ما الذي يحدث في سورية… وما طبيعة الردّ؟
سومر صالح
ما الذي يحدث في سورية؟ سؤال يراود الكثيرين في سورية، حيث ارتبكت الصورة الميدانية في الأسابيع الماضية بين نصر استراتيجي في القلمون يجهض حلم «إسرائيل» في الانقضاض على سورية والمقاومة اللبنانية، وبين تراجع تكتيكي في إدلب والبادية السورية، اختلطت معه الصورة الميدانية قليلاً، فبعيداً عن العواطف في السياسة علينا تقييم الموقف انطلاقاً من جملة من المتغيّرات الدولية التي حدثت في الأسابيع القليلة الماضية، والتي فرضت نفسها في الميدان السوري، لذلك يجب توضيحها وتحليلها، ولكن نستبقها بإعادة تحليل السياسة الأميركية في المنطقة باختصار، فبينما ركزت الولايات المتحدة الأميركية جهودها على نقل محور السياسة الأميركية باتجاه شرق آسيا بما يمنع القوة الصينية من التمدّد وانطلاقاً من ذلك عملت على ضبط إيقاع السياسات الإقليمية وفق رؤية استراتيجية هدفها ضمان الهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط بأقلّ التكاليف السياسية والعسكرية، وضمان أمن «إسرائيل»، وبما يمنع سيطرة المحور الروسي الصيني عليه بما يعزز قدراتهما الاقتصادية والعسكرية ويضع الولايات المتحدة بين فكي الكماشة الروسية الصينية في كلّ من شرق وغرب القارة الأسيوية، فعملت على ضبط التوازنات بين القوى الإقليمية، وخصوصاً السعودية وإيران، فرسمت تلك التوازنات وضبطتها بين اتفاقيتي جنيف الإيرانية و«كامب ديفيد» الخليجية فتعهّدت في الأولى بحق إيران النووي السلمي، وتعهّدت في الثانية بأمن الخليج، وبين هاتين الاتفاقيتين عملت على تحصين أمن «إسرائيل» بين «باتريوت الناتو» المنشور في الجنوب التركي، وبين منظومة مضادة للصواريخ تريد واشنطن نصبها في الخليج، وتركت الولايات المتحدة أمر اليمن رهناً بنتائج هاتين الاتفاقيتين للتأكد من عقلانية الفاعلين الإقليميين وقدرتهما على ضبط تصرفاتهما بانتظار تعديل بنود تلك الاتفاقيتين إذا لزم الأمر.
فالأكيد أنّ الولايات المتحدة تريد توازناً ندّياً يبقيها بيضة القبان في «الشرق الأوسط»، أما بخصوص أمن «إسرائيل» حققت أميركا نصف الهدف بإقامة منظومات الباتريوت والدرع الصاروخية بما يقلل الخطر المحتمل على «إسرائيل»، ليبقى النصف الثاني مرتبطاً بشكل التسوية السياسية في سورية بتفاهم أميركي روسي.
في خضم هذا المسار الأميركي المتعجّل خروجاً من «الشرق الأوسط» لتتفرّغ للقوة الصينية، باغت المحور الصيني الروسي أميركا بجملة من المتغيّرات.
أولاً: الصفعة الصينية المزدوجة للسياسة الأميركية بعد قراءة الصين المتأنية للمخطط الأميركي المعادي لها، وتمثلت بتغيير العقيدة العسكرية للقوات الصينية، حيث نشرت بكين للمرة الأولى «الكتاب الأبيض» بشأن عقيدتها العسكرية، طارحة أولوية القوات البحرية على البرية، وتعزيز قدرتها في مجالي الفضاء الالكتروني والنووي، وتمّت ترجمة هذا التغيّر في الدخول الصيني الروسي إلى مياه المتوسط بما يهدّد التفرّد الأميركي في تلك المياه، ويمكّن الصين من الإفلات من الحصار الأميركي، لأنّ الصين لا تريد المواجهة العسكرية وسباقاً للتسلح مع أميركا، لذلك فضلت موقتاً البقاء تحت يافطة التعاون الثنائي مع روسيا الجديدة. الأمر الثاني اقتحام الصين الاقتصادي لأميركا الجنوبية متمثلة بـ250 مليار دولار للتعاون الاقتصادي مع البرازيل على مراحل أهمها مشروع ربط الهادي بالأطلسي.
ثانياً: إعلان كورية الشمالية تزويد أسلحتها الباليستية برؤوس نووية محدودة بما يضع المخطط الأميركي في الشرق الآسيوي في مستوى استراتيجي عسكري لا ترغب به الولايات المتحدة التي تريده حصاراً اقتصادياً وسياسياً يمنع التمدّد الصيني الروسي في تلك المنطقة، وليس منطلقاً لحرب باردة عنوانها نووي.
ثالثاً: الدخول الإيراني على باب المندب وبحر العرب تحت يافطة مكافحة القرصنة البحرية، بما يفاقم الأزمة الأميركية على مستوى الاستراتيجية البحرية الدولية… استشعرت الولايات المتحدة الأميركية خطر هذه المتغيّرات وعجزها عن تحمّل تبعاتها مع إمكانية خنق السياسة الأميركية في الشرق الأوسط وشرق آسيا إذا ما أضفنا إليها محاولة تشكيل بنك دولي من أعضاء منظمة «بريكس»، ليشكل بديلاً للبنك الدولي، بما يضعف الهيمنة المالية الأميركية على أسواق العالم، فانتصار سورية يعني أميركياً ربط البحر المتوسط بالعراق بإيران والهند وكوريا إلى الصين، مضافاً إليه الحلف الاقتصادي الصيني البرازيلي بما يجهض المخطط الأميركي بتطويق الصين وروسيا، ويهدّد عرش التفرّد الأميركي بالنظام الدولي، ولمنع الانهيار الأميركي مستقبلاً اتبعت الولايات المتحدة الأميركية تكتيكاً جديداً كخلق ميادين اشتباك جديدة في العالم وعلى ما يبدو الساحة البولندية حاضرة لهذا المخطط، ثانياً تقطيع أوصال هذا المحور الجديد، فجرى العمل على مسارين… أولاً تقسيم العراق إلى دويلات ولو بشكل فدرالي واستمرار تقطيع الأوصال السورية، فالأداة الداعشية التركية و«النصروية الوهابية» حاضرة لتنفيذ السيناريو الأميركي فكان الانقضاض على الأنبار والرمادي في العراق وتدمر في سورية، وفتح الفضاء الجغرافي لـ«داعش» من البادية السورية إلى العمق العراقي بتغطية أميركية وإسناد تركي، متزامن مع مشاريع تدريب العشائر «السنية» العراقية والسورية من قبل أميركا وأداتها الأردنية بما يحمل من مخاطر فرض التقسيم مستقبلاً… ولضمان نجاح مخططها تبقى حلب غصة في حلق المخطط الأميركي التركي، وخصوصاً أنّ النوايا التركية في العدوان على حلب حاضرة منذ بداية الأزمة السورية.
هنا علينا التأمّل قليلاً وطرح السؤال التالي: هل يغري مشهد التوسع الداعشي في سورية والعراق مصحوباً بسكون روسي، الحكومة العثمانية على ارتكاب حماقة في الشمال السوري بأحد سيناريوين، كأن تقوم ميلشيات «النصرة» وحلفاؤها تحت اسم «ميليشيا الفتح» بإعلان الحرب على «داعش»، وحينها تقوم طائرات التحالف الدولي بقيادة أميركا بمهمة الإسناد على شاكلة معركة عين العرب، ليبدأ مسلسل انهزام «داعش» الهوليودي وتسيطر تلك الميلشيات على المنطقة الممتدّة من إدلب إلى حدود العراق تحت مظلة التحالف الدولي وتنتقل حكومة اسطنبول العميلة المنبثقة عن مجلسه إلى تلك المنطقة، ويصبح التقسيم السوري جاهزاً على أجندات التفاوض الدولي. والسيناريو الثاني أن تقوم تركيا ودول عربية بتلك المهمة بعملية معاكسة كأن تتوسّع «داعش» باتجاه الشمال انطلاقاً من الرقة السورية باتجاه الحدود التركية فتصبح الذريعة جاهزة للأتراك وبنفس الغطاء الدولي، كلّ شيء في السياسة وارد، ولكن يبقى موقف الحكومة السورية هو ميزان الفصل في عواصف التقسيم الأميركية، فالحكومة السورية تقرأ ما يحدث في الميدان العسكري مؤخراً برؤية جيوبولتيكية إقليمية ودولية، فعلى ما يبدو أنها قرّرت التزام الصمت الموقت إزاء ما يحدث في الميدان السوري، لاستيضاح مواقف ونوايا الحلفاء، وخصوصاً الروس والصينيين، وترك فسحة زمنية للحلفاء لإجهاض السيناريو الأميركي التركي كأن تقوم هذه الدول الثلاث بتشكيل نواة دولية حقيقة لمكافحة «داعش» والإرهاب، تؤمّن معه غطاء جوياً وإسناداً استخبارياً يساند مهمة الجيش السوري على الأرض، ويكون ذاته الحلف ضامناً ضدّ أيّ نوازع عدوانية تركية، فسحة زمنية بدأ عدّها التنازلي، وانطلاقاً من ثوابت الوحدة الجغرافية السورية سيكون الردّ السوري مزلزلاً على أي محاولة لتقسيم سورية ولو بذريعة مكافحة «داعش»، وعلى أي محاولة تركية عربية للدخول العسكري إلى الأراضي السورية بذات الذريعة، أي مكافحة «داعش»، ردّ مزلزل لن تكون طهران والمقاومة اللبنانية إلّا في خضمّه، ردّ سيضع القوى الدولية والحليفة قبل المعادية على حافة الحرب العالمية الثالثة، ويضع الجميع أمام مسؤولياته.
وكي لا يكون الكلام من قبيل الإنشاء الصحافي نقدّم قرائن على تغيّر التكتيك السوري في الحرب على الإرهاب…
أولاً: كان الردّ سابقاً على أيّ عدوان خارجي هو الردّ على أدواته في الداخل، أمّا حالياً الردّ على العدوان سيكون بقطع اليد التي ستمتدّ إلى سورية، خطاب كرّرته الديبلوماسية السورية في مناسبتين ضدّ تركيا والسعودية.
ثانياً: الانسحاب من تدمر وقبله المسطومه كان عنوانه الحفاظ على أرواح المدافعين من الجيش السوري وبإرادة الجيش السوري، بما يعني أنّ الجيش السوري يتهيأ لمعركة أكبر عسكرياً ويستعدّ لها ضدّ من يرسل تلك المجاميع الإرهابية إلى سورية.
ثالثاً: عدم إبداء الحكومة السورية لأيّ حماسة في مسارات سياسية غير جدية على شاكلة وحجم «جنيف2».
رابعاً: حسم معركة القلمون بسرعة وحرفية يضع فرضية الحرب في الشمال في الواجهة مع العدو التركي.
في الختام الشعب السوري مؤمن بقدرة الجيش السوري على هزيمة الغزاة، وإرادة النصر لدى السوريين اكبر من أيّ وقت مضى، فالأزمة السورية على أبواب الحسم ليبقى شكل الحسم مرتبطاً بمواقف القوى الدولية فإما التراجع عن دعم «داعش» والمجاميع الإرهابية والركون إلى مبدأ التفاوض ولجم تركيا أو الحرب التي ستتسع نارها لتنذر بحرب دولية ثالثة.