محطة جديدة في مسيرة النضال الشعبي اللبناني هيئة التنسيق… شكراً مرّة أخرى
يشكّل الحراك المطلبي النقابي الذي تقوده، بجدارة وصلابة، هيئة التنسيق النقابية واحداً من أبرز محطات النضال الشعبي اللبناني المعاصر الذي كان في كل مرّة ينجح في استيلاد بيئة شعبية لبنانية عابرة للطوائف والمذاهب يتعرض بعدها لانتكاسات تعيد إنتاج الاصطفاف الطائفي من جديد.
من أبرز تلك المحطات كانت تلك المرحلة الممتّدة من مهرجان التفاح في بتخنيه عام 1966، إلى اندلاع الحرب المشؤومة في نيسان 1975.
وقد شهدت تلك المحطة تحركات نقابية وشعبية بارزة تكاملت مع معارك وطنية وقومية مهمة، فأنجزت حركة وطنية جامعة، وقوى شعبية ونقابية رديفة، وبرامج إصلاح سياسي واجتماعي شاملة ما زالت بنودها تتصدّر أي دعوة إصلاحية راهنة، وأبرزها اعتماد النظام النسبي في لبنان دائرة انتخابية واحدة.
في تلك المحطة المهمة، برزت صفحات مضيئة وسالت دماء ذكية، وازدهرت أمال كبيرة بلبنان جديد، منها على سبيل المثال لا الحصر، تظاهرة 23 نيسان 1969، وإضراب عمال غندور 1972، وانتفاضة مزارعي التبغ في 1973، وإضراب المعلمين الشهير الذي أطلق معركة وطنية كبرى في مواجهة الصرف التعسفي لمئات المعلمين لدورهم في الإضراب.
لم تكن تلك الحركات محصورة بحزب واحد، أو طائفة أو مذهب أو منطقة، بل كانت عابرة للطوائف والانتماءات على نحو أحسّ معه لبنانيون كُثر أن بلدهم سيشفى من مرض الطائفية العضال، وأنه إذا سقطت العصبيات في الشارع فهي حتماً ساقطة في النظام والحكم والدولة.
كان الطائفيون ، الظاهرون منهم والمستترون، أكثر دهاء من الشباب الحالم بلبنان آخر، لبنان الوطن والرسالة والمنارة المشعّة من حوله… فنجح هؤلاء في استدراج قوى الحراك الشعبي إلى العسكرة، التي سرعان ما ترتدي لبوس الطائفية والمذهبية وتقضي على براعم المناخ الوحدوي الوطني الوليد.
وبالطبع ما كان ممكناً لهذا الاستدراج أن ينجح لولا تداخل الوطني بالإقليمي، واللبناني بالفلسطيني بالعربي، وهو تداخل موضوعي يصعب التملّص منه، لكنه لم يكن ممكناً أن ينجح أيضاً لولا استعجال البعض لحصاد لم تكن ثماره قد نضجت تماماً، فارتفعت شعارات متطرفة من هنا، ومزايدة من هناك، وحالت انتصارات ميدانية محدودة دون رؤية الأبعاد الجيواستراتيجية الأوسع والأكبر والأخطر للمعركة في لبنان.
وهكذا تمّ وأد تلك المحطة الرائعة من حياة لبنان وحركته الشعبية، ووجدنا على طرفي خنادق الحرب الأهلية فقراء يقاتلون فقراء، فيما قادة هنا وهناك يجمعون الثروات ويبنون القصور من دون أن يسمحوا لأحد أن يسألهم ذلك السؤال الذي بات عمره من عمر الاستقلال: من أين لك هذا؟
المحطة الثانية كانت خلال الحرب نفسها، حيث لم تستسلم القوى الحيّة في المجتمع المدني اللبناني، والحركة النقابية، وذوو الأيدي النظيفة، لمنطق الحرب الأهلية، ولغتها، واصطفافاتها، ومتاريسها، بل بدأت تتجمع جماعات صغيرة متناثرة هنا وهناك، وتطلق مبادرات شجاعة وخلاقة، كمسيرات المعوقين المخترقة لخطوط التماس من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وكحملات التبرع بالدم من كل لبناني إلى كل لبناني، وكالندوات واللقاءات والتجمعات الثقافية التي اجتمعت فيها منتديات وحركات من كل لبنان، وكمتطوعي الجمعيات الأهلية وأبرزهم شباب الدفاع المدني الذين كانوا يسعفون مواطنين جرحى من أجل إسعاف وطن جريح، ويطفئون ناراً في مبنى محترق على طريق إطفاء نيران حرب تلتهم بلدهم.
تراكمت تلك المبادرات حتى وصلت إلى تلك المسيرة التاريخية في حياة لبنان في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 1987، التي قادها الاتحاد العمالي العام وتيار السلم الأهلي ومناهضة التقسيم، والتي تلاقى فيها اللبنانيون من شطري العاصمة على معبر المتحف آنذاك، ليزيلوا بأظافرهم متاريس الرمل التي حاولت مع قوى الحرب أن تجعل من بيروت بيروتين، ومن لبنان لبنانات .
ظنّ أهل السلم الأهلي ومناهضة التقسيم أن اتفاق الطائف بما هو إنهاء للحرب وتشديد على وحدة الوطن سيفتح الطريق واسعاً أمام برنامجهم السلمي التغييري الديمقراطي الذي لم يكن يطمح إلى وقف حرب دائرة بل إلى منع اندلاع حروب جديدة، وإلى تغيير جذري في ثقافة ونظام وعلاقات لا تستطيع إلاّ إعادة إنتاج الحروب.
طبعاً، انقضّ حلف غامض على هذه الانجازات، حلف إذا اختلف أطرافه دفع المواطن ثمناً غالياً، وإذا اتفقوا دفع ثمناً أغلى، على أحلام معشر السلم الأهلي والتغيير الديمقراطي، وأعيد إنتاج نظام الحروب الدائمة بأبشع أشكاله، وباتت الطائفية مذهبية، والمذهبية مناطقية، والمناطق قبائل وعشائر، فلم تعد تجد شعاراً يجتمع اللبنانيون حوله مهما كان جميلاً، ولا قيمة يلتفون حولها مهما كانت سامية، بل بات سهلاً على أصحاب المصالح تطييف أي مطلب محق أو مذهبته، بل وصل الخلاف إلى ما كنا نعتقده قدس أقداسنا، وهو المقاومة، خصوصاً أنها حرّرت الأرض وردعت العدوان ورفعت رأس اللبنانيين عالياً ومعهم كل أبناء أمتهم وأحرار العالم.
ومما لا شك فيه فقد أمسك هذا الحلف الغامض بخناق البلاد، ونهب ما تبقى من مواردها، وأنجب حيتان من الاحتكار العقاري والمصرفي والنفطي و الخدمي والإعلامي أخذت تعبث بحياة اللبنانيين وأبسط متطلبات عيشهم إلى درجة أنها أي الحيتان نجحت مثلاً، وبدقائق في تمرير، وبمادة وحيدة، قانوناً للإيجارات يشرّد أكثر من 150 ألف عائلة في الشارع بذريعة إنصاف مالكين قدامى لا أحد يجادل في ضرورة إنصافهم، ولكن ليس بظلم مئات الآلاف من المستأجرين القدامى وقد بلغ أصغرهم عمر سن التقاعد.
لكن الوعي الموروث من المحطتين السابقتين التي وأدت الحرب أولاهما، ووأد السلم ثانيتهما، شكّل تربة لمحطة ثالثة هي تلك التي يقودها اليوم معلمون وأساتذة جامعيون وموظفون وعسكريون وغيرهم، عبر هيئة التنسيق النقابية، فتحيي اعتصاماتهم وتظاهراتهم الضخمة أعرض الآمال بولادة لبنان الجديد، لا عبر إقرار المطالب العادلة الواردة في سلسلة الرتب والرواتب فحسب، بل أيضاً عبر ولادة علاقات جديدة بين اللبنانيين حيث الأقرب فيها إلى وطنه هو الأكثر خدمة لقضاياه، أياً تكن طائفته أو مذهبه أو منطقته أو انتماؤه.
في هذه المحطة التي يواكبها أيضاً عجز نيابي عن انتخاب رئيس يدرك دارسو التاريخ جيداً أن مرحلة من حياة الأوطان بكل رموزها وشعائرها تهوي، وأن مرحلة جديدة بقيادتها وبرامجها وخطابها تولد.
وكلما تأخر القيمون على أمور البلاد والعباد في تلبية مطالب الناس، والتجاوب مع نداءات جوعهم ووجعهم، كلما ترسّخ بنيان المرحلة الجديدة، وتجاوز خطر الابتلاع كما جرى في حالات سابقة.
لقد قلنا قبل عامين، شكراً لهيئة التنسيق النقابية لأننا كنا نشعر أن ما تقوم به هو أكثر من تحقيق مطالب بل إنقاذ وطن، وها نحن نكرّرها الآن آملين أن تحصّن شجاعتها وصلابتها بأداء متقدّم يستفيد من كل ثغرات التجارب الماضية… ويمنع أي محاولات لاختراقها أو إقامة حواجز بينها وبين عموم الناس، حاضنتها الأساسية ومصدر قوتها.
المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية