الهروب الشعري إلى السرد
علي حسن الفواز
قد تفضي تحوّلات الشاعر إلى ما يشبه التمرّد على نصوصه، وعلى صناديق استعاراته ومجازاته ليبحث عن وجه آخر للكتابة، وعن فضاء نصوصي أكثر تحرراً يبيح له الهروب من تاريخ القصيدة الأبوي، ومن أحكام عمودها وتفعيلاتها وإيقاعها، لكي يتقنّع بقناع صانع الأسفار والحكايات، إذ يمارس من خلالها حريته في التلصص على التاريخ والجسد، وارتكاب المزيد من غوايات الكشف واللذة والمواجهة.
الهروب الشعري إلى السرد، هو العنوان السحري لاكتشاف عالم ما وراء جدران الشعر، إذ يحرّض هذا الهروب على ممارسة طقوس عري أكثر توهجاً، وعلى النفور من شروط لعبة الفصاحة والتوريات الشعرية غير القابلة للاستهلاك اليومي. هذا الهروب ليس عيباً في الشعر، أو حتى مللاً منه، بل هو محاولة للخروج من «ديوان» لم يعد آمناً، ومن حوابس لسانية لم تعد كافية لإشباع أسئلة الوعي القلق، وشغف الروح التي يحاصرها كثيراً التاريخ والفقهاء والأشباح والثوار و«الدواعش» والميليشيات.
الاطمئنان الشعري ـ وفق القياسات القديمة ـ صار رهاناً مريباً وملتبساً، ومحفوفاً بالخطر والتكرار. وعليه، فالبحث عن رهانات أخرى قد يكون باعثاً لاصطناع سكينة شخصية، أو حتى مزاجية لإنعاش ما تبقى، ولو قليلاً، لا سيما أنها ستضع الكتابة أمام سيولة من الصعب ضبط تدفقها، واكتناه ما يمكن أن يبوح به غريها الطيني، وحتى تعريتها لنسقيات مضمرة في الوعي والكلام والتاريخ والسيرة. تلك التعرية السردية لم تعد خطيئة في تأويل فقهيات الجسد وما يجاوره، أو حتى مقاربتها سرائر الحكاية والأسفار، بقدر ما هو توسيع توصيفها لأن للدافع تكون الكتابة فيها مكاشفة ضدية لسرديات الجماعات التي كتبت التاريخ، تلك التي قد تكون محاولة للخلاص الوجودي، والانفتاح على أفق جديد، ورؤى جديدة وانغمارات تفضي إلى مساحات جديدة لتلمس ما خفي من المسكوت عنها في سرديات الوجود والمعنى والجسد، وربما تدوينها تحت موجهات المتخيل السردي، تلك التي تفضي إلى نوع من المفارقة، حتى صار السرد الذي يكتبه الشعراء، الترياق السحري والسري لضيق القصيدة، مقابل ما يبعثه فيها من اتساع ونبش، وإغواء لا حدود له.
كثيرون من شعرائنا العرب يمّموا الطرق الوعرة إلى السرد، بوصفه عتبة للكتابة المفتوحة، تلك يختلط فيها القصّ مع السير الذاتية مع الشهادة والمذكرات، مع إصرار عند البعض على تجنيس ما يكتبونه بـ«الرواية».
وبقدر ما أن هذا الموضوع ليس جديداً في ثقافاتنا العربية، إذ كتب مبكراً الشاعر عباس محمود العقاد روايته المعروفة «سارة» مثلما كتب أيضاً الشاعر جبرا إبراهيم جبرا رواياته الكثيرة منذ ستينات القرن الماضي. لكن هاجس التحوّل إلى السرديات بدا أكثر وضوحاً منذ نهاية الثمانينات، ليس بوصفها إعلاناً عن «موت الشعر» كما قال البعض، أو حتى تعبيراً عن عجزه، بل هو في جوهره تعبير عن أزمة تصريف هذا الوعي، إذ يجد الشاعر نفسه محاصراً بهموم وجودية كبرى، وأسئلة أكثر رعباً، حتى يبدو خياره السردي وكأنه محاوله للبحث عن مسارب أخرى للخلاص، ولإطلاق شحنات القلق والتمرد على مساحات تعبيرية أكثر ليونة وتسامحاً.
ولعلّ تحولات الشاعر الكردي سليم بركات السردية تمثل الترحيل الأهم ـ فنياً ـ في هذا السياق، فرواياته تحمل هاجسه الوجودي، ومحنة اغترابه اللساني والقومي، مثلما أضحت هذه الروايات علامة مهمة في تقانات السرد، وفي تحديث نوعها، وفي الانفتاح العميق على ذاكرة الكرد المقصيين في الشمال السوري، المغتربين عن اللغة، والغائرين في أمكنة وقواميس وسرائر وأحلام من الصعب جمعها في الذاكرة المستلبة.
وروايات الشاعر فاضل العزاوي تعكس وجهاً آخر للشحن التعبيري، وقدرته على تمثل تحوّلاته الداخلية، تلك التي تعبّر عن قلقه واغترابه وحنينه، وحتى عن مواقفه السياسية والوجودية، وأحسب أن روايات مثل «مخلوقات فاضل العزاوي»، و«القلعة الخامسة» و«الأسلاف» و«آخر الملائكة» تحمل معها وعبر عقود تحولات تجسّ وعي الشاعر بدءاً من السبعينات، حيث محنة السياسة ومحنة الكائن، وكذلك محنة السجن، وانتهاء بالروايات الأخيرة ـ «الاسلاف» و«آخر الملائكة» ـ وهي محاولة في استعادة نوستاليجية للعالم الغائب، عالم المدن والسرائر والسيرة الغاطسة في التاريخ.
والروايات الكثيرة للشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله تعيدنا إلى محنة الشاعر واغترابه، وعجز القصيدة في التعبير عن هوس أسئلته واغتراباته العميقة، مثلما هي الحافز الذي يستنفره لكتابة سيرة أبطاله، وسيرة مدنه، وسرديات تاريخه لتكون هي شهادته على وجود يسرقه المحتلون ويطمسون ملامحه وذكرياته، ولم يبق منه للأجيال القادمة سوى أشباحه، فضلاً عن أن السرد أضحى أكثر تمثلاً لقلقه الشخصي، الذي قد يدفعه لأن يكون الحكواتي والشاهد و«حارس المدينة الضائعة» والمؤرخ وكاتب سيرة أبطاله في مدنهم العالية، وخيولهم البيضاء..
الهروب غير المسلح للرواية
شعراء آخرون مارسوا لعبة الهروب إلى السرد، بحثاً عن أسرار الحكواتي، أو ممارسة وظيفته، وعلى رغم أنهم أقل كتابة للرواية، إلا أن حمولات رواياتهم تكشف عن هاجس عميق، أو حتى جرح نرجسي إزاء مواجهة غواية الكتابة الروائية، بوصفها كتابة مغامرة، أو كتابة مفارقة مثل الشعراء سعدي يوسف، والشاعر سامي مهدي.
الشاعر عباس بيضون كتب تحت هاجس مدوّن السيرة روايات «مرايا فرانكشتاين»، و«الشافيات» وكأنه يقول: إن الحكاية تلاحقه، وتدفعه لأن يكون صاحب السيرة والقصّ، وصاحب الحكاية والباحث عن مساحات أكثر سعة لاستيهاماته الغامرة ولمراجعة تاريخه الشخصي في الأمكنة التي يعشقها، مثلما هي كتابة اعتراف ومراجعة.
والشاعر حسن نجمي يكتب روايتيه «الحجاب»، و«جيرترود» وهو مسكون بسحر السرد، إذ يعطيه هذا السرد إحساساً بالامتلاك والشغف، مثلما هو اندفاعه لإعطاء الكتابة السردية توصيفاً لسعة ما توفره من فضاءات معرفية وإنسانية وحكواتية، تلك التي تساكنه دائماً، وتدفعه إلى المزيد من مقاربة أسئلة الوجود والذات والتاريخ، وتلمس هواجس المثقف العربي الذي يواجه صراعات وانكسارات وتحولات كبرى، قد يكون الشعر أضيق مساحة من أن يستوعبها، وأقل قدرة على تلقي رسائلها وشحناتها الصادمة.
ويكتب عبده وازن روايته الشخصية «قلب مفتوح» تلك التي توحي بهاجس خفي عن انحيازه لكتابة الرواية، وإلى تجريب مغامرة ما يتمثله السرد من عوالم أكثر اتساعاً، ليس لأنه فيها الأكثر تمثلاً لفن السيرة الذاتية، بقدر ما أنه يبيح للكاتب فرصة التجوال في مساحات مفتوحة، والإطلال على عالم يمور بالكثير من الحكايات والمدونات والسير والأسفار.
كما أن رواية الشاعر الأردني أمجد ناصر «حيث لا تسقط الأمطار» تجمع بين رغبة الكاتب في تمثل وظيفة الروائي، وتلبس لعبته في المغامرة والحرية، مثلما هي تعبير عن شغفه بكتابة سيرته الشخصية، أو مراجعة تاريخه الذي عاشه مغترباً باحثاً عن عالم لم يطمئن إليه يوماً، إذ يظل مشدوداً إلى عوالم مدنه القديمة، وإلى طفولته ونسائه، وكأن هذه الرواية/السيرة هي محاولته التعويضية عبر اللغة للبحث عن لحظات إشباع وامتلاء غائبة، فضلاً عن كونها مجالاً للتعبير عن مواقفه السياسية وتحولات وعيه في المهجر إزاء مفاهيم الحرية والحزب والمرأة والجسد والشرق.
وهناك أيضاً عدد من الروايات، أو حتى السير الذاتية التي كتبها شعراء معروفون، حيث يكتب الشاعر شربل داغر روايته «وصية هابيل» التي يقول عن دافع كتابتها: إنها جزء من لعبته في التعاطي مع جماليات الكتابة، وإنه يجد صعوبة في البوح والاعتراف شعراً.
ويكتب كذلك الشاعر العراقي سنان أنطوان روايتين مهمتين «شجرة الرمان»، و«يا مريم» تحت بواعث ما يعيشه من اغتراب عميق، ومن رعب هوياتي أطلق جموحه في مقاربة الكثير من نسقيات القبح في تاريخ الذاكرة العراقية المفجوعة بمحنة الإرهاب والتهجير والقتل والصراع الطائفي والديني.
كما أن رواية «وثيقة ولادة» للشاعر اللبناني عقل العويط، تندرج في سياق رواية السيرة، تلك التي تعكس هوس الشاعر بالكتابة المرآوية، واستعادته للتاريخ الشخصي، بوصفه تاريخاً مكتوباً، وسيرة يمنحها السرد أفقاً للقراءة ولتوسيع مديات الكتابة التي يمارسها بوصفه الأكاديمي والشعري والإعلامي.
كاتب عراقي