أمة الجمهورية العربية السورية
يوسف موصللي
مع وصول ما سمّي «الربيع العربي» إلينا، وتكشف ماهيته الأقرب في فعلها ومصدرها لرياح السموم والخماسين، تعالت الأصوات المنددة بالعروبة، وزاد رنين شعار «تحيا سورية» كماً. أقول كماً فقط، بعد إدراكي أن معظم من أخذ يردد هذا الشعار حديثاً كان يعني به ضمناً قومية خاصة بمواطني الجمهورية العربية السورية، وليس القومية الاجتماعية لأبناء سورية الطبيعية.
تجدر الإشارة هنا، أن العروبة بوصفها حالة ثقافية ومحيطاً إقليمياً، لا تتعارض مع سورية القومية الاجتماعية، إنما هي ساحة عملها ووجهتها المنطقية بشرط إتمام الأمة السورية لأسباب نهضتها الداخلية، أما ما يعني به غالبية من المرددين لشعار «تحيا سورية» حديثاً هو قومية مميزة حتى عن أبناء لبنان وفلسطين والأردن والعراق وكل أراضينا المحتلة ضمن حدودنا الطبيعية. بذلك تقوم هذه «القومية» الجديدة على عزل الشام كأحد كيانات الأمة عن أخواتها، الأمر الذي يجعل من الشام كياناً منعزلاً عادياً يفقد دوره المحوري في قلب سورية الطبيعية.
لا شك في أن جغرافية الشام الجامعة بين الساحل والداخل والجزيرة الفراتية، وموقعها المتوسط في سورية الطبيعية، قد أورثها كماً لا بأس به من مقومات الوطن السوري وإن لم تكن تامة، لكن المزاوجة بينها وبين السياسات الاستراتيجية الواقعية مكن الدولة في الشام من تثبيت السيادة بشوط أوسع بكثير عن باقي كيانات الأمة. وبما أن السيادة هي الشرط الأساس لتشكل الوعي للهوية، شعر المواطنون في شكل عام بهوية خاصة قائمة بنفسها غير مستوردة من الغرب ولها تميزها عن العرب وإن كانت بمصلحات عروبية. كما أن ظروف الاحتلال والتبعية للخارج جزئية كانت أم كلية، ساهمت في التفريق المعنوي بين المواطنين في باقي الكيانات وبين المواطنين في الشام، فساد الشعور بأن أبناء كيليكيا أتراك وأبناء الأحواز إيرانيون وأبناء سيناء مصريون، والبادية عرب وقبرص يونان، وأن لبنان غربي والأردن هاشمي وفلسطين بين المهادن والمقاوم الشاعر بتخلي محيطه الشعبي، والعراق إما منعزل بظرف حكمه السياسي ولاحقاً متراجع إلى عصبيات مذهبية وقومية ضيقة التي تشكل أيضاً طبقة أعمق في الوعي المنتشر في بلادنا بكل كياناتها وإن على درجات مختلفة.
إذاً للسياسة في الحكم سواء كانت سيادية أم لا أثرها في المجتمع، فلكل دولة منهاج تاريخ مستقل يُدرّس ويدخل عميقاً في وعي الناس، وتأثير إعلامي يسيطر على أفكارها ومصطلحاتها في ما يتعلق بالهوية، وعوامل تاريخية داخلية مرشحة للتفاقم مع كل تدخل خارجي. لذا لا يمكن أن ننفي وجود فوارق في واقع الحال من دون أن نذهب إلى الاعتقاد الساذج أنه لا بأس من الاعتماد على الأفكار السائدة وإن كانت على خطأ للنهوض بواقعنا، لأن الواقع الطبيعي نفسه يعاكس هذه الأفكار ويؤدي الى فشل أي عمل يراهن عليها، تماماً كما يؤدي إلى نجاح أي عمل مبني عليه.
وقد شهدت الساحة الشامية خلال سنوات الحرب انتشار ما يمكن تسميته «القومية الشامية» على شكل إعلامي وشعبي وحتى سياسي، متمثل بعدد من الحركات والأحزاب الجديدة، وهذه حالة معروفة قائمة على استغلال الظرف القائم لتحصيل أكبر قدر من الإنجاز السياسي، والذي نختلف مع أصحابه على إمكانية صرفه في مجرى الأحداث التاريخية، أي على مستوى تحديد مصيرنا والنهوض الجذري بأحوالنا. لذلك فإن النتيجة العملية لكل هذا المنحى هي الاستمرار في تجهيل الوعي بأفكار وهمية، واستفادة بعض السياسيين من الحماسة الشعبية، والإمعان في وضع العراقيل أمام المشروع القومي السيادي الصحيح المعتمد على حقيقة دائرة الحياة الاقتصادية الاجتماعية في سورية الطبيعية.