وروائية ماكرة تعيد وتعيد بخبرة السحرة ما تريد من دون أن ينتبه الآخرون للحيل التي أملكها…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى