نهاية الحروب بنهاية السلطنة
ناصر قنديل
– الناظر إلى خريطة المنطقة لا يستطيع تجاهل دور الجغرافيا في جعل سورية قبلة الناظرين لأدوار حاسمة، والتوقع أنه كلما وصل العالم إلى توازن هشّ ودقيق يستدعي منازلة حاسمة لبلورة توازنات يؤسّس عليها لتغيير المعادلات، لا بدّ أن تكون سورية ساحة هذه المنازلة، ولا يستطيع الناظر الفصل بين ما تتعرّض له سورية وبين هذا الموقع في الجغرافيا السياسية للعالم كله عبر هذا الشرق، والممتدّ على مدى تاريخ طويل. وما زاد منه موقعها على البحر المتوسط بالنسبة لكلّ من روسيا والصين وإيران، في زمن ما بعد الانسحاب الأميركي من العراق وأفغانستان، وموقعها لكلّ اللاعبين الدوليين والإقليميين في زمن التسابق على ممرات حيوية لأنابيب النفط والغاز وتقاطعها كلها على رقعة الجغرافية السورية. لكن هذا الناظر وإنْ استطاع أن يكتشف ويحدّد بسهولة القوى ذات المصلحة بالتدخل، ويحدّد أسماءها وتحالفاتها من دون حاجة إلى انتظار قراءة المواقف والتصريحات، ولا الحاجة للإطلاع على التقارير واكتشاف المؤامرات، سوف يقول بسرعة لا يمكن النيل من سورية إلا إذا فتحت البوابة التركية.
– الغرب الذي تقوده واشنطن يعرف أنه لا يملك لتغيير سورية أو التأثير في مستقبلها إلا النافذة التي توفرها بوابة تركيا، فهي الدولة الوازنة المتينة والمتماسكة، والتي تملك اقتصاداً يعتدّ به وجيشاً من أقوى جيوش المنطقة، والبلد الوحيد الذي تربطه بدول الغرب بين دول المنطقة رابطة العضوية في الحلف الأطلسي، وتركيا دولة جارة مع حدود طويلة لسورية وتشابك سكاني واقتصادي وديني، يتيح لها أن تكون وحدها الرافعة لصناعة تغيير أو الرهان على صناعة تغيير في سورية. هذا ما ترغب السعودية و«إسرائيل» وغيرهما بامتلاك فرصه، لكنهما لا تملكان الفرصة لتقديم أسباب وشروط القيام به، بل تراهنان على ما يمكن أن تقوم به تركيا، ويقتصر إسهامهما على توفير الدعم والإسناد اللازمين لتنجح تركيا بهذه المهمة.
– خلال سنوات المواجهة الدائرة في المنطقة والتي شكلت سورية ساحتها الرئيسية، وكان ولا يزال مستقبلها هو الذي سيكتب مستقبل التوازنات الإقليمية والدولية الجديدة التي سترسم خريطة العالم الجديد لقرن مقبل. كان ولا يزال الدور التركي حاسماً، فقد توافرت شروط نموذجية لتناط بتركيا هذه المهمة، فبالإضافة إلى مميزات تركيا شكل تبوؤ حزب العدالة والتنمية لمقاليد الحكم فيها كتنظيم متحدّر من «الإخوان المسلمين» فرصة لا تعوّض. فـ»الإخوان» في سورية يشكلون القوة الرئيسية المناهضة للدولة السورية والقادرة على لعب دور نواة المشروع الانقلابي المنشود لتغيير سورية، ومن التنظيم نفسه تتحدر حركة حماس التي كانت تملك بنية عسكرية كاملة في سورية يمكن استخدام بعضها، ومن «الإخوان» يتحدّر القائد الجديد لتنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، ويمكن لصلاته التاريخية بالتنظيم الأم أن تتيح لتنظيمه الجديد أن يلعب دوراً متناغماً ومكمّلاً، ولكن على إيقاع ترسمه معادلات تركيا حزب العدالة والتنمية، وتوافرت في المقابل للحزب قيادة على رأسها ثنائي استثنائي، هو رجب أردوغان وداود أوغلو، وهي قيادة تملك تصوراً امبراطورياً مبنياً على أحلام السلطنة العثمانية، تحوّل بسرعة إلى حلم شخصي لأردوغان للعب دور السلطان العثماني الجديد، ما يتيح للاعبين الخارجيين وخصوصاً الأميركي و«الإسرائيلي» بينهم الاستثمار على هذا التطلع الحزبي والطموح الشخصي المرافق له، لدغدغة الحلم وإيقاظه كلما كان المطلوب المزيد من التورّط التركي في سورية.
– موسم الانتخابات البرلمانية التركية هذه المرة يقدّم فرصة مفصلية ستقول الكثير حول قدرة تركيا على مواصلة لعب هذا الدور، حيث قرّر رجب أردوغان وضع حلم السلطنة قيد التنفيذ ببعده الدستوري الداخلي، بالتزامن مع المراوحة الاقتصادية والسياسية والارتباك كحصيلة للمخاض الذي عرفته المداخلة التركية في المسألة السورية، والتي تبدّلت أحصنتها، من الرهان على صيغ كمجلس اسطنبول و«ائتلاف الدوحة» و«الجيش الحر»، لترسو في نهاية المطاف على ثنائية «داعش» و«النصرة»، والواضح أنّ هذه الانتخابات مع دخول العامل المستجدّ الذي يمثله تنظيم الصفوف الكردية في إطار حزب واحد وفرص اجتيازه لعتبة دخول البرلمان، ستوفر ظروفاً تنتهي بوضع تركيا أردوغان وأوغلو في مضيق أين منه مضيق البوسفور، وبحر لا يصل البحر الأسود لسواده، حيث الفشل في نيل غالبية الثلثين صار محسوماً بالنسبة لأردوغان كشرط لتعديل الدستور، والغالبية المطلقة لتشكيل حكومة لون واحد لا تبدو في اليد، ويصير أهون الشرور ارتضاء أردوغان وحزبه أن تتراجع تركيا كلاعب إقليمي لحساب صيغ تشارك داخلية هشة في الحكم، وتقع باقي الاحتمالات بين الفوضى الدستورية السياسية التي قد تنشأ عن تشكيل حكومة أقلية والذهاب إلى انتخابات مبكرة خلال سنة. والأسوأ ما قد يجرّه أردوغان من اللجوء إلى البلطجة لفرض الفوز الذي يريد فيشعل حرباً لا تنتهي مع الأكراد، وربما مع المكوّنات الأخرى الطائفية أو العلمانية في تركيا.
– تبدو تركيا مدعوّة بعد الانتخابات المقبلة، إلى التواضع والقبول بارتضاء دور خارج صناعة السياسات الكبرى في المنطقة، للتفرّغ لإعادة رسم دورها على قاعدة الحاجة إلى سنوات من الهدوء والتفرّغ للبيت الداخلي، واستنهاض العقلانية والبراغماتية الاقتصادية مرة أخرى خارج الميكيافيلية الأمنية التي ارتضت اللعب بورقة الإرهاب والاستثمار على أحصنة لم تغيّر الملعب ولا قواعد اللعبة، لكنها خربت إسطبل الخيل وبعثرت المحتويات، ونثرت بقايا روثها لتتسبّب بأوبئة ليست بين الأيدي أدوية وأمصال قادرة على مواجهتها بعد، فيما تبدو المنطقة مدعوّة إلى الاستعداد لمراسم وداع السلطنة ومعها الكثير من توظيف مكانة تركيا في دور تخريبي جلب الكثير الكثير من الويلات على المنطقة وكياناتها.