تصحيح العلاقات العربية ـ الإيرانية وتقويتها لمواجهة كلّ ما يهدّد المنطقة باستراتيجية واحدة
د. عدنان منصور
عرف التاريخ السياسي قبل الإسلام التقاء الفرس والعرب في مراحل وأوقات عدة، عكس علاقات وروابط إيجابية ـ وإنْ عرفت أحياناً هبوطاً بسبب المنافع المادية والعصبية والقومية ـ قويت بعد الفتح الإسلامي، تستلهم من الدين الجديد مبادئ وأفكاراً نبيلة ورسالة إنسانية تضع حداً للعصبية والقبلية والخلافات، فدخل الإسلام بلاد فارس وشعاره «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى».
إنّ الخلافات وإنْ وجدت بين إيران وبعض الدول العربية، فهذا لا يعني أنها يجب أن تشعل في كلّ مرة فتيل الحرب. من هنا، وجب على الجميع التعامل مع الخلافات والقضايا الحساسة بحكمة وموضوعية. إنّ النخب العربية والإيرانية على مستوى الدول والأفراد مدعوّة للعمل من خلال نظرة علمية واقعية تضع جانباً سلبيات الماضي وتدرك ما يتهدّدها دون حساسية، وتجتمع على ما يكون كفيلاً بإرساء تعاون فعّال على مختلف المستويات والصعد، بين دول العالم العربي وإيران، وبين سائر الدول الخليجية في ما بينها، لحلّ المشاكل العالقة بالطرق السلمية وفقاً للقانون الدولي وحفاظاً على حسن الجوار.
انّ الحوار المشترك والتواصل بين العالم العربي وإيران، إذا ما استمرّ وتخلى كلّ واحد عن حذره وهواجسه وتخوّفه، ومدّ يده للآخر كفيل بأن ينطلق بعلاقات مبنية على أسس متينة، تتعمّق مع الأيام ويسودها التعايش والتفاهم والمصالح المشتركة، وتحصّن بالتالي الحق العربي والإيراني بحيث يصبح قادراً على إحباط مخططات الدول الأجنبية الطامعة، التي لها مصلحة مباشرة في تفكيك أواصر العلاقات بين دولنا وتعرّضها لمزيد من الضعف وإعاقة تنميتها وتطورها.
هناك ضرورة لتعزيز العلاقات الإيرانية العربية في ما بينها، وذلك من خلال تعميق التبادل الاقتصادي والثقافي، وتشجيع الاستثمارات وتبادل الخبرات العلمية وعلى مختلف المستويات، وتنشيط الحركة السياحية المتبادلة، إضافة إلى تنسيق سياسات الإنتاج النفطي، وإيجاد أسس لسوق اقتصادية مشتركة، وإعطاء الأولوية لهذه البلدان في نطاق التبادل التجاري والخدماتي ومشاريع التنمية المشتركة، وتوفير المنح الجامعية والدراسات الأكاديمية في الجامعات العربية والإسلامية، وتبادل الخبرات التعليمية والجامعية في هذا المجال، وإيجاد صيغة جديدة ترمي إلى إعادة تهذيب التاريخ المشترك بين الأمتين العربية والفارسية.
إنّ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، شكل منعطفاً تاريخياً واستراتيجياً مهمّاً، فقد تحوّلت إلى إيران المناهضة لقوى التسلط والهيمنة والنفوذ، المتصدّية والرافضة لدولة العدوان والصهيونية، الداعمة للحق الفلسطيني والعاملة من أجل تحرير فلسطين والقدس.
كيف يمكن لبعض العرب أن يسمحوا لأنفسهم بالتعاون مع العدو «الإسرائيلي» الذي يمارس الاحتلال والتطهير العرقي للفلسطينيين ومدّ الجسور إليه رغم ما يرتكبه من اعتداءات يومية وما يرتكبه من مجازر بحق الشعوب العربية، ويغضّ الطرف عنه ويلزم الصمت، ويرفض في الوقت ذاته التعاون والتنسيق مع إيران المؤازرة للحق العربي والفلسطيني والعاملة من أجل منطقة تنعم بالاستقلال الحقيقي لا الوهمي؟
اننا جميعاً كعرب وإيرانيين معنيون بمواجهة الخطر المباشر الذي يهدّد شعوبنا، ويزلزل أوطانها، والذي يتمثل بالتطرف الديني والمفاهيم الضيقة الكارهة والرافضة للآخر، البلدان العربية التي تزكيها وتشجعها وتموّلها وتروّج لها وتحتضنها. هذا التطرف يترجم على الأرض اليوم من خلال وحوش بشرية تلجأ إلى القتل والتدمير والذبح والهدم للحضارة والتراث.
إننا معنيون مع إيران في مواجهة الجهات الإقليمية والدولية التي دأبت على العزف على الوتر الديني والطائفي والمذهبي والتحريض من أجل إشعال الفتن داخل مجتمعاتنا، والتي وفرت للجماعات الإرهابية التي تضرب في بلداننا كلّ وسائل الدعم.
إنّ العدو الحقيقي يكمن في العدو «الإسرائيلي» المهدّد الدائم لوجود ولمستقبل ولتاريخ المنطقة كلها، وليس لإيران كما يريد أن يروّج له البعض خبثاً وظلماً وعمالة.
آن الأوان لنزع عقدة الخوف التي علقت في أذهان البعض، والتي ترى أنّ العلاقات العربية ـ الإيرانية خطرة يشوبها الحذر، وكلّ دول العالم العربي وإيران مستهدفة في قدراتها وتنتميتها واستقلالها وأمنها، وأنه محظور عليها أن تمتلك كامل استقلالها السياسي والاقتصادي والعسكري والتكنولوجي، حتى لا تخرج عن السيطرة والهيمنة والابتزاز والحصار ولعقوبات للقوى الكبرى.
ولا بدّ من إيجاد قاسم مشترك لدول العالم العربي وإيران، يسمح لها مستقبلاً مواجهة كلّ ما يهدّد هذه المنطقة بإرادة واحدة ومفهوم واحد واستراتيجية واحدة، لأنّ الخطر «الاسرائيلي» وما يملكه كيان العدو من ترسانة عسكرية نووية هائلة، يشكل تهديداً خطيراً مباشراً على أمن منطقة الشرق الأوسط كلها.
انّ حرية الكلمة، وحرية التعبير والرأي والوعي القومي وسلطة القانون، وصون حقوق المواطن، إذا ما توافرت لشعوب المنطقة، كفيلة بجعل هذه الشعوب تتفهّم بعضها وبعمق أكبر، وأن تنسّق في ما بينها وتدرك مصلحتها المشتركة بصورة أشمل وأسرع.
انّ المنطقة بعمقها العربي والإيراني الواسع، تواجه الآن تحديات العصر ومفاهيمه الجديدة من خلال وجود التكتلات الاقتصادية الضخمة، والعرب والإيرانيين معنيون بالتطورات العالمية، وهم مدعوّون اليوم بأسرع وقت لوضع صيغ لتعاون ودّي على مختلف المستويات.
لنعمل معاً كلّ في موقعه من أجل تصحيح مسار العلاقات الإيرانية ـ العربية كلها وتقويتها وتعزيزها، وإيصال الصوت لكلّ عربي وإيراني على السواء، ليدرك حقيقة وأهمية هذه العلاقات المشتركة وتأثيرها وما يمكن لها أن تنجزه وتوفره لشعوب العالم العربي وإيران اقتصاداً وتنمية وتطوّراً وقوة ووحدة وأمنا واستقراراً.
محاضرة القاها وزير الخارجية السابق الدكتور عدنان منصور عن «العلاقات العربية ـ الإيرانية والصراع في المنطقة»، بدعوة من منتدى الأربعاء في مؤسسة الإمام الحكيم، في حضور حشد من الشخصيات الدينية والديبلوماسية والأكاديمية والإعلامية