عبق التحرير
د. سلوى خليل الأمين
يوم… ليس كباقي الأيام، بحثت عنه في أحلامي الطفولية، كتبته نشيداً على كراريسي المدرسية، وحفظته في قلبي فرحاً أبدياً، وغنيته وطناً ينعم بنسمات السيادة وأضواء الحرية والعيش الآمن السعيد.
هو يوم التحرير… تحرير الشريط الجنوبي اللبناني المحتلّ من رجس الصهاينة وعملائهم الأشرار، يوم طالما سكن الوجدان متلهّفاً للضمائر النظيفة، وطالما تمنيناه ملوّناً بالمجد والكرامة والعنفوان والذكريات الدافئة، وعبق بيلسانات أحنت أعناقها على أسوار القرى المربكة بالقهر… وبغطرسة عدو صهيوني حفرت دباباته أرض الجنوب، وشقت مداراتها فوق أثلام تربته مخترقة الحدود والسدود وساحات القرى والمدن، غير آبهة بقرارات عالمية أممية تمنعها من احتلال عاصمة هي ست الدنيا «بيروت»، وطالما اغتصبت طائراته هواء الجنوب العليل عبر قنابلها الذكية… الحارقة والمارقة.
يوم مغمّس بالفرح الذي غرس في أكمام الزهر شذى يتصاعد من حفيف التراب البكر، وترانيم سنابل قمح تغني للفجر المفجوع باستشهاد أطفال قانا… وأرواحهم التي ارتفعت إلى رحاب الله… هدية تحرير وانتصار.
هي اللحظات المدهشة، والهنيهات الصاخبة، والنظرات التي رمت أهداب العيون على الحدود الجنوبية تراتيل سعادة ليوم مجيد… كتبتها أقدام رجال الله في الميدان بأحرف من نور… وحلقت به في سماء الجنوب عيداً ليس كالأعياد… منذ تلك اللحظات.
هو العيد الملوّن بالفرحة العارمة التي استوطنت القلوب والعقول معاً، حين تمّ الزحف المقدس الذي لمعت بيارقه شهباً هزمت الظلمة والظلم… والقهر والاحتلال… وليالي الغربة… وعثرات الدروب.
لم ينثال الدم هباء… ولم يغلبنا الحزن على الراحلين… فنشوة الظفر في لحظات الانتصار المؤزر حملتنا إلى الصلوات على أرواح الشهداء الذين افتدوا الوطن بطيبة خاطر وإيمان وطني ثابت… لهذا كانت التبريكات سيدة الساح ترافقها البسمات الضحوك التي ارتسمت بلسم شفاء وعافية جديدة، بحيث كانت دموع الأمهات تتقطر شميم عطر ينهمر على مساكب العمر هنيهات فرح وسعادة وافتخار، وزغردات تزقزق، ترفع الحداء أناشيد نايات زينبية، تعانق مسارات الدروب والوديان وهامات الجبال السمر… تمهّد لإطلالات الشهداء المنبعثة من خلف الضباب رايات بيضاء… حملها على الأكفّ رجال عاهدوا الله والوطن بأنّ الوعد الصادق سيبقى وفياً للعهد والتزاماً وطنياً وأخلاقياً صافياً… لأنّ حرية الوطن هى الحياة المثلى والهدف المرتجى، ولأنّ السيادة الوطنية هي طريق الحق والصواب.
فأيّ ليال هي هذه؟ أيّ ذكريات نتدثر بها… وأيّ نقاء؟ ترى هل الاعتراف بالنصر في المواقف المضمّخة بعبق تحرير الوطن من رجس الصهاينة الأشرار صعب وشيّق؟ وهل الرقص على الكلام فيض وطنية في زمن المخاطر والأزمات؟ بئس كلّ من لا يعترف ويقدّر النصر الذي سجلته المقاومة في الجنوب اللبناني على العدو الصهيوني، الذي طالما عانينا من اجتياحاته ونيرانه الحارقة وهمجيته الشرسة.
لقد شممنا عبق التحرير منذ 15 عاماً، وما زلنا نعيش زمن الانتصارات، بفضل رجال المقاومة الفوارس، الذين ملأوا الأرض والسماء بشدو انتصاراتهم، غير عابئين بفقد أخ أو حبيب أو رفيق، لأنّ حب الوطن في أجندات حياتهم في المقام الأول، حيث لا كرامة لمواطن في وطن محتلّ، لهذا يتماهى الحب الأبوي والأمومي والأخوي والزوجي والعائلي بمختلف صنوفه وتصنيفاته عند حدود الالتزام بالوطن، خصوصاً حين يتعرّض الوطن وناسه للخطر والاحتلال واندثار الهوية، لهذا تبقى رسالة الجهاد والنضال مسألة فرض واجب الوجوب، وصلاة ترفع في كلّ حين، وعبق هوى يرتدّ إلى عمق الذات، يفجّر مكامن الغضب على كلّ من استباح أرض الوطن، وكرامة الشعب وأنسامه الربيعية.
لهذا، كان عبق التحرير لحناً سرمدياً… انسرح عبر كلّ المطارح والزوايا ومساكب التبغ… وحقول الزيتون… مشبعاً بموسيقى أجراس الكنائس التي نثرت أناشيدها فوق رؤوس المآذن… طمأنينة أمان لمسيرة وجود لن تعكر صفوه دبابات الميركافا الصهيونية، التي هزمت في ما بعد على أيدي المجاهدين الشرفاء في معركة وادي الحجير في العام 2006، وكان لاحتراقها الأثر الكبير الذي انعكس هزيمة شنعاء على الجيش «الإسرائيلي» الذي حاولوا خداعنا بقولهم عنه إنه «جيش لا يُقهر»… و«إنّ قوة لبنان في ضعفه».
أيها الناس… إنه يوم التحرير… إنه يوم المجد والكرامة والحرية والسيادة، لمن تغنّى طويلاً بالسيادة، فلماذا يتسابق البعض لرهن الوطن لعصابات «داعش» و«النصرة» من دون خجل ولا حتى رفة جفن؟
إنّ التحرير كان وسيبقى الهدف المنشود… وطريق المقاومة والشرفاء إلى تحرير فلسطين وبلاد الشام واليمن وكلّ وطن عربي يتعرّض لمؤامرات الصهيونية العالمية، وحليفتها أميركا، وعملائها من بني يعرب… الذين هم الفريسيون بل عبدة الدولار والشيطان… حين في الآخرة لا ينفع مال ولا بنون… ما ينفع فقط هو ما يزرع في الأرض من محاسن وأخلاق ووطنية لا تشوبها الخيانات والرهانات وفق نغمات تخطئ بوصلة الحق ودروب الصواب.
في عيد التحرير أرفع التحية والتهنئة لسيد النصر وقائد المقاومة السيد حسن نصر الله الكاظم الغيظ، المؤمن المؤتمن، والقادر على اتخاذ القرار في المواقف الصعبة من منطلق إيماني وطني مخلص وبناء، كما لأرواح الشهداء الذين منحهم الله جنات النعيم، ولكلّ أمّ صبرت وضحّت وشجّعت أبناءها على اتّباع سبل الحق درباً للنضال الوطني… كما أرفع التحية لسورية الجريحة التي لم تبع فلسطين والمقاومة في سوق النخاسة كما فعل غيرها، ولو أرادت لفعلت… وإلى أهل الجنوب وشرفاء الوطن الذين ذاقوا الأمرّين من تهجير وتدمير وقتل ومن شراسة العدو الصهيوني، وتمسّكوا بالصبر إيماناً وطنياً لا يماثله في الكون سوى عيد التحرير، الذي تهزج له العيون والقلوب ترفعها مزاهر تطفح بالورد والأرُز والألحان، عابقة بالشوق إلى مزيد من الانتصارات، التي ستمتدّ جسراً مكللاً بالحياة الحرة الشريفة على أرض العروبة وبلاد الشام.