التجارة والصناعة… ولعبة شدّ الحبل
لمياء عاصي
اجتماعات وتصريحات ثم اجتماعات نوعية ومشتركة، ويستمر العراك بين الصناعيين والتجار، كلّ فريق يسوق من الحجج ما يتيسر له، والنقاط التي يرتكز إليها التجار تتعلق بدورهم الوطني في تأمين السلع الأساسية للمواطنين، أما الصناعيون، فلديهم نقاط أقوى وأهمها أنّ دعم الصناعة الوطنية هو السبيل الوحيد إلى اقتصاد معافى يؤمن فرص العمل ويخلق القيم المضافة في الاقتصاد، مع أنّ كلّ طرف لديه نقاط منطقية، لكنه يفكر من خلال مصالحه المباشرة والضيقة، وتبدو الحكومة حكماً حيادياً يسجل نقاط كلّ من الفريقين، من دون دور واضح في حسم لعبة شدّ الحبل بينهما، عبر إقرار رؤية أو استراتيجية وطنية عليا لا تقبل المساومة والجدل.
في الاجتماع الأخير بين الفريقين، نصحت الحكومة الصناعيين بأن يجعلوا صوتهم أعلى، لأنّ صراخ التجار الدائم وحججهم التي يسوقونها ليل نهار، تشكل ضغطاً على الحكومة يجعلها تستجيب لمطالبهم وتمنحهم إجازات الاستيراد تحت ذرائع مختلفة، أولها مصلحة الوطن والمواطن، وثانيها المخزون الاستراتيجي وتوفير السلع الأساسية، ومعروف أنه لا توجد معايير محدّدة للسلع لتكون أساسية أو كمالية، وحتى اليوم لم تتجرأ الحكومة على تحديد لائحة واضحة ومعلنة بالسلع الأساسية والسموح باستيرادها، سواء كانت مصنعة أو نصف مصنعة، ومن البديهي أن تكون من المواد التي لا تغطيها الصناعة الوطنية وتصنف بأنها من الاحتياجات الضرورية للمواطنين. أما وزارة الصناعة، فهي الشاهد الذي «ما شافش حاجة»، مشغولة دائماً بقضايا مؤسساتها المملوكة للدولة، وكأنها وزارة مؤسسات القطاع العام الصناعي فقط، إذ أنّ النأي بالنفس عن التجاذبات بين الصناعيين والتجار هو الأضمن، في ظلّ مساعي ونفوذ مجموعات الضغط من الطرفين لدى أصحاب القرار.
في دول العالم قاطبة، هناك استراتيجيات اقتصادية ثابتة أو متغيرة ومتطورة، حسب جدول زمني معروف ومدروس من كلّ القوى الفاعلة وذات العلاقة في المجتمع، وهناك دعم وتمكين للصناعة الوطنية ليشتدّ عودها واعتبارات ومعايير ومؤشرات هي التي تلعب الدور الأكبر في توجيه الاقتصاد الوطني.
أن تكون سورية في حالة حرب، سبب مهم جداً يدعو متخذي القرار الاقتصادي إلى وضع سياسات طويلة الأمد لدعم الصناعة الوطنية وتمكين المنتج المحلي أولاً، وهو ما تقتضيه المصلحة الوطنية الحقيقية، لسبب مهم وهو أنّ الصناعة أساسية في رفع الناتج الإجمالي المحلي الذي يؤثر، بدوره، على كلّ الحياة الاقتصادية، ولأننا نمر في ظروف استثنائية، وهي حالة تفرد لها بنود خاصة في معظم الاتفاقيات الدولية، فماذا فعلنا لتعريف وتبني الثوابت في سياستنا الاقتصادية بعد أربع سنوات من الحرب؟
يجب أن يرتكز اقتصاد الحرب عدد من النقاط أهمها :
– تخفيف أي إنفاق استهلاكي غير ضروري والتركيز على الاستثمار في المشاريع المنتجة والتي تسعى إلى إحلال الإنتاج المحلي محلّ المستوردات لتخفيف النزيف في الاحتياطيات الوطنية من العملات الصعبة، ولتحقيق هذا الهدف لا بدّ من تقديم التسهيلات الإجرائية التي لا تكلف الحكومة، ووضع المزيد من العراقيل أمام المستوردات، إضافة إلى العمل بشتى السبل على تعزيز واردات الخزينة من العملات الصعبة. ومن أجل هذا الهدف أيضاً يمكن رفع الرسوم الجمركية على الواردات بالنسبة إلى السلع التي يوجد لها بديل وطني.
– لضمان استمرار إنتاج السلع محلياً، لا بدّ من تفحص سلسلة الإنتاج والتوزيع وإجراءات التسعير وضمان الجودة وغيرها، والتأكد من أنّ مجموع هذه الإجراءات سيكون مشجعاً للإنتاج وأنّ أي خلل في مرحلة منها سيعيق موضوع الإنتاج في حدّ ذاته، فقضية تسعير الأدوية مثلاً وعدم قبول وزارة الصحة برفع أسعار الأدوية التي طلبها المصنعون بسبب غلاء المواد الأولية الناجم عن ارتفاع أسعار الدولار أمام الليرة، من دون أن تؤمن لهم بديلاً مناسباً، من حيث التمويل بأسعار للصرف تكون مقبولة ومنافسة، بل اكتفت الوزارة بالقول إنّ دخول المواطنين لا تتحمل المزيد من الغلاء في أسعار الأدوية، وهذا كلام صحيح، لكن هل تكفي الأعذار؟
النتيجة المباشرة لعدم اتخاذ أي قرار لدعم شركات الأدوية، جعلت الكثير من أصحاب معامل الأدوية يلجأون إلى أحد خيارين: إما استيراد مواد أولية أرخص وذات فعالية أقلّ، أو الامتناع عن تصنيع الأدوية التي يحتاجها الناس، ومن المعروف أنّ الأدوية لا تتمتع بالمرونة في الطلب عليها، وخصوصاً أنّ المريض يحتاج إلى دواء ليشفى، فالموضوع لا يحتمل التأجيل، وعدم توفر الدواء سيجعل الناس يلجأون إلى الدواء المهرب، أي أنّ الموضوع برمته سيكون لصالح التهريب، وسيسبب انحسار صناعة الدواء في سورية، كقطاع حقق نجاحاً ملحوظاً. الموضوع إذن خطير ولا يحتمل التردّد، بل يجب معالجته بما يستحق من الجرأة .
– يجب أن تستخدم سورية البنود والفقرات الخاصة بالظروف الاستثنائية لتقلص الاستيراد من الدول الأخرى التي ترتبط معها بهذا الاتفاق، من أجل أن تشجع صناعييها على الإنتاج ورفع كفاءة الإنتاج لتغطية احتياجات السوق المحلي.
– الصناعة والنظام المصرفي: لا يمكن توقع صناعة وطنية من دون سوق ائتماني يسهل دورة الإنتاج، وإنّ استمرار التوقف عن الإقراض، لا يمكن أن يخدم الصناعة التي تشكل مع الزراعة الاقتصاد الحقيقي للبلد، وما نشهده اليوم هو تصريحات بين حين وآخر من قبل البنك المركزي عن نيته إعادة القروض التشغيلية القصيرة ذات مدة العام الواحد، طبعاً عودة هذه القروض شي جيد، بل ممتاز، إذا استفادت منه المنشآت الصناعية في الشكل المناسب.
طرح موضوع تمكين الإنتاج المحلي قبل الأزمة وبعدها ، ومنذ الأيام الأولى كان واضحا أنّ الدولة يجب أن تحسم خياراتها، وأن تتوقف عن الاستجابة لمجموعات الضغط المتنفذة هنا وهناك، إذ أنّ قرارات الحكومة يجب أن تعبر عن قناعاتها المستندة إلى المعرفة الكاملة بكلّ قطاع، وليس بناء على المساجلات التي تحدث في الاجتماع، كما أنّ القرارات أو السياسات يجب أن يكون لها نهج واضح ومعلن وشفاف، وهذا ما يطالب به اتحادي غرف التجارة وغرف الصناعة على حدّ سواء، بينما تلعب الحكومة دوراً غير مفهوم، وكأنها تستجدي كلا الطرفين أن يخففوا الضجيج، لتتمكن من النوم.