الحرام المباح… والحلّ المتاح

د. رآفات أحمد

ردود فعلٍ متتالية ومتنوّعة تلقّيتها على مقالي السابق في جريدة «البناء»، «الحرام المباح»، إذ انبرى كثير من الأحبّة المتابعين، لاجتراح حلول مناسبة لواقع قاتم، ولحالة مجتمعية كنت قد تناولتها وشخّصتها.

من باب الدعابة، أو القناعة الكاملة، لا أدري بالضبط، قال أحدهم: «الحل يكون بالصبر! نعم الصبر والتحمل، فعلى هذه السيدة التي هُجّرت وعائلتها أن تصبر على الفقر وانعدام الحال، وعلى زوجة الشهيد أن تصبر وتعاند فطرة الأنثى التي خلقها الله عليها، شأنهن في ذلك شأن أي متأذٍّ من الأزمة السورية!!!».

وقال آخر: «يكون الخلاص بترك الطبيعة الإنسانية وحركة التطوّر المجتمعية تعمل وفق قوانين الطبيعة، لا وفق القوانين الوضعية، لنصل في النهاية إلى التوازن المجتمعي. فكما هي الطبيعة قادرة على فرض المشكلات، فهي أيضاً قادرة، لا بل مخوّلة بإيجاد الحلول».

هاتان الرؤيتان، ومع كل الاحترام لطارحَيْهما، تمثلان نوعاً من الهروب إلى الأمام، وهذا الهروب هو أيضاً مشكلة خطيرة وثقافة متأصّلة أصبحت تسيطر على مجتمعاتنا، وهي لا تقل عن سابقتها في تأثيراتها السلبية.

تشير أدبيات علم النفس والعلاج النفسي في مجال نظريّات الحاجات والغرائز الإنسانية، إلى أن حاجات الطعام والشراب والجنس تمثل الحاجات الغريزية الرئيسة التي لا تستقيم حياة الإنسان من دونها، لتأتي في ما بعد حاجات الأمن الاجتماعي والاستقرار وإيجاد الذات وتقديرها. وقد عبّر ماسلو في نظريته عن هذه الحاجات الغريزية من خلال هرم يوضح فيه ترتيبها في حياة الإنسان. ويشير الترتيب إلى الأهمية والقوة والتأثير.

إنّ فرضية الصبر، وانطلاقاً من المخطط السابق، تسقط تحت ضغط الطبيعة، ووفقاً للتشريعات الإلهية المختصة بالطبيعة الإنسانية. أمّا فرضية أن نترك للمجتمع فرصة إعادة تنصيب الحلّ بحركة طبيعية، من دون تدخّل، ومن دون قوانين وضعية تحضّر لمواجهة واقع مفروض بالقوة، فهو تعامٍ عن مشكلة، وإصرار على عدم الاعتراف بها وإن هذا التعامي عن وجود المشكلة، هو بحدّ ذاته مشكلة. ناهيك عن أنّ نقيض هذا الفرض، أي «التدخل والتحكم عن سبق إصرار بعيداً عن العفوية»، أثبت فعاليته وأهليته في إعادة بناء المجتمع وفي إيجاد حالة التوازن بين مكوّناته. والتجربة الأوروبية حاضرة في هذا المجال، فبعد أن خلّفت الحربيين العالميتين مئات الآلاف من القتلى والمعوّقين والأرامل، تغيّرت التركيبة الديمغرافية في المجتمع الأوروبي. كان لا بدّ من قوانين وضعية تيسّر دخول المرأة إلى العمل وتسهّله، وتشجّعها للانخراط في ميادين مهن متعدّدة، وكان لا بدّ من تنظيم الشوارع والأبنية ووسائط النقل والمطاعم والحياة العامة في مجملها لتناسب حركة المعوّقين والعجائز الذين ارتفعت نسبتهم في المجتمع بسبب ظروف الحرب ومخلّفاتها. وكان لا بدّ أيضاً من تطوير النظام الصحيّ ليشمل الخدمات النفسية والنظام التربوي، ليولي عناية أكبر لأطفال المفقودين والأطفال غير الشرعيين. وكان لا بدّ فوق ذلك، من قوانين تتيح تنظيم تشكيل الأسرة، سواء عن طريق الزواج أو غيره من أشكال الشراكات، بما يكفل لها مستوى معيشياً يليق بإنسانيتها.

فهل نجرؤ في سورية، وفي ظلّ المفرزات الاجتماعية للحرب الكونية على يومياتنا، أن نواكب الواقع ونُخرج القوانين الكفيلة بإعادة المجتمع إلى سابق عهده في التوازن؟

لماذا لا ينطلق الحلّ من صميم المشكلة المتمثلة باختلال توازن الأسرة بغياب أحد أفرادها، وهو غالباً الرجل المعيل، وعدم إقبال الزوجة على الزواج مرّةً أخرى لما هنالك من أثمان قاسية، وخسارات يمكن أن يتسبّب بها هذا الزواج؟

لا بدّ من حلّ يعتمد وبشكل أساس على إعادة التوازن إلى الأسرة من خلال استراتيجية وطنية لتشجيع الزواج من زوجات الشهداء، وليكن هذا الزواج واجباً وطنياً قبل أن يكون واجباً دينياً واجتماعياً. هنا لا يُقصد بأيّ حال من الأحوال تشجيع تعدّد الزوجات، أو تشجيع زيادة النسل، إنما تشجيع الشاب الأعزب على الاقتران بأرملة لديها أطفال، من دون الخوف من أعباء الحياة، من خلال جملة قوانين تخفّف من ناحية الأعباء المالية على هذا الشاب، ومن ناحية أخرى تصون حقّ زوجة الشهيد بحضانة أطفالها والاحتفاظ بمرتّب زوجها الشهيد، إضافة إلى الاحتفاظ بالمكرمات والعطاءات الممنوحة إلى حاملة لقب زوجة شهيد، حتى وإن تزوّجت مرّةً أخرى.

الحلول موجودة، والعقول القادرة على الطرح مستعدّة، والواقع يتطلّب… فهل نتسلّح بالجرأة وبإرادة العمل لننطلق قبل فوات الأوان؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى